تنص التقاليد الهندوسية القديمة على أن التخلص من الجثث يتم من خلال حرقها.
تنص التقاليد الهندوسية القديمة على أن التخلص من الجثث يتم من خلال حرقها.

تحظى طقوس التكفين والجنازة والدفن بمكانة مهمة في شتى الأديان والملل. وفيما أكدت الأديان الإبراهيمية -اليهودية والمسيحية والإسلام- أن الدفن في الأرض هو الحل الأمثل لمداراة جثمان الميت، ذهبت الأديان الأخرى لحلول مختلفة، منها الحرق أو الإغراق في الماء أو تقديم الجثمان للطيور الجارحة. نلقي الضوء في هذا المقال على بعض الطقوس المرتبطة بالموت والجنائز. لنعرف كيف اختلف شكلها من مكان لآخر عبر التاريخ.

 

في الهندوسية.. الساتي وحرق جثمان الميت

 

يقترب عدد الهندوس من المليار نسمة. تعيش الأغلبية الغالبة منهم في شبه القارة الهندية، ويؤمنون بمزيج من العقائد والأفكار التي ظهرت على مدار عشرات القرون المتعاقبة. تنص التقاليد الهندوسية القديمة على أن التخلص من الجثث يتم من خلال حرقها. يُنظر إلى النار على كونها العنصر القادر على تطهير الروح من كل ما علق بها من الآثام والشرور. تبعد النساء عن حضور عملية الحرق خوفًا من سيطرة الأرواح الشريرة عليهن! ويقوم الابن الأكبر للمتوفى بإشعال النيران في الحطب الذي يرقد عليه الجثمان.

تتنوع التفاصيل المحيطة بطقس إحراق جثمان الميت عند الهندوس. تأتي عادة الساتي على رأس الممارسات الغريبة المرتبطة بهذا الطقس. اقتبس اسم الساتي من الإلهة ساتي آلهة السعادة الزوجية، وهي زوجة الإله شيفا، إله القسوة والدمار. ورد في الميثولوجيا الهندوسية أن ساتي صاحبت زوجها إلى مثواه الأخير وأُحرقت معه عقب وفاته. بقيت تلك الممارسة قائمة عبر القرون عند بعض الطوائف الهندوسية. ونُظر إليها كدليل على وفاء الزوجة لزوجها.

مراسيم حرق جثمان متوفى هندوسي على حافة أحد الأنهار.

تحدث الرحالة المغربي ابن بطوطة المتوفى 776هـ، في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، عن مشاهدته لبعض طقوس الساتي عند زيارته للهند. يقول ابن بطوطة متحدثًا عن هذا الطقس الغريب: "...وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه، غير واجب، لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفًا بذلك ونسبوا إلى الوفاء، ومن لم تحرق نفسها لبست خشن الثياب، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها، ولكنها لا تكره على إحراق نفسها...". يصف ابن بطوطة بعدها تفاصيل ذلك الطقس فيذكر أنه شاهد مجموعة من الأرامل "جرّدن ما عليهن من ثياب وحليّ فتصدقن به وأتيت كل واحدة منهنّ بثوب قطن خشن غير مخيط فربطت بعضه على وسطها وبعضه على رأسها وكتفيها والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج في موضع منخفض... وقد حجبت النار بملحفة يمسكها الرجال بأيديهم لئلّا يدهشها النظر إليها، فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة نزعتها من أيدي الرجال بعنف، وقالت لهم: أبالنّار تخوفونني؟ أنا أعلم أنها نار محرقة! ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار ورمت بنفسها فيها، وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها، وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلّا تتحرك، وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج، ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لو لا أصحابي تداركوني بالماء، فغسلوا وجهي وانصرفت!". مُنع هذا الطقس في الكثير من الفترات التي حُكمت فيها الهند من قِبل المغول والإنجليز، لكنه ظل يمُارس بشكل سري من قِبل الأهالي الريفيين. صدر في سنة 1987م قانون هندي يجرم هذا الطقس بشكل كامل "بغض النظر عن ادعاء أن الحرق أو الدفن بموافقة من الأرملة أو المرأة".

 

عند السلاف والصقالبة.. الحرق في سفينة وإغراقها

 

عرفت الشعوب الهندو أوروبية القديمة -وهي الشعوب التي يُعتقد أنها هاجرت من الهند إلى شرق أوروبا- مزيجًا مختلفًا من العقائد والأفكار الدينية. مارست تلك الشعوب طقوسًا كثيرة للتخلص من جثامين الموتى. كان الاعتقاد السائد لدى تلك الشعوب أن الميت يجب أن يحظى بالتقدير والاحترام بعد وفاته حتى تُتاح له الفرصة للولوج للجنة المعروفة باسم فالهالا.

