Théodore Chassériau, (1819–1856) Ali-Ben-Hamet, Caliph of Constantine and Chief of the Haractas, followed by his Escort, c. 1845

عرف التاريخ الإسلامي ارتباطًا وثيقًا بين الدين والسياسة. يبرهن السلطان/الخليفة على أحقيته في الحكم من خلال عمله المستمر على تنفيذ الحدود و"جهاده" المتواصل "ضد أعداء الدين". على الجهة المقابلة، لعب العلماء أدوارًا مهمة في توجيه دفة السياسة والسلطة.

في هذا المقال نلقي الضوء على قصص البعض من مشاهير الفقهاء المسلمين الذين تمكنوا، بدرجة ما، من فرض سيطرتهم على تلاميذهم من الخلفاء والملوك، فغيروا بذلك من شكل الدول والمجتمعات التي عاشوا فيها.

 

في الدولة الأموية.. عمر المقصوص والجعد بن درهم

 

تتحدث المصادر التاريخية عن اثنين من الفقهاء الذين أسهموا بشكل كبير في التأثير على الخلافة الأموية. كان أولهما هو عمر المقصوص، أما الثاني فكان الجعد بن درهم.

يؤكد المؤرخون أن عمر المقصوص كان أستاذًا للخليفة الأموي الثالث معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، والذي لم يتول منصب الخلافة إلا لفترة قصيرة قبل أن يعتزل السياسة والحكم. تحدث الكثير من المؤرخين عن سبب اعتزال معاوية الثاني للحكم وميله للعلويين، فعزوا ذلك إلى أستاذه ومؤدبه عمر المقصوص.

يقول ابن العبري المتوفى 685هـ في كتابه "تاريخ مختصر الدول": "...وكان -أي معاوية بن يزيد- قدريّا لأن عمر المقصوص كان علمه ذلك فدان به وتحققه. فلما بايعه الناس قال للمقصوص: ما ترى. قال: إما أن تعتدل أو تعتزل...".

عارضت بعض الروايات هذا الرأي، عندما نسبت توجهات معاوية الثاني إلى معتقداته الشخصية التي لم تتأثر بميول أستاذه. من ذلك ما روي عن عمر المقصوص نفسه، أنه رد على بني أمية الذين اتهموه بإفساد معاوية الثاني، بقوله: "لا واللهِ، وإنّه لمطبوعٌ عليهِ، واللهِ ما حلفَ قطّ إلّا بمحمّدٍ وآلِ محمّد، وما رأيتُه أفردَ -يقصد الحلف بالنبي فقط دونًا عن أهله- منذُ عرفته"، وذلك بحسب ما يذكر شمس الدين الدمشقي المتوفى 871ه في "جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب".

يذكر ابن العبري أخبار النهاية المؤسفة التي تعرض لها عمر المقصوص. قام بنو أمية بقتله بعدما حملوه مسؤولية اعتزال معاوية بن يزيد للخلافة. يقول ابن العبري إنهم "طمروه ودفنوه حيّا". يؤيد تلك الرواية أن اسم عمر المقصوص لم يرد على الإطلاق في أي من المصادر التاريخية بعد انتهاء فترة حكم معاوية.

كان الأستاذ الثاني لخلفاء الدولة الأموية هو الجعد بن درهم. ترجع أصول الجعد لخراسان، وعاش فترة طويلة في بلاد الشام، ويعدّه الكثيرون الأب الروحي للمعتزلة. تذكر المصادر التاريخية أن الأمير الأموي محمد بن مروان أُعجب بالجعد فاختاره ليكون معلمًا لابنه مروان. يذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" في سياق ترجمته للأمير مروان بن محمد -والذي سيصبح آخر خلفاء الدولة الأموية فيما بعد- أن مروان كان يُلقب بالجعدي "لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك…".

أثر تعليم الجعد كثيرًا في شخصية مروان بن محمد. كان آخر خلفاء بني أمية من القائلين بخلق القرآن كأستاذه. يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أن بني أمية انتقموا بشكل قاس من الجعد سنة 105هـ. يحكي ابن كثير أن والي العراق خالد بن عبد الله القسري قتله في عيد الأضحى، وأنه خطب في الناس فقال: "أَيُّهَا الناس ضحوا يقبل اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فذبحه في أصل المنبر".

 

الشيخ المفيد والدولة البويهية

 

عُرف أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان -المشهور بالشيخ المفيد- المتوفى 413هـ بكونه واحدًا من أشهر علماء الشيعة على مر القرون. ينقل ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ في كتابه "لسان الميزان" عن بعض المؤرخين الشيعة قولهم في وصف المفيد "كان كثير التقشف والتخشع والإكباب على العلم، تخرج على جماعة، وبرع في مقالة الإمامية حتى يقال: له على كل إمام منة…".

عاش الشيخ المفيد في عصر الدولة البويهية. كان البويهيون من الفرس الذين اعتنقوا التشيع، وتمكنوا من فرض سيطرتهم الكاملة على الخلفاء العباسيين في بغداد. تزامنت فترة سطوع نجم الشيخ المفيد مع حكم السلطان عضد الدولة بن بويه والذي تمكن من توحيد بلاد فارس والعراق تحت حكمه.

