قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب مع عدد من أقاربه وأنصاره في كربلاء سنة 61هـ. تختلف المصادر الشيعية في تحديد الجهة التي أشرفت على دفن جثمان حفيد الرسول. يذهب بعض المؤرخين ومنهم البلاذري، المتوفى 279هـ، في كتابه "أنساب الأشراف" إلى أن أهل الغاضرية -مكان قريب من كربلاء- من بني أسد قاموا بدفن جثامين الحسين وأصحابه في اليوم التالي للمعركة. في المقابل، يذهب البعض الآخر ومن بينهم عبد الرزاق المقرم في كتابه "مقتل الحسين" إلى أن علي زين العابدين بن الحسين هو الذي دفن جثة أبيه في اليوم الثالث عشر من محرم.
تجمع الروايات أن رأس الحسين لم يُدفن مع الجسد في تلك الفترة، وأنه أُرسل بعد المعركة إلى والي الكوفة عُبيد الله بن زياد. ثم وصل إلى يد الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، لتختلف الآراء حول مصيرها بعدها.
نلقي الضوء في هذا المقال على الآراء المختلفة التي تحدثت عن مصير رأس الحسين، لنبيّن كيف روجت الروايات لدفنها في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي.
♦ كربلاء
تذكر الكثير من المصادر الشيعية أن والي الكوفة عُبيد الله بن زياد أرسل بعلي زين العابدين وزينب بنت علي بن أبي طالب إلى الشام ليُعرَضوا على الخليفة يزيد بن معاوية. حُملت رأس الحسين كذلك إلى يزيد. مرت الأيام وأطلق الخليفة سراح الأسرى فأخذوا الرأس معهم ورجعوا إلى كربلاء. وقام علي زين العابدين بدفنها بجوار جثمان الحسين.
من أهم الروايات التي ذكرت دفن رأس الحسين في كربلاء ما ذكره الشيخ الصدوق، المتوفى 381ه، في كتابه "الأمالي": "...ثمّ إنّ يزيد -لعنه الله- أمر بنساء الحسين، فحُبسنَ مع علي بن الحسين في محبسٍ لا يكنّهم من حّر ولا قرّ؛ حتى تقشّرت وجوههم، ولم يُرفع في بيت المقدس حجر عن وجه الأرض إلاَّ وُجد تحته دم عبيط، وأبصرَ الناسُ الشمس على الحيطان حمراء، كأنها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج علي بن الحسين بالنسوة، وردّ رأس الحسين إلى كربلاء". أكد ابن نما الحلي المتوفى 645هـ الرواية ذاتها في كتابه "مثير الأحزان ومنير سبل الأشجان". يقول ابن نما: "والذي عليه المعوَّل من الأقوال إنه -أي رأس الحسين- أُعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد، ودُفن معه".
♦ النجف
أكدت العديد من الروايات المنسوبة للأئمة أن رأس الحسين دُفنت في النجف بجوار مرقد الإمام الأول علي بن أبي طالب. من أشهر تلك الروايات، ما أورده محمد بن يعقوب الكليني في كتابه "الكافي" عندما ذكر أن جعفر الصادق، الإمام السادس عند الشيعة الاثني عشرية، اصطحب ابنه إسماعيل لزيارة مقام علي بن أبي طالب في النجف. فلما وصلا المقام قال جعفر لابنه: "...قم فسلّم على جدك الحسين بن علي". فسأله أحد أتباعه: "جُعلت فداك، أليس الحسين بكربلاء؟ فقال الصادق: نعم، ولكن لما حُمِل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا، فدفنه بجنب أمير المؤمنين".
وينقل جعفر بن محمد بن قولويه في كتابه "كامل الزيارات" رواية أخرى عن الصادق تحمل المعنى نفسه. جاء في تلك الرواية "إنك إذا أتيت الغري -النجف- رأيت قبرين، قبرًا كبيرًا وقبرًا صغيرًا، فأما الكبير فقبر أمير المؤمنين، وأما الصغير فرأس الحسين بن علي".
وردت أيضًا العديد من الآثار التي تشير إلى دفن رأس الحسين في النجف. من ذلك ما رواه محمد بن المشهدي في كتابه "المزار الكبير" في ما يُقال في زيارة مرقد الإمام علي في النجف. جاء في تلك الزيارة "يا سيدي. يا أمير المؤمنين. ومولاي، وأنت يا أبا عبد الله -يقصد الحسين بن علي-، وسلامي عليكما متصل ما اتصل الليل والنهار…". وكذلك أفرد محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى 1104هـ في كتابه "وسائل الشيعة" بابًا بعنوان "استحباب زيارة رأس الحسين عند قبر أمير المؤمنين، واستحباب صلاة ركعتين لزيارة كلٍّ منهما".
في السياق نفسه، ذكر محمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ في كتابه "بحار الأنوار" "...ينبغي أن يُزار الحسين عند قبر أمير المؤمنين، مما يلي رأسه".
يذكر عبد الرزاق حرز الدين في كتابه "تاريخ النجف الأشرف" أن الاعتقاد بدفن رأس الحسين في النجف كان أمرًا شائعًا في الأوساط الشيعية قديمًا حتى "قيل إنّ غازان ملك التتار حينما جاء زائرًا مرقد أمير المؤمنين سنة 698هــ، أمر أن يبنى مسجد على الموضع المعروف قديمًا بموضع رأس الحسين، وإنّهم أقاموا لبنائه سنة كاملة ضاربين خيامهم في الصحراء بين النجف ومسجد الحنّانة في الثويّة حتى أكملوه، وعُرف هذا المسجد بعد وإلى يومنا هذا بمسجد الرأس".
