شغلت معركة كربلاء، التي وقعت سنة 61 هـ، مكانًا محوريًا في الوجدان الشيعي الجمعي عبر القرون.
شغلت معركة كربلاء، التي وقعت سنة 61 هـ، مكانًا محوريًا في الوجدان الشيعي الجمعي عبر القرون.

شغلت معركة كربلاء، التي وقعت سنة 61 هـ، مكانًا محوريًا في الوجدان الشيعي الجمعي عبر القرون. بقيت الفاجعة الأليمة التي تعرض لها الحسين بن علي ومن معه من أقاربه وأنصاره في تلك المعركة شاهدًا على واحدة من أكثر اللحظات الدرامية المثيرة للشجن والحزن في تاريخ الإسلام. كان من الطبيعي، والحال كذلك، أن الكثير من المصادر التاريخية -بعضها سنية وأغلبها شيعية- اعتبرت تلك المعركة قدرًا مقدورًا لا مفر منه ولا مهرب.

في هذا السياق، ظهر نوع مخصوص من أنواع السرد الروائي الملحمي عندما عمل المؤرخون والإخباريون ورجال الدين على إثبات "النبوءات المقدسة" المرتبطة بمعركة كربلاء. نلقي الضوء في هذا المقال على تلك النبوءات، لنرى كيف تواتر الحديث عن تلك المعركة الدامية في كلام النبي والصحابة والتابعين، ولنعرف أيضا الكيفية التي ظهرت فيها معركة كربلاء في بعض التأويلات المرتبطة بنصوص الكتاب المقدس.

 

"نبوءات" النبي والصحابة!

 

ذكرت المصادر التاريخية الإسلامية العديد من الروايات المنسوبة إلى النبي، والتي تظهر فيها النبوءة بمقتل حفيده الحسين في أرض العراق. من أشهر تلك الروايات ما ذكره أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب، وجاء فيها أن الخليفة الرابع قاد جيشه وتوجه لموقعة صفين سنة 37هـ لقتال أهل الشام. فلمّا وصل لأرض نينوى نادى: "اصبر أبا عبد الله! اصبر أبا عبد الله بشط الفرات". ولمّا استفهم منه أحد أصحابه عما قاله، رد علي: "دخلتُ على النبي ذات يوم وإذا عيناه تذرفان. قلت:ُ يا نبي الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان؟ قال بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات قال، فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟ قلتُ: نعم!، قال: فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا".

أورد الطبراني في كتابه "المعجم الكبير" رواية أخرى مشابهة عن علي. تذكر الرواية أن الخليفة الرابع كان يتجه لصفين ثم وقف وسأل عن اسم المكان الذي مر به. لمّا قيل له إن هذا المكان يسمى كربلاء "بكى حتى بلّ الأرض من دموعه، ثم قال: دخلت على رسول الله وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك ـ بأبي أنت وأمي؟ قال: كان عندي جبرائيل آنفاً، وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات، بموضع يقال له كربلاء...".

وردت إحدى نبوءات مقتل الحسين على لسان إحدى الصحابيات، وهي أم الفضل بنت الحارث. يورد الحاكم النيسابوري تفاصيل تلك النبوءة في كتابه "المستدرك على الصحيحين". ينقل النيسابوري على لسان أم الفضل أنها دخلت على النبي ذات يوم "فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلمًا منكرًا الليلة... رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري! فقال رسول الله: رأيت خيرًا، تلد فاطمة إن شاء الله غلامًا يكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري، كما قال رسول الله، فدخلت يومًا إلى رسول الله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاته فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع. قالت: فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي مالك؟ قال: أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت: هذا؟ فقال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء".

إذا كان مصدر النبوءات الواردة في المصادر السنية اقتصر على النبي وحده، فإن النبوءات الواردة في المصادر الشيعية شملت بعض الأئمة أيضا. يتماشى ذلك مع الاعتقاد الشيعي بكون الإمام يطلع بإذن وتعليم من الله على علوم الغيب، وبأنه يتصل بالسماء بصفته حجة الله في الأرض. من أشهر النبوءات التي ورد فيها الحديث عن كربلاء في المصادر الشيعية ما ذكره محمد باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" عن الإمام الثاني الحسن بن علي بن أبي طالب. يقول الحسن للحسين في هذه النبوءة، وهو يعاني في لحظات احتضاره: "إن الذي يؤتى إلي سم يدس إلى فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدعون أنهم من أمة جدنا محمد وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك. فعندها تحل ببني أمية اللعنة، تمطر السماء رمادًا ودمًا، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار".

