عرف التاريخ الإسلامي ارتباطًا وثيقًا بين الدين والسياسة. يبرهن السلطان/الخليفة على أحقيته في الحكم من خلال عمله المستمر على تنفيذ الحدود و"جهاده" المتواصل "ضد أعداء الدين". على الجهة المقابلة، لعب العلماء أدوارًا مهمة في توجيه دفة السياسة والسلطة.
في هذا المقال نلقي الضوء على قصص البعض من مشاهير الفقهاء المسلمين الذين تمكنوا، بدرجة ما، من فرض سيطرتهم على تلاميذهم من الخلفاء والملوك، فغيروا بذلك من شكل الدول والمجتمعات التي عاشوا فيها.
في الدولة الأموية.. عمر المقصوص والجعد بن درهم
تتحدث المصادر التاريخية عن اثنين من الفقهاء الذين أسهموا بشكل كبير في التأثير على الخلافة الأموية. كان أولهما هو عمر المقصوص، أما الثاني فكان الجعد بن درهم.
يؤكد المؤرخون أن عمر المقصوص كان أستاذًا للخليفة الأموي الثالث معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، والذي لم يتول منصب الخلافة إلا لفترة قصيرة قبل أن يعتزل السياسة والحكم. تحدث الكثير من المؤرخين عن سبب اعتزال معاوية الثاني للحكم وميله للعلويين، فعزوا ذلك إلى أستاذه ومؤدبه عمر المقصوص.
يقول ابن العبري المتوفى 685هـ في كتابه "تاريخ مختصر الدول": "...وكان -أي معاوية بن يزيد- قدريّا لأن عمر المقصوص كان علمه ذلك فدان به وتحققه. فلما بايعه الناس قال للمقصوص: ما ترى. قال: إما أن تعتدل أو تعتزل...".

عارضت بعض الروايات هذا الرأي، عندما نسبت توجهات معاوية الثاني إلى معتقداته الشخصية التي لم تتأثر بميول أستاذه. من ذلك ما روي عن عمر المقصوص نفسه، أنه رد على بني أمية الذين اتهموه بإفساد معاوية الثاني، بقوله: "لا واللهِ، وإنّه لمطبوعٌ عليهِ، واللهِ ما حلفَ قطّ إلّا بمحمّدٍ وآلِ محمّد، وما رأيتُه أفردَ -يقصد الحلف بالنبي فقط دونًا عن أهله- منذُ عرفته"، وذلك بحسب ما يذكر شمس الدين الدمشقي المتوفى 871ه في "جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب".
يذكر ابن العبري أخبار النهاية المؤسفة التي تعرض لها عمر المقصوص. قام بنو أمية بقتله بعدما حملوه مسؤولية اعتزال معاوية بن يزيد للخلافة. يقول ابن العبري إنهم "طمروه ودفنوه حيّا". يؤيد تلك الرواية أن اسم عمر المقصوص لم يرد على الإطلاق في أي من المصادر التاريخية بعد انتهاء فترة حكم معاوية.
كان الأستاذ الثاني لخلفاء الدولة الأموية هو الجعد بن درهم. ترجع أصول الجعد لخراسان، وعاش فترة طويلة في بلاد الشام، ويعدّه الكثيرون الأب الروحي للمعتزلة. تذكر المصادر التاريخية أن الأمير الأموي محمد بن مروان أُعجب بالجعد فاختاره ليكون معلمًا لابنه مروان. يذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" في سياق ترجمته للأمير مروان بن محمد -والذي سيصبح آخر خلفاء الدولة الأموية فيما بعد- أن مروان كان يُلقب بالجعدي "لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك…".
أثر تعليم الجعد كثيرًا في شخصية مروان بن محمد. كان آخر خلفاء بني أمية من القائلين بخلق القرآن كأستاذه. يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أن بني أمية انتقموا بشكل قاس من الجعد سنة 105هـ. يحكي ابن كثير أن والي العراق خالد بن عبد الله القسري قتله في عيد الأضحى، وأنه خطب في الناس فقال: "أَيُّهَا الناس ضحوا يقبل اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فذبحه في أصل المنبر".
الشيخ المفيد والدولة البويهية
عُرف أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان -المشهور بالشيخ المفيد- المتوفى 413هـ بكونه واحدًا من أشهر علماء الشيعة على مر القرون. ينقل ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ في كتابه "لسان الميزان" عن بعض المؤرخين الشيعة قولهم في وصف المفيد "كان كثير التقشف والتخشع والإكباب على العلم، تخرج على جماعة، وبرع في مقالة الإمامية حتى يقال: له على كل إمام منة…".
عاش الشيخ المفيد في عصر الدولة البويهية. كان البويهيون من الفرس الذين اعتنقوا التشيع، وتمكنوا من فرض سيطرتهم الكاملة على الخلفاء العباسيين في بغداد. تزامنت فترة سطوع نجم الشيخ المفيد مع حكم السلطان عضد الدولة بن بويه والذي تمكن من توحيد بلاد فارس والعراق تحت حكمه.
تؤكد المصادر التاريخية أن عضد الدولة كان تلميذًا عند الشيخ المفيد. كان السلطان البويهي يطلب من المفيد الدعاء والنصيحة والمشورة. وكان يقبل منه الشفاعة ولا يرد له طلب. يذكر ابن حجر "ويقال إن: عضد الدولة كان يزوره -أي يزور الشيخ المفيد- في داره ويعوده إذا مرض".
تسببت العلاقة القوية بين الشيخ والسلطان في السماح بممارسة الكثير من الطقوس والشعائر الشيعية في العراق وإيران. تمكن الشيعة للمرة الأولى في تاريخهم من استعادة ذكرى مذبحة كربلاء، واحتفلوا بعيد الغدير في الثامن عشر من ذي الحجة. دفع ذلك بعض الباحثين للتأكيد على أن الشيخ المفيد تمكن من خلال علاقته القوية بالسلطة البويهية من صبغها بالصبغة الشيعية الإمامية.
قطب الدين مسعود وصلاح الدين الأيوبي
تحدث شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" عن العالم الشافعي الأشعري قطب الدين مسعود النيسابوري، فذكر أنه قد ولد في سنة 505هـ، وأنه "تأدب على أبيه، وبرع، وتقدم، وأفتى، ووعظ في أيام مشايخه، ودرس بنظامية نيسابور نيابةً، وصار من فحول المناظرين، وبلغ رتبة الإمامة...انفصل إلى حلب، فولي تدريس المدرستين اللتين أنشأهما نور الدين وأسد الدين، ثم سار إلى همذان، ودرس بها مدة، ثم عاد إلى دمشق، ودرس بالغزالية -المدرسة التي كان الغزالي يدرس فيها- ثانيًا، وتفقه به الأصحاب. وكان حسن الأخلاق، متوددًا، قليل التصنع".