تؤكد المصادر التاريخية أن عضد الدولة كان تلميذًا عند الشيخ المفيد. كان السلطان البويهي يطلب من المفيد الدعاء والنصيحة والمشورة. وكان يقبل منه الشفاعة ولا يرد له طلب. يذكر ابن حجر "ويقال إن: عضد الدولة كان يزوره -أي يزور الشيخ المفيد- في داره ويعوده إذا مرض".

تسببت العلاقة القوية بين الشيخ والسلطان في السماح بممارسة الكثير من الطقوس والشعائر الشيعية في العراق وإيران. تمكن الشيعة للمرة الأولى في تاريخهم من استعادة ذكرى مذبحة كربلاء، واحتفلوا بعيد الغدير في الثامن عشر من ذي الحجة. دفع ذلك بعض الباحثين للتأكيد على أن الشيخ المفيد تمكن من خلال علاقته القوية بالسلطة البويهية من صبغها بالصبغة الشيعية الإمامية.

 

قطب الدين مسعود وصلاح الدين الأيوبي

 

تحدث شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" عن العالم الشافعي الأشعري قطب الدين مسعود النيسابوري، فذكر أنه قد ولد في سنة 505هـ، وأنه "تأدب على أبيه، وبرع، وتقدم، وأفتى، ووعظ في أيام مشايخه، ودرس بنظامية نيسابور نيابةً، وصار من فحول المناظرين، وبلغ رتبة الإمامة...انفصل إلى حلب، فولي تدريس المدرستين اللتين أنشأهما نور الدين وأسد الدين، ثم سار إلى همذان، ودرس بها مدة، ثم عاد إلى دمشق، ودرس بالغزالية -المدرسة التي كان الغزالي يدرس فيها- ثانيًا، وتفقه به الأصحاب. وكان حسن الأخلاق، متوددًا، قليل التصنع".

يذكر الذهبي أن بعض ملوك الشام تتلمذوا على يد قطب الدين "...قيل: إنه -أي قطب الدين- وعظ بدمشق، وطلب من الملك نور الدين أن يحضر مجلسه، فحضره، فأخذ يعظه، ويناديه: يا محمود...". التقى قطب الدين في تلك الفترة بصلاح الدين يوسف بن أيوب. كان صلاح الدين يخدم نور الدين محمود حاكم حلب في ذلك الوقت. تؤكد المصادر التاريخية أن صلاح الدين قد تأثر كثيرًا بقطب الدين، وأنه تلقى عليه مبادئ المذهب الأشعري. تسبب ذلك في نتائج مهمة جدًا في مستقبل صلاح الدين. يبيّن تقي الدين المقريزي المتوفى 845هـ في كتابه "المواعظ والاعتبار" بعض تلك النتائج، فيقول: "لمّا ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني، على هذا المذهب -يقصد المذهب الأشعري- قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفّظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك -يقصد المماليك-". يعني ذلك أن إقبال صلاح الدين على تعلم العقيدة الأشعرية على يد أستاذه قطب الدين تسبب -بشكل غير مباشر- في غلبة تلك العقيدة على مصر لقرون!

 

في الدولة المملوكية.. خضر العدوي ونصر المنبجي

 

اشتهر أمر الصوفية والتصوف في الدولة المملوكية. كان الكثير من السلاطين المماليك تلقوا تعليمهم على يد كبار الصوفية. سنسلط الضوء هنا على أستاذين من كبار الصوفية في بدايات العصر المملوكي، وهما الشيخ خضر العدوي والشيخ نصر المنبجي.

عُرف الشيخ خضر العدوي بكونه أكثر رجال الدين قربًا من السلطان ركن الدين بيبرس، المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية. يحكي ابن كثير عن مكانة العدوي عند بيبرس، فيقول: "كان حظيًا عنده مكرمًا لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعًا يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالًا كثيرًا ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئًا كثيرًا جدًا، وكان معظمًا عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له، وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة…".

عرفت الدولة المملوكية المقام نفسه للشيخ نصر المنبجي. كان المنبجي أستاذًا للأمير بيبرس الجاشنكير. يذكر المؤرخون أن الجاشنكير كان يدير دولة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ثم تمكن بعد فترة من الاستبداد بالحكم وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد.

كان نصر المنبجي من أكبر المؤيدين للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. ولمّا قام الفقيه ابن تيمية بانتقاد أفكار ابن عربي، فإن المنبجي حرض السلطان على التصدي له وقمعه.

يحكي ابن حجر العسقلاني تلك القصة في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" فيقول: "...وكان من أعظم القائمين عليه -يقصد الجاشنكير- الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتابًا يعاتبه على ذلك. فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظمه…".

يذكر ابن كثير أن ابن تيمية تعرض للحبس في مصر، وأن الكثير من العلماء هاجموه ووجهوا له الانتقادات اللاذعة بتحريض من نصر المنبجي. يمكن القول إن شيوخ الصوفية الذين اقتربوا من دوائر السلطة في العصر المملوكي تمكنوا من نشر التصوف بين العامة والخاصة، حتى عُرف العصر المملوكي على كونه العصر الذهبي للتصوف في الإسلام.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".