قادت الملكة ماوية حربا شرسة ضد الرومان انتهت بتوقيع اتفاقية سلام مع الإمبراطور الروماني فالانس.
قادت الملكة ماوية حربا شرسة ضد الرومان انتهت بتوقيع اتفاقية سلام مع الإمبراطور الروماني فالانس.

تعرف القراء العرب على "ماوية ملكة السراسين" خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بفضل مقالات وفصول في كتب، كان للمؤرخين نقولا زيادة وجواد علي الفضل الأبرز فيها. ومصطلح "السراسين" كان يعني عند الأوروبيين في فترة ما قبل الإسلام القبائل العربية البدوية تحديداً، وبعد الإسلام أصبح يعني المسلمين بالعموم. 

مما لا شك فيه؛ أن النزعات القومية واليسارية العربية التي كانت سائدة خلال حقبة الخمسينات والستينات من القرن العشرين، ساهمت في تأطير شخصية الملكة ماوية ضمن إطار إيديولوجي يزعم أنها كانت تناضل ضد "الاستعمار الروماني"، ولذلك لم يتعرف القراء العرب بشكل واضح على نتائج المعركة الثانية للملكة ضد قوات الامبراطور فالانس، وماذا حل بجيشها، بعد تجديد الاتفاقية القديمة مع الروم البيزنطيين، وإضافة فقرات جديدة يعترف فيها البيزنطيون بحقوق قومها، الدينية وربما التجارية، نظراً لتحكم شعب ماوية بأهم محطات التجارة والتواصل بين الهند والجزيرة العربية من جهة، وبين أراضي الإمبراطورية البيزنطية من جهة أخرى، وهو ما سنضيء عليه في هذا المقال.

 

أهمية المقاتل الصحراوي

 

بعد هزيمة ملكة تدمر زنوبيا أمام أورليان في العام 273م، اتضح للرومان ومن بعدهم البيزنطيين الدور المحوري للقبائل العربية (السراسين) في حروبهم مع أعدائهم الفرس الساسانيين، والتي كانت تتم في مناطق صحراوية في أغلب الأحيان. وقد لعب اعتناق القبائل العربية الشامية للمسيحية الدور الأبرز في هذا التحالف، ولذلك بدأت تظهر المشيخات الفيدرالية العربية المتحالفة مع أباطرة بيزنطة والتي كان شيوخها وملوكها يحملون لقب "فيلارخ"، حيث تولوا مهمة حماية مناطق التخوم "الليميس" مع الفرس، وتأمين طرق التجارة، مقابل عائدات كبيرة كانوا يجنونها وفق معاهدات متّفق عليها منذ عقود.

الملكة زنوبيا كما تصورها الرسام الإنجليزي هربرت جوستاف شمالتس سنة 1888.

ويمكن القول إنّ الحملة الفارسية للإمبراطور يوليان (331-363م) شكّلت منعطفًا في العلاقة بين العرب البدو (السراسين) والروم، فقد انتهت بكارثة عسكرية، وقتل الإمبراطور على يد أحد الشيوخ العرب المشاركين في الحملة، وتمّ كيل الاتهامات لهؤلاء "السراسين" بالغدر والخيانة من جانب بعض الخطباء والمؤرّخين الرومان، متناسين أنّ سبب هذه الكارثة هو سوء تقدير الإمبراطور القادم من الغرب، والذي لا يعرف شيئًا عن الشرق وتعقيداته، فسحب الامتيازات من الحلفاء العرب، في بعض المصادر، كلّفه حياته، وقد يكون ارتداد الإمبراطور عن المسيحية، ومجاهرته بالدفاع عن الوثنية، سببًا إضافيًا للتخلّص منه بحسب مصادر أخرى.

في هذه الأثناء؛ بدأت تظهر أهمّية العامل الديني في العلاقات السياسية والعسكرية بين الطرفين، وهذا العامل شكّل الشرارة لثورة الملكة العربية ماوية ضدّ الإمبراطور فالانس، حين حاول أن يفرض على العرب أسقفًا من غير ملّتهم العربية، ومن غير مذهبهم الديني الأرثوذوكسي، لذلك حظيت أخبار هذه الثورة باهتمام المؤرّخين الكنسيين، سوزومين، وسقراط سكولاستيكوس، وثيودوريت، وروفينوس الذي أخذ أخباره من كتابات جيلاسيوس القيصري المعاصر للأحداث، بينما حظيت أخبار بطولات العرب في الدفاع عن القسطنطينية باهتمام المؤرّخين الوثنيين أمياني مارسليني، وزوسيموس.