♦ المدينة
من بين الآراء التي قيلت في مكان دفن رأس الحسين بن علي إنها دُفنت في المدينة. يذكر ابن سعد في كتابه الطبقات الكبير أن "يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة، فدفنه عند أمه بالبقيع". لكن، مما يضعف هذا القول أن مكان دفن فاطمة الزهراء -أم الحسين- غير معروف على وجه التحديد، كما أنه لا يوجد أي شاهد تاريخي على وجود قبر أو مرقد للحسين في المدينة.
♦ دمشق
يتفق أغلبية المؤرخين على أن رأس الحسين وصلت ليد الخليفة الأموي يزيد بن معاوية في دمشق. ويختلف المؤرخون فيما فعله الخليفة بالرأس بعدها. تذكر بعض الأقوال أن يزيد دفن رأس الحسين بالقرب من قبر أبيه معاوية. وقيل إنه: "أمر بغسل الرأس وجعله في حرير وضرب عليه خيمة ووكل به خمسين رجلاً".
يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" بعض الروايات المختلفة والتي تؤكد على دفن الرأس في دمشق. من تلك الروايات "أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي فأُخذ من خزانته فكُفن ودُفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق…". ومنها أن يزيد نصب رأس الحسين لثلاثة أيام "...ثم وضع في خزائن السلاح، حتى كان من زمن سليمان بن عبد الملك جيء به إليه، وقد بقي عظمًا أبيض، فكفنه وطيبه وصلى عليه ودفنه في مقبرة المسلمين…".
ومن الروايات التاريخية التي تؤكد أيضا دفن رأس الحسين في دمشق ما نقله شمس الدين الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام" عن شخص مجهول يُدعى بأبي كرب. شارك أبو كرب في الثورة على الخليفة الأموي الوليد بن يزيد سنة 126هـ، ويذكر: "...كنت فيمن توثب على الوليد بن يزيد بدمشق، فأخذت سفطًا وقلت فيه غنائي، فركبت فرسي، وخرجت من باب توما، قال: ففتحه، فإذا فيه رأس مكتوب عليها، هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت فيه بسيفي، فدفنته".
♦ عسقلان
تذهب بعض الروايات أيضا أن رأس الحسين دُفن في مدينة عسقلان. لا يوجد تفسير واضح لسبب وصول الرأس إلى ذلك المكان بالذات. قال بعض المؤرخين إن الرأس لمّا خرجت من دمشق في أعقاب سقوط الدولة الأموية، فإن البعض سرقها ودفنها في تلك المدينة!
بل، يرى آخرون أن الرأس دُفنت في عسقلان منذ فترة مبكرة. يقول الشبلنجي الشافعي في كتابه "نور الأبصار في مناقب آل بیت النبي المختار": "ذهبت طائفة إلى أن يزيد أمر أن يُطاف بالرأس في البلاد فطيف به حتى انتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها".
من المُحتمل أن أمر دفن الرأس في عسقلان لم يشتهر إلا في القرن الخامس الهجري. يشهد على ذلك ما ذكره شهاب الدين النويري المتوفى 733هـ في كتابه "نهاية الأرب في فنون الأدب" "أن رجلًا رأى في منامه وهو بعسقلان أن رأس الحسين في مكان بها، عُيّن له في منامه، فنبش ذلك الموضع، وذلك في أيام المستنصر بالله العبيدي صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالي، فابتنى له بدر الجمالي مشهدًا بعسقلان". لا تزال آثار هذا المشهد قائمة حتى الآن، وتحيطها الحكومة الإسرائيلية بالحراسة باعتبارها أحد المزارات المقدسة عند الشيعة.
♦ القاهرة
يذكر الكثير من المؤرخين كذلك أن رأس الحسين انتقل من عسقلان إلى القاهرة في زمن الدولة الفاطمية. يستشهد هؤلاء بما رواه تقي الدين المقريزي المتوفى 845هـ في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار". يقول المقريزي: "...وكان حَمْلُ الرأس إلى القاهرة من عسقلان، ووصوله إليها في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة… ويُذكَر أنّ هذا الرأس الشريف لما أخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم يجف، وله ريح كريح المسك…".
يرى البعض أن نقل الرأس إنما وقع بسبب الخوف عليه مما قد يلحق به من التدنيس أو الامتهان، فقد كان الصليبيون يسيطرون على العديد من المدن الشامية في تلك الفترة، فآثر الفاطميون أن ينقلوا رأس الحسين إلى عاصمتهم للحفاظ عليه. وأحاطوه بمختلف أنواع التبجيل والاحترام والتقديس. ويعتقد الكثيرون أن الرأس مدفون حاليًا في المشهد الحسيني المعروف في القاهرة.
على الجانب الآخر، شكك بعض المؤرخين في هذا الأمر. وأعلنوا أن قصة نقل الرأس للقاهرة لم تكن إلا نوعًا من أنواع الخداع والكذب. يقول ابن كثير موضحًا هذا الرأي: "...وادعت الطائفة المسمون بالفاطميين... أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر... وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة.. قلت: والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فإنهم جاؤوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا: هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم!".