يذكر الذهبي أن بعض ملوك الشام تتلمذوا على يد قطب الدين "...قيل: إنه -أي قطب الدين- وعظ بدمشق، وطلب من الملك نور الدين أن يحضر مجلسه، فحضره، فأخذ يعظه، ويناديه: يا محمود...". التقى قطب الدين في تلك الفترة بصلاح الدين يوسف بن أيوب. كان صلاح الدين يخدم نور الدين محمود حاكم حلب في ذلك الوقت. تؤكد المصادر التاريخية أن صلاح الدين قد تأثر كثيرًا بقطب الدين، وأنه تلقى عليه مبادئ المذهب الأشعري. تسبب ذلك في نتائج مهمة جدًا في مستقبل صلاح الدين. يبيّن تقي الدين المقريزي المتوفى 845هـ في كتابه "المواعظ والاعتبار" بعض تلك النتائج، فيقول: "لمّا ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني، على هذا المذهب -يقصد المذهب الأشعري- قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفّظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك -يقصد المماليك-". يعني ذلك أن إقبال صلاح الدين على تعلم العقيدة الأشعرية على يد أستاذه قطب الدين تسبب -بشكل غير مباشر- في غلبة تلك العقيدة على مصر لقرون!
في الدولة المملوكية.. خضر العدوي ونصر المنبجي
اشتهر أمر الصوفية والتصوف في الدولة المملوكية. كان الكثير من السلاطين المماليك تلقوا تعليمهم على يد كبار الصوفية. سنسلط الضوء هنا على أستاذين من كبار الصوفية في بدايات العصر المملوكي، وهما الشيخ خضر العدوي والشيخ نصر المنبجي.
عُرف الشيخ خضر العدوي بكونه أكثر رجال الدين قربًا من السلطان ركن الدين بيبرس، المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية. يحكي ابن كثير عن مكانة العدوي عند بيبرس، فيقول: "كان حظيًا عنده مكرمًا لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعًا يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالًا كثيرًا ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئًا كثيرًا جدًا، وكان معظمًا عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له، وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة…".
عرفت الدولة المملوكية المقام نفسه للشيخ نصر المنبجي. كان المنبجي أستاذًا للأمير بيبرس الجاشنكير. يذكر المؤرخون أن الجاشنكير كان يدير دولة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ثم تمكن بعد فترة من الاستبداد بالحكم وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد.

كان نصر المنبجي من أكبر المؤيدين للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. ولمّا قام الفقيه ابن تيمية بانتقاد أفكار ابن عربي، فإن المنبجي حرض السلطان على التصدي له وقمعه.
يحكي ابن حجر العسقلاني تلك القصة في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" فيقول: "...وكان من أعظم القائمين عليه -يقصد الجاشنكير- الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتابًا يعاتبه على ذلك. فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظمه…".
يذكر ابن كثير أن ابن تيمية تعرض للحبس في مصر، وأن الكثير من العلماء هاجموه ووجهوا له الانتقادات اللاذعة بتحريض من نصر المنبجي. يمكن القول إن شيوخ الصوفية الذين اقتربوا من دوائر السلطة في العصر المملوكي تمكنوا من نشر التصوف بين العامة والخاصة، حتى عُرف العصر المملوكي على كونه العصر الذهبي للتصوف في الإسلام.