 

العامل الديني

 

يجمع المؤرّخون الكنسيون الذين كتبوا عن الملكة ماوية على أنّ سبب ثورتها المباشر كان دينيًّا، ومرتبطًا بقرار الإمبراطور الأريوسي المتعصّب فالانس (329-378م) بتعيين أسقف من مذهبه للعرب، متجاهلًا طلبات الملكة ماوية المتكرّرة، بتعيين أسقف عربي من المذهب الأرثوذوكسي يدعى موسى. وبعد أن يئست الملكة من استجابة الإمبراطور لطلبها، انسحبت مع شعبها من قنسرين (شرقي حلب) إلى الصحراء، وجمعت جيوش القبائل من بوادي شبه الجزيرة العربية والشام استعدادًا لقتال الروم البيزنطيين.

وقد روى المؤرّخ سوزيمين تفاصيل الثورة الأولى كما يلي: "في هذه الفترة مات ملك العرب، وانتهى السلام الذي كان قائمًا بين تلك الأمة والرومان. بعد أن وصلت أرملة الملك الراحل إلى حكم شعبها، قادت قواتها إلى فينيقيا وفلسطين، حتى أقاليم مصر التي تقع على يسار الذين يبحرون باتجاه منابع النيل، والتي تصنّف أيضًا بشكل عامّ بأنّها عربية. لم تكن هذه الحرب بأيّ حال من الأحوال حربًا صغيرة، رغم أنّ من شنّتها امرأة". 

ويتابع سوزيمين: "يقال إنّ الرومان رأوا الأمر شاقًّا وخطيرًا للغاية، إلى درجة أنّ جنرال القوات الرومانية المرابطة في فينيقيا طلب المساعدة من جنرال سلاح الفرسان والمشاة في الشرق بأكمله. هذا الأخير سخر من الاستدعاء، وتعهد بخوض المعركة بمفرده، وبناءً على ذلك هاجم ماوية (يسميها خطأ مانيا)، التي كانت تقود قواتها بنفسها؛ وقد تمّ إنقاذه بصعوبة على يد جنرالات الجيوش الرومانية في فلسطين وفينيقيا.

إدراكًا منه لخطورة الأمر، عدّ هذا الجنرال أنّه من غير الضروري إطاعة الأوامر التي تلقاها للابتعاد عن القتال؛ لذلك اندفع إلى السراسين "العرب"، وأتاح لرئيسه فرصة للتراجع الآمن، بينما هو نفسه سقط على الأرض، وأطلق السهام على من فرّوا، وأمر بضرب السهام أيضًا على الأعداء الذين كانوا يحاصرونه.

تحول هذا الحدث إلى مناسبة يحتفل بذكراها أهل البلاد "فينيقيا وفلسطين"، كما يحتفل بها العرب البدو بترداد الأغاني التي تخلدها. 

قطعة نقدية تصور الإمبراطور الروماني فالانس الذي حكم القسطنطينية بين سنتي 364 و378م.

ومع تواصل الحرب بقوة وجد الرومان أنّه من الضروري إرسال سفارة إلى ماوية لطلب السلام، ويقال إنّها رفضت الانصياع لطلب تلك السفارة، ما لم تتمّ الموافقة على رسامة رجل معين اسمه موسى، مارس الفلسفة في صحراء مجاورة، أسقفًا على رعاياها. وكان موسى هذا رجلًا فاضلًا، ومشهورًا بأداء الآيات الإلهية والمعجزات! 

بناءً على هذه الشروط التي نقلت للإمبراطور، أُمر قادة الجيش بإحضار الراهب موسى إلى بطريرك الإسكندرية الأريوسي لوسيوس آريان، فهتف الراهب أمام الرؤساء والجمهور: "لست مستحقًّا لشرف أن أحمل اسم وكرامة رئيس الكهنة؛ ولكن على الرغم من عدم أهليتي، فإنّ الله قد وجهني إلى هذا المنصب، لذلك فإنّني أُشهِدُ من خلق السماوات والأرض بأنّني لن أرسم بيدي لوسيوس الملوثتين بدماء الرجال القديسين".