دون الرحالة المسلم أحمد بن فضلان تفاصيل بعض تلك الطقوس أثناء زيارته المشهورة لشرق أوروبا في بدايات القرن الرابع الهجري. ذكر الرحالة في كتابه "رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة" أن طقوس التخلص من جثمان المتوفى تختلف بحسب طبقته الاجتماعية، وثرائه، ومنزلته في عشيرته. إذا كان المتوفى فقيرًا، تُصنع له سفينة صغيرة، ويوضع فيها ثم تُحرق. أما إذا كان المتوفى غنياً، فيتم جمع أمواله وثروته أولًا، ويتم تقسيمها لثلاثة أقسام، فيعطى الثلث لأهله، ويشترى بالثلث الثاني الثياب الفخمة التي ستوضع على الجثمان قُبيل حرقه، أما باقي التركة، فيُشترى به النبيذ، ويتم توزيعه على رجال القبيلة الذين سيشاركون في مراسم الجنازة.

يجمع أهل الميت وجواريه، ويتم سؤالهن عمن تريد أن تموت مع سيدها، فإذا ما وافقت إحداهن على ذلك، وجب عليها أن تُقتل في الجنازة، ولا يمكن أن ترجع في الوعد الذي قطعته على نفسها.

عند الفايكنغ، يتم وضع جثمان المتوفى في قارب أو سفينة ويتم حرقها.

يذكر ابن فضلان ما شاهده في جنازة أحد الموتى. يقول إن: الجثمان يوضع في سفينة، وتأتي امرأة عجوز "ضخمة، مكفهرة"، يقال لها "ملك الموت"، ويقوم الرجال بإلباس المتوفى الثياب التي صُنعت له، ثم يجلسونه في مكان مخصص بالسفينة، ويضعون حوله الفاكهة والنبيذ والريحان والخبز واللحم والبصل، وجميع ما كان له من سلاح، وكذلك يلقون بجانبه كلبًا قطعوه إلى نصفين، ومجموعة من الدواب والأبقار والدجاج أيضًا. تأتي الجارية التي كُتب عليها الموت مع سيدها، ويبدأ رجال القبيلة في معاشرتها جنسيًا واحدًا بعد آخر، وبعد أن ينتهي كل واحد منهم من مهمته، يقول لها: "قولي لمولاك، إنما فعلت هذا من محبتك". يذكر ابن فضلان أن الجارية تدخل إلى السفينة، وتسقيها المرأة العجوز النبيذ حتى يذهب وعيها، وتبدأ في الغناء، في الوقت الذي يتعالى فيه وقع طرقات سيوف الرجال على تروسهم. يُقصد من الطرق التغطية على صوت الجارية المنتحب والذي يتصاعد شيئًا فشيئًا مع إحساس صاحبته بقرب لحظة وفاتها.

يورد الرحالة العربي اللحظة الختامية لتلك الطقوس الغريبة. تحين تلك اللحظة عندما تدخل "ملك الموت" مع ستة من الرجال الأشداء إلى السفينة، ليقوموا بتقييد الجارية، وخنقها بحبل مربوط في عنقها، بينما تقوم العجوز بطعنها بالخنجر بين ضلوعها، حتى تموت، وبعدها يتم إحراق السفينة، بما احتوت عليه من جثامين. أشار ابن فضلان للمناقشة التي دارت بينه وبين أحد الصقالبة الذين حضروا تلك الطقوس. أظهر الرجل تعجبه من قيام العرب بدفن موتاهم، وانتظارهم خروج الدود منها وأكل لحمها، وهي الطريقة التي وصفها الصقلبي بالغريبة، وفضل عليها الطريقة التي اعتاد عليها الصقالبة، لكونها تنقل المتوفى في دقيقة واحدة إلى الجنة، دون المزيد من العذاب أو الإهانة!

 

في المندائية.. الغسل قبل الموت

 

يعيش الصابئة المندائيون في العراق. يسكن معظمهم حول الأنهار، ويعتقدون بأن ديانتهم هي أولى الديانات التوحيدية على الإطلاق. يؤمن المندائيون بأدم أبي البشر، الذي كان أول من اصطبغ/ تم تعميده على يد الملائكة في عالم الأنوار. يعتقد المندائيون بمجموعة من الشخصيات المقدسة التي تحظى بمكانة رفيعة. يُعدّ كل من أدم، وشيث، ونوح، وسام بن نوح، وإدريس/ دنانوخت، أهم هؤلاء الشخصيات. ويؤمن المندائيون أيضا بأن يحيى بن زكريا هو آخر الأنبياء.

