تأسست جمعية "حرس الاستقلال" في فبراير 1919 للمطالبة باستقلال العراق عن الانتداب البريطاني.
تأسست جمعية "حرس الاستقلال" في فبراير 1919 للمطالبة باستقلال العراق عن الانتداب البريطاني.

مع بداية القرن العشرين كانت الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط توشك على الانفجار. فمن ناحية وصلت الأوضاع داخل الدولة العثمانية إلى أسوأ أوضاعها بعدما اتبعت نهجًا تركيًا متطرفًا همش العرب في المناصب الهامة ليس فقط في الجيش التُركي وإنما داخل حكومات بلادهم نفسها.

كذلك، شمّرت الدول الأوروبية عن سواعدها لتقسيم المنطقة عقب انتصارها على "الدولة العليّة" في الحرب العالمية الأولى. وهو الانتصار الذي أضعف العثمانيين كثيرًا ومكّن الإنجليز والفرنسيين من إتمام عملية تقاسم البلاد العربية فيما بينهما.

وبين هذا وذلك، اجتهد عددٌ من السياسيين العرب في محاولة النجاة من الوضع المتأزم الذي عاشوه في ظل الحُكم العثماني الضعيف والأطماع الأوروبية المُعلنة، فبدأوا في تشكيل عددٍ من الجمعيات السياسية السرية، أبرزها "جمعية العهد العربية" و"جمعية حراس الاستقلال".

حققت الجمعيتان معا نجاحًا ملفتا داخل العراق ونالتا شيئًا ليس بالقليل من الحظوة السياسية، وهو ما أشعل التنافس بينهما الذي كان في صالح القضية العراقية. فنشاط "حراس الاستقلال" ساهم بشدة في تزكية روح الوطنية العراقية، وكذا إشعال الثورات الرافضة للهيمنة البريطانية، فما قصة تلك الجمعية؟ كيف نشأت؟ وما مدى أهمية دورها في التاريخ العراقي؟

 

الأجواء السياسية داخل العراق

 

في عام 1914م هبطت القوات الإنجليزية جنوب العراق، وسريعًا دخلت في اشتباكات متصلة مع الجيوش العثمانية انتهت بدخول البريطانيين بغداد إلى عام 1917م.

رفض العراقيون هذا الاحتلال، وتطوّع بعضهم بالانضمام لصفوف العثمانيين. لكن عقب الفشل في الدفاع عن العاصمة، تعامل أهل البلاد مع الاحتلال الجديد كأمر واقع، خاصة بعدما أعلن أنه جاء لتخليص العراق من العثمانيين ولا يطمع في احتلاله من جديد، وهو الواقع الجديد الذي اضطر العراقيون للتعامل معه على أمل أن يصدق البريطانيون وعدهم، لكن هذا لم يتحقق أبدًا.

وفي 10 مايو عام 1920م، أعلنت قوة الاحتلال البريطاني قرار مؤتمر سان ريمو القاضي بفرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، تنفيذًا لما جاء في المادة 94 من معاهدة سيفر.

وبرغم أن مفهوم الانتداب الذي تبنّته الأمم المتحدة نصَّ على تقديم الأمم المنتصرة في الحرب "المساعدة" للشعوب التابعة للدول المهزومة على بناء دولتها بشكلٍ عصري، فإن الإنجليز -ومثلهم فعل الفرنسيون في سوريا ولبنان- فرضوا أنفسهم على بلاد العراق كقوة احتلال ينتشر جنودها في البلاد ويفرضون كلمتهم وسيطرتهم على صانع القرار العراقي مهما علا شأنه.

 

"حرس الاستقلال" تتأسس

 

عند تأسيس جمعية "العهد" السياسية –المنافس اللدود لجمعية "حرس الاستقلال"- حقّقت نجاحًا ميدانيًا كبيرًا بسبب مشاركة ضباطها في تفجير الثورة العربية ضد الأتراك في الحجاز، وفي تنصيب الملك فيصل بن الحسين ملكًا على سوريا لفترة وجيزة بعدما رفضت فرنسا الاعتراف بدولته وأنهتها بالقوة عام 1920م.

أُخذ على "العهد" حينها أنها كانت ذات طابع قومي واسع الأطياف والأهداف، حتى إن مؤسسها الأول كان الضابط الشهير عزيز المصري ومقرها الرئيسي كان في دمشق، فيما استضافت بغداد والموصل مقرّين فرعيين لم تتوقف الخلافات بينهما.