ردّ لوسيوس على الفور: "إذا لم تكن على دراية بطبيعة عقيدتي فأنت مخطئ في الحكم عليّ، قبل أن تكون في حوزتك جميع ملابسات القضية. إذا كنت قد تعرّضت للتضليل بسبب الافتراءات التي يتمّ تداولها ضدّي فاسمح لي على الأقلّ أن أوضّح لك ما هي آرائي".

قال له موسى: "إيمانك معروف لديّ، وأفكارك شهد على طبيعتها الأساقفة، والكهنة، والشمامسة الذين يعانون معاناة شديدة في المنفى وفي المناجم. من الواضح أنّ أفكارك تتعارض مع إيمان المسيح وجميع العقائد الأرثوذكسية المتعلّقة باللاهوت".

وبعد أن احتجّ مرة أخرى، بعد القسم، بأنّه لن يقبل برسامة لوسيوس، ذهب إلى العرب، وصالحهم مع الرومان، وحوَّل الكثيرين إلى المسيحية، ومات بينهم كاهنًا، رغم أنّه وجد قلّة ممّن شاركوه في إيمانه".

 

الانتصار الأول

 

بناء على ما ورد في نصوص المؤرّخين يتّضح لنا أنّ الثورة بدأت في العام 377م، وربما استمرّت حتى بداية عام 378م، وأنّ الملكة ماوية بدأت بمهاجمة المواقع الرومانية الضعيفة، وامتدّت غاراتها إلى عمق فلسطين، وصولًا إلى مصر حتى نهر النيل. كان لهذه الغارات تأثير مميت على الرومان الذين لم يكونوا قادرين على الوقوف بوجه قوات ماوية، ذات الحركة السريعة. إذ كانت الاستراتيجيات القتالية الرومانية في الشرق موجهة نحو الفرس "جيش مجهّز مقابل جيش مجهز"، والتكتيكات القتالية في هذا النوع من المواجهات محدودة. 

على عكس الجيش التدمري المجهّز على الطريقة الرومانية، كانت قوات ماوية قادرة على الانسحاب إلى عمق الصحراء، مفوّتة على الرومان فرصة المواجهة المباشرة. لذلك هُزمت القوات الرومانية التي تعاملت باستخفاف مع المهاجمين العرب. ولم يتوقّف الأمر عند حرب الصحراء المفتوحة بل وصل إلى البلدات الريفية أيضًا، والتي شاركت في القتال ضدّ الرومان، لأنّها حرب دارت على أسس دينية. فممّا لا شكّ فيه أنّ الاضطهاد الذي بدأه الامبراطور فالانس طال الكثير من رجال الدين الأرثوذوكس من أبناء مدن وأرياف فينيقيا وفلسطين، جزء مهم منهم كان من العرب الفلاحين، لذلك كان متوقّعًا تحالفهم وتعاطفهم مع الثورة، حتى بدا الأمر وكأنّ الشرق كلّه قد ينفصل تحت حكم الملكة ماوية وعربها.

 

الانتصار الثاني والمعاهدة

 

بناء على ذلك أرسلت القسطنطينية قوة أخرى، وهذه المرة بقيادة القائد العسكري الروماني للشرق. والتقت القوتان في معركة كبيرة تولت الملكة ماوية قيادتها بنفسها. ومرة أخرى أثبتت القوات البدوية أنّها تسيطر على الموقف، وتمتلك طرق القتال التقليدية الخاصّة بها، وثبت أنّ الجمع بين الانضباط القوي، والقدرة على المناورة السريعة لسلاح الفرسان والرماح الطويلة، هو الموت الزؤام للقوات الرومانية. وكانت النتيجة هزيمة الرومان البيزنطيين مرة أخرى.

مصطلح "السراسين" كان يعني في فترة ما قبل الإسلام القبائل العربية البدوية تحديداً، وبعد الإسلام أصبح يعني المسلمين بالعموم. رسم لمجموعة من العرب السراسين كما تصورهم الرسام الهولندي ارهارد رويش في القرن 15.