 

"نبوءات" التابعين!

 

وردت النبوءات التي تحدثت عن مقتل الحسين في كربلاء في العديد من الروايات المنسوبة للتابعين. من الملاحظ أن معظم تلك الروايات نُسبت للتابعين الذين قدموا من أصول يهودية أو مسيحية. وهو الأمر الذي يتماشى مع الاعتقاد الإسلامي الشائع بأن أهل الكتاب عرفوا أخبار الفتن والملاحم المستقبلية.

ينقل الشيخ الصدوق في "الأمالي" واحدة من تلك النبوءات عن كعب الأحبار، وهو أحد رجال الدين اليهود الذين أسلموا وانتقلوا للعيش في المدينة في زمن خلافة عمر بن الخطاب. ورد في تلك النبوءة أن كعبًا كان يتحدث مع بعض المسلمين، فقال: "إن في كتابنا: أن رجلًا من ولد محمد رسول الله يُقتل، ولا يجف عرق دواب أصحابه حتى يدخلوا الجنة، فيعانقوا الحور العين". مر الحسن بن علي على هذا المجلس، فسأل المسلمون كعبًا "هو هذا؟ قال: لا". بعد قليل مر الحسين، فسأل المسلمون: هو هذا؟ قال: نعم!

لكن في الواقع، لا ترد في أي من نسخ التوراة أية إشارة من هذا القبيل المنسوبة إلى كعب الأحبار.

يذكر المجلسي في رواية أخرى أن الناس كانوا يسألون كعبًا في خلافة عمر بن الخطاب عن الملاحم التي تظهر في آخر الزمان فصار كعب يخبرهم بأنواع الأخبار والملاحم والفتن التي تظهر في العالم ثم قال: "وأعظمها فتنة وأشدها مصيبة لا تنسى إلى أبد الآبدين مصيبة الحسين وهي الفساد الذي ذكره الله تعالى في كتابه المجيد... وإنما فُتح الفساد بقتل هابيل بن آدم، وخُتم بقتل الحسين. أو لا تعلمون أنه يفتح يوم قتله أبواب السماوات ويؤذن السماء بالبكاء فتبكي دمًا فإذا رأيتم الحمرة في السماء قد ارتفعت، فاعلموا أن السماء تبكي حسينًا فقيل: يا كعب لم لا تفعل السماء كذلك ولا تبكي دمًا لقتل الأنبياء ممن كان أفضل من الحسين؟ فقال: ويحكم إن قتل الحسين أمر عظيم وإنه ابن سيد المرسلين، وإنه يقتل علانية مبارزة ظلمًا وعدوانًا ولا تحفظ فيه وصية جده رسول الله... يا قوم كأنكم تتعجبون بما أحدثكم فيه من أمر الحسين وإن الله تعالى لم يترك شيئًا كان أو يكون من أول الدهر إلى آخره إلا وقد فسره لموسى...".

ينقل ابن الأثير، في كتابه "الكامل في التاريخ"، إحدى النبوءات التي تحدثت عن مقتل الحسين بكربلاء. صاحب تلك النبوءة شخص مبهم عرّفه ابن الأثير بأنه رأس الجالوت. ومن المعروف أن هذا اللقب كان يُطلق على علماء وأحبار اليهود في العراق في القرون الأولى من الهجرة. يقول رأس الجالوت في تلك الرواية: "ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، لأنا كنا نتحدث أن ولد نبي يُقتل بذلك المكان، فكنت أخاف، فلما قُتل الحسين أمنت فكنت أسير ولا أركض". هنا أيضا لا يوجد في أي من كتب التراث اليهودي إشارات إلى مقتل الحسين أو معركة كربلاء.

أما ابن الجوزي فنقل في كتابه "تذكرة الخواص" عن التابعي محمد بن سيرين -وهو من أصول مسيحية- قوله: "وجد حجر قبل مبعث النبي بخمس مئة سنة عليه مكتوب بالسريانية فنقلوه إلى العربية فإذا هو: أترجو أمة قتلت حسينًا شفاعة جده يوم الحساب".