بحسب عبد الرزّاق الحسني في كتابه "الثورة العراقية الكُبرى"، فإن هذا النهج السياسي "العربي الواسع" لم يرق لعددٍ من السياسيين العراقيين الذين جعلوا قضيتهم الوطنية القطرية هدفًا أساسيًّا، فقرّروا تشكيل جمعية سياسية تأخذ على عاتقها "إنقاذ البلاد من براثين الاحتلال البريطاني، وتُعيد للكرامة العراقية مقامها".

وفي نهاية فبراير 1919م ألّف عشرة أفراد جمعيتهم السياسية الخاصة التي منحوها اسم "حرس الاستقلال"، وهم: جلال بابان، شاكر محمود المرافق، محمود رامز، عارف حكمة، حسين شلاش، سعيد حقّي، عبد المجيد يوسف، عبداللطيف حميّد، الحاج محيي الدين السهروردي، علي وأفندي.

لاحقًا، انضمّ إلى الجمعية 4 من أبرز أعضائها، وهم: محمد الصدر وهو عالم شيعي بارز، يوسف السويدي شيخ سُني بارز، علي البرزكان ومحمد جعفر أبو التيمان وكلاهما مدنيان سُنيان.

سريعًا، أصبحت الجمعية قِبلة لكل "الوطنيين المتطرفين" –بحسب الوصف الإنجليزي لكل الرافضين بقبول الهيمنة البريطانية على العراق حينها- الذين يُنادون بضرورة تركيز الاهتمام على العراق دون الغوص في باقي القضايا العربية، وينادون أيضًا بتحرّر العراق من التبعية لأي دولة عُظمى.

وبسبب كثرة أعضائها، قرّر مجلس إدارة الجمعية وضع منهاج أساسي تشكّل من العديد من المواد التنظيمية أهمها أن الجمعية تسعى لـ"استقلال البلاد استقلالاُ مُطلقًا"، وأنها تسعى لإقامة ملكية دستورية ديمقراطية يرأسها أحد أبناء الملك حسين، وهو المطلب الذي شاركتها فيه العديد من الجمعيات السياسية العراقية. وجرى أيضا تأسيس فروع مختلفة للجمعية في الكاظمية والنجف والحلّة والشامية وغيرها من حواضر العراق.

يقول محمد جواد في كتابه "شيعة العراق وبناء الوطن": "نجحت جمعية الحراس أكثر من العهد، لأنها قُطرية تحمل همَّ العراق، وقراراتها سريعة لأن لجنتها المركزية في العراق، على عكس العهد التي كانت مجرد فرع يتبع المركز العام في الشام".

 

كيف عملت الجمعية في العراق؟

 

كانت السرية أساس عمل "حراس الاستقلال". وتجنّب إثارة شبهات السُلطات البريطانية حول نشاطها، قامت بتأسيس مدرسة أهلية منحتها اسم "مدرسة التفيض الأهلية" بهدف معلن هو تعليم أبناء العراق، لكنها في الحقيقة سعت لاتخاذها مقرًّا لعقد اجتماعاتها وأيضًا غرس برامجها السياسية في نفوس النشأ العراقي.

يقول الحسني إن المدرسة فتحت أبوابها في منتصف شهر سبتمبر سنة 1919، ولم يكد الربيع يحلّ حتى أصبحت مقرًا أساسيًا لكل "الوطنيين المتطرفين، وناديًا يرتاده الشباب للتناقش في أمور الوطن".

وفور إعلان بريطانيا فرض انتدابها على العراق، قرّر أعضاء الجمعية إقامة "موالد نبوية أسبوعية" في أهم مساجد المسلمين ببغداد والأعظمية والكاظمية، بدون تفريق بين المساجد الشيعية والسُنية، حيث كانت تبدأ بمدح النبي وتنتهي بالحديث عن جهاد حفيده الحسين بن علي.

وكان "الحرسيون" يستغلون تلك الموالد للحديث عن قضية البلاد السياسية ويُلهبون مشاعر الناس ضد الوصاية البريطانية. يقول الحسني: "أصبحت تلك الموالد حفلات سياسية هامة تحسب لها السُلطة ألف حساب".

في إحدى تلك الحفلات المقامة في جامع "الحيدرخانة" ألقى موظف في دائرة الأوقاف يُدعى عيسى عبد القادر خطبة حماسية ألهبت مشاعر الناس فقرّرت السُلطات العسكرية البريطانية إبعاده إلى البصرة، وهو القرار الذي أغضب عددًا من العراقيين فنظموا عدة مظاهرات اعتراضًا على القرار.

دخلت تلك المظاهرات في اشتباكات مع قوة عسكرية بريطانية أسفرت عن مصرع شاب يُدعى عبد الكريم النجار، أطلقت عليه الصحافة العراقية لقب "شهيد الوطن الأول"، وأقيمت له جنازة حاشدة في اليوم التالي ندّدت بالاحتلال الإنجليزي للبلاد.