يحظى الموت بطقوس مهمة في الدين المندائي. تتحدث الليدي دراوور بشيء من التفصيل عن تلك الطقوس في كتابها "الصابئة المندائيون". تذكر دراوور أن طقوس الاستعداد للموت في المندائية تبدأ قبل وقوع الوفاة. يُجهز الشخص لتلك الطقوس في ساعاته الأخيرة. يأتي الكاهن المندائي بكمية من مياه النهر ويغسل جسد المحتضر لثلاث مرات متعاقبة بعد تجريده من ثيابه. يلبس المريض بعدها ثيابًا جديدة ويُرفع فوق سرير نظيف، ويوجه رأسه ناحية النجم القطبي والذي يعتقد المندائيون أنه الجهة التي تؤدي لعالم الأنوار. لا يُسمح بغسل الجثمان بعد أن تفارقه الروح. عندما يموت أحد المندائيين بشكل مفاجئ، تتلى على جثمانه بعض الصلوات والأدعية لتكون بديلة عن الغسل بالماء.

تذكر دراوور أن الميت يُترك في الحجرة التي مات فيها لمدة ثلاث ساعات على الأقل قبل دفنه. ويحرص أهله في تلك الفترة على أن يظل النور -نور الشمس أو الشموع- موجودًا في الحجرة.

لا يُسمح بمسير النساء وراء الجنازة، والسبب في ذلك هو الخوف من عدم طهارة إحداهن لأن ذلك سيلحق الضرر بروح الميت!. بعد الدفن يتم إحاطة القبر بالطين من جهاته الأربع. يقوم المشرف على الدفن بختم الطين بخاتم السكين دولا -وهو خاتم يحمل نقوشا للأسد والعقرب والنحلة والأفعى- ويُعتقد أن تلك النقوش تحمي روح المتوفى من الكائنات الشريرة. يُزال الطين بعد ثلاث أيام لأن الروح تكون صعدت إلى عالم الأنوار.

 

في الزرادشتية.. إلقاء الجثمان للطيور الجارحة

 

 

خصص الباحث السوري فراس السواح قسمًا من كتابه "موسوعة تاريخ الأديان" لتناول الديانة الزرادشتية التي يتواجد معتنقوها الآن في إيران والهند. يذكر السواح بعض السمات التي تميز الزرادشتيين في الملبس. منها ارتداء الحزام المقدس "كوستي"، والذي يتكون من 72 خيطًا مصنوعا من صوف الخروف الأبيض، وتشير عدد خيوطه إلى فصول "الياسنا"، وهي أهم أجزاء الأفيستا، الكتاب المقدس في الزرادشتية. يرتدي الزرادشتيون أيضًا القميص الأبيض الذي يُعرف باسم "السادري"، والذي يرمز للدين الزرادشتي نفسه. يؤدي الزرادشتيون الصلاة في خمس أوقات كل يوم. ويمارسون احتفالات خاصة في الأحداث المهمة في الحياة، ومنها الولادة وسن البلوغ والزواج والحمل والموت.

تاريخيا، يمارس الزرادشتيون طقوس الموت بطريقة غريبة إلى حد بعيد. لا يدفن الزرادشتيون جثامين الموتى في الأرض كأتباع الأديان الإبراهيمية. ولا يحرقونها كما يفعل الهندوس. يقومون بنقل جثامين الموتى إلى أبراج دائرية مقامة في الهضاب العالية في الصحراء، وهي التي تُعرف باسم أبراج الصمت أو "الداخما". يذكر السواح في كتابه أن جثمان المتوفى يُغسل ببول الثور!، ثم يوضع على ثياب بيضاء ليلقي عليه الناس نظرة الوداع. يكون هناك كلب بالقرب من الجثمان لطرد الأرواح الشريرة التي تريد الاقتراب من المتوفى.

يُنقل الجثمان بعد ذلك للداخما، ويُقرأ عليه مجموعة من الصلوات المخصوصة، ثم تزال الأثواب من على الجثمان، ويُترك للنسور والطيور الجارحة التي تلتهم الجثة، حتى إذا ما بقي منها العظام، فإنه يتم جمعها وتُلقى في حفرة واسعة موجودة في وسط البرج. يفسر الزرادشتيون تلك الطقوس الغريبة، بأنها تتماشى مع الاعتقاد بأن جثمان الميت هو مسكن الشيطان، وأنه إذا ما دُفنت الجثة أو أُحرقت، فأنها سوف تلوث عناصر الطبيعة.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".