 

في الكتاب المقدس

 

يزعم العديد من الباحثين الشيعة المعاصرين أن العهد القديم تنبأ بما سيحدث للحسين وأهل بيته في كربلاء. استدل هذا الفريق بما ورد في الإصحاح السادس والأربعين من سفر إرميا "...أَعِدُّوا الْمِجَنَّ وَالتُّرْسَ وَتَقَدَّمُوا لِلْحَرْبِ. أَسْرِجُوا الْخَيْلَ، وَاصْعَدُوا أَيُّهَا الْفُرْسَانُ، وَانْتَصِبُوا بِالْخُوَذِ. اصْقِلُوا الرِّمَاحَ. الْبَسُوا الدُّرُوع... فِي الشِّمَالِ بِجَانِبِ نَهْرِ الْفُرَاتِ عَثَرُوا وَسَقَطُوا. مَنْ هذَا الصَّاعِدُ كَالنِّيلِ، كَأَنْهَارٍ تَتَلاَطَمُ أَمْوَاهُهَا؟ ... فَهذَا الْيَوْمُ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ يَوْمُ نَقْمَةٍ لِلانْتِقَامِ مِنْ مُبْغِضِيهِ، فَيَأْكُلُ السَّيْفُ وَيَشْبَعُ وَيَرْتَوِي مِنْ دَمِهِمْ. لأَنَّ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ ذَبِيحَةً فِي أَرْضِ الشِّمَالِ عِنْدَ نَهْرِ الْفُرَات... ". ربط أصحاب هذا الرأي بين كربلاء والمكان الذي حدده النص "بالشمال بجانب نهر الفرات". زعم هؤلاء أيضًا أن الحسين بن علي هو المقصود من الوصف الوارد "لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ ذَبِيحَةً". بحسب هذا الرأي كان النص الوارد في سفر إرميا نبوءة لما سيحدث في أرض الطف بعد ما يزيد عن الألف سنة!

لكن هذا التأويل يتعارض مع التفسير اليهودي- المسيحي المعتمد لسفر إرميا. ولفهم الخلاف بين التصورين يجب العودة لدراسة تاريخ منطقة الشرق الأدنى القديم -العراق وبلاد الشام ومصر- في القرن السابع قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت تدوين سفر إرميا. كان الأشوريون يفرضون سيطرتهم على مساحات واسعة من تلك المنطقة، فيما كان المصريون يحتفظون لأنفسهم بنفوذ قوي في سوريا. حاولت مملكة يهوذا -التي قامت في النصف الجنوبي من فلسطين- أن تحافظ على وجودها بين تلك القوى المتصارعة. تحالف ملوك يهوذا مع المصريين أحيانًا، وتعاونوا مع الآشوريين في أحيان أخرى. كانت قوة البابليين تتصاعد شيئًا فشيئًا حتى تمكنوا من الانتصار على الآشوريين في بعض المعارك. تمكن البابليون من الاستيلاء على نينوى -عاصمة الآشوريين- في 612 ق.م. وبعد ثلاث سنوات احتلوا مدينة حران -العاصمة الثانية للآشوريين- ليُفتح أمامهم الباب للسيطرة على بلاد الرافدين وسوريا.

لم يكن نخاو الثاني فرعون مصر ليقبل باستئثار البابليين بالسيطرة الكاملة على المنطقة. عزم على التصدي لهم. فتحرك على رأس قواته شمالًا. ومر على يهوذا التي كان يحكمها في ذلك الوقت الملك يوشيا، والذي رفض مرور الجيش المصري في أراضيه، فقام الفرعون بقتله.

تابع نخاو الثاني طريقه نحو الشمال وتحالف مع بقايا الجيش الآشوري. وحاول أن يستخلص حران من يد البابليين. فلمّا عجز عن ذلك، جمع قواته وقاتل البابليين وحلفاءهم من الفرس والميديين في موقعة كركميش الواقعة على نهر الفرات. انتهت المعركة بهزيمة المصريين وتدمير جيشهم وانفراد البابليين بالسيطرة على بلاد العراق والشام. مهدت تلك الأحداث لما سيحدث سنة 587 ق.م من وقوع الغزو البابلي لفلسطين وتهجير اليهود إلى بلاد الرافدين فيما سيُعرف باسم السبي البابلي.

بحسب التفسير الكتابي لسفر إرميا فإن ما ورد في الإصحاح السادس والأربعين من السفر كان وصفًا لما دار في معركة كركميش. كانت كركميش تقع على نهر الفرات. وكان في سقوط الجنود المصريين في المعركة دليلًا على غضب يهوه الذي لم يبق ولم يذر!

يمكن التأكد بسهولة من الاختلاف الكبير بين كركميش وكربلاء. تقع كركميش -تسمى حاليًا بجرابلس- في سوريا إلى الشمال الشرقي من حلب. أما كربلاء فتقع في وسط العراق. تصل المسافة بين المدينتين إلى ما يزيد عن الستمائة كيلومتر!

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".