هنا يعلّق الباحث الياباني كيكو ساكاي في كتابه "ثورة العشرين"، إن "حراس الاستقلال" مثّلت حالة نموذجية في السياسة العراقية، لأنها لعبت دورًا قياديًّا لتنظيم حركة احتجاج اجتماعي واسعة ضد الاحتلال البريطاني للعراق. فلقد بذل رجال الحرس جهدًا كبيرًا لخلط الشيعة والسُنة في كافة أنشطتهم، وفي جدولها السياسي أكدت أن "الأمة ككل تسعى إلى الاستقلال والتغلب على العداء الديني والطائفي". وهكذا نجحت "حراس الاستقلال" في بناء أرضية اجتماعية تصلح لتدشين حركة وطنية باحثة عن استقلال العراق.

وأيضًا، نجحت الجمعية في دمج الشبكات الدينية والقبلية في تنظيمها بعدما جمعت بين رجال الدين والمفكرين وقادة القبائل في بوتقة واحدة اجتمعت على هدف واحد؛ وهو مناهضة الاحتلال الإنجليزي.

بحسب ساكاي، فإن أرنولد تالبوت ويلسون نائب الحاكم المدني البريطاني في العراق رفض لقاء وفد من جمعية "الحراس" فور إنشائها إلا أنه لاحقًا وافق على الالتقاء بوفدٍ منهم عقب اشتداد شوكتهم وحدوث "واقعة الشاعر عيسى". وتفاوض الطرفان حول سُبُل تهدئة الأوضاع، حيث طالبوا بحرية الصحافة وإزالة القيود المفروضة على البريد والدعوة لإقامة مؤتمر وطني عراقي يقرر مستقبل الدولة بمعزلٍ عن الإرادة البريطانية.

لم تنتهِ هذه المفاوضات إلى نتيجة مرضية فأشعلت "حراس الاستقلال" الأوضاع على الإنجليز مُجددًا، خاصةً بعدما نجحت في ضمِّ عددٍ من قادة القبائل إلى صفوفها. فقرّر الإنجليز قمع تلك الجمعية قبل استفحال خطرها أكثر مما ينبغي، فعملت على استهداف قادتها؛ نُفي أحمد الشيخ داوود إلى جزيرة هنجام (تقع داخل حدود إيران) وأُعدم عبد المجيد كنه، وهو ما دفع قياديين آخرين مثل أبو التمن والسويدي والصدر إلى الهرب من بغداد. وعلى الرغم من جهود قادة الجمعية في استكمال نشاطهم فإن القمع البريطاني مثّل ضربة قاسية لمنظمتهم.

عقب مشاركتها في تفجير ثورة العشرين، أبعدت السُلطات الإنجليزية قيادييها نوري فتاح وعارف السويدي وجلال بابان وصادق حبة إلى جزيرة هنجام أيضا، وصدر قرار بحلِّ الجمعية في 3 آب عام 1920م ولُوحق أغلب أعضائها فاضطروا إلى الهرب لسوريا والحجاز ولم يعودوا إلا عقب صدور عفوٍ عام عنهم.

 

بين "العهد" و"الحرس"

 

يقول الحسني: بمرور الوقت فاق "الحرسيون" أندادهم "العهديين" في الساحة السياسية العراقية فاتهموهم بأنهم "عملاء للتُرك". وحاول وفد من جمعية العهد في الشام التوفيق بين رفاقهم العراقيين وبين الحرسيين، لكنهم فشلوا في ذلك.

كان الخلاف الرئيسي بين الطرفين هو أن أعضاء "حراس الاستقلال" لم يكونوا إلى التفكير أو العمل إلا على حل المشكلة العراقية وحدها دون الانشغال بمشاكل العرب في الشام أو في غيرها، أما رجال العهد فكانوا يحاربون الفرنسيين في سوريا والإنجليز في العراق ما أفقدهم تركيزهم وقدرًا كبيرًا من قوتهم.

أيضًا، اعترض رجال الحرس على استعداد رجال العهد قبول المساعدة الفنية والسياسية من بريطانيا، وهو ما اعتبروه مساسًا بسعيهم لاستقلال العراق استقلالاً تامًّا لا تعتمد فيه البلاد على أحد.

نقطة أخرى للاختلاف تمثلت في أن "العهد" اقتصرت عضويتها على العسكريين وحسب الذين عاشوا حياة متقاربة تمثّلت بتلقيهم التدريبات والعلوم العسكرية منذ مرحلة مبكرة من حياتهم بالمدرسة العسكرية في إسطنبول. أما "الحراس" فضمّت تحت لوائها عشرات المدنيين من مختلف المشارب والتوجهات الاجتماعية العراقية.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".