هذه المرة لم يكن لدى روما إمبراطور مثل أورليان لحشد هجوم مضادّ قوي، علمًا أنّ أورليان لم يكن قادرًا على إخماد ثورة زنوبيا إلّا بمساعدة التنوخيين، وهذه المرة المواجهة مع التنوخيين أنفسهم، فلم يكن أمام فالانس سوى طلب السلام .وهكذا، بعد أن فرضت ماوية شروط الحرب، فرضت أيضًا شروط السلام، ونجحت في فرض أسقف من أبناء شعبها، ومن مذهبها، ولم يكن أمام الأريوسيين سوى القبول، فعُيِّن موسى حسب الأصول كأول أسقف من العرب وللعرب، وبدأت ملامح الكنيسة العربية بالتبلور، وبدأت تستقطب المزيد من المؤمنين من زعماء القبائل وجمهور المؤمنين.

 

الدفاع عن القسطنطينية


لا شكّ في أنّ المعاهدة بين السراسين والبيزنطيين قد جدّدت بعد هذا النصر، وعادت الامتيازات التي كان يتمتّع بها العرب من جديد، ولتدعيم التحالف وإعلان نهاية الحرب تزوجت الأميرة قصيدة (Chasidat)، ابنة الملكة ماوية من ضابط روماني كبير يدعى فيكتور، يبدو أنّه كان يتبع نفس العقيدة التي كان يؤمن بها عرب ماوية.

ووفقًا للمعاهدة كان على العرب تزويد الرومان بمقاتلين أمام أيّ خطر خارجي يتعرّضون له، فأرسلت الملكة ماوية فرسانًا من حملة الرماح الطويلة، إلى جانب الرومان في حربهم الكارثية ضدّ القبائل السكيثية التي كانت تهدّد القسطنطينية.

امتدح المؤرّخ زوسيموس مشاركة العرب في معركة الدفاع عن القسطنطينية، فقال: إنّ الإمبراطور فالانس بعد أن علم بنهب السكيثيين لتراقيا، قرّر إرسال قوات اصطحبها معه من الشرق، وكانوا من الفرسان المجيدين الخبراء. بعد أن تلقّى هؤلاء أوامر من الإمبراطور، غادروا القسطنطينية في مفارز صغيرة، وقتلوا السكيثيين برماحهم الطويلة، وكانوا يجلبون رؤوسهم إلى المدينة كلّ يوم. ونظرًا لأنّ كتائب خيولهم، وقوة رماحهم، جعلت السكيثيين يؤمنون بأنّه من الصعب التغلّب على هؤلاء العرب، لذا حاولوا مواجهتهم بالحيلة. لقد زرعوا كمائن من ثلاثة سكيثيين للعربي الواحد؛ ولكن العرب أحبطوا هذه المخطّطات، وتمكّنوا بفضل سرعة خيولهم من الفرار بسهولة، كلما لاحظوا اقتراب عدد كبير من السكيثيين. هكذا ألحق العرب برماحهم الهزيمة والخراب بالسكيثيين. بعد أن بلغ بهم اليأس من تحقيق من الانتصار مبلغًا، فضلوا عبور نهر إيستر وتسليم أنفسهم للهون، على الموت برماح العرب، وعندما غادروا جميع الأماكن القريبة من القسطنطينية، استطاع الإمبراطور أن يسحب جيشه".

 

مطاردة البرابرة

 

بعد أن لاذ المهاجمون بالفرار؛ يبدو أنّ الامبراطور فالانس تشجّع، وقرّر ملاحقتهم والقضاء عليهم، ولكنّه قتل في معركة هدريانوبل، "شمالي أدرنة في تركيا الحالية بالقرب من الحدود مع اليونان وبلغاريا"، فقرّر البرابرة السكيثيون القيام بهجمة مرتدّة، ولكن العرب منعوهم من احتلال القسطنطيني".

لم يكم أمام  فالانس سوى طلب السلام. وهكذا، بعد أن فرضت ماوية شروط الحرب، فرضت أيضًا شروط السلام، ونجحت في فرض أسقف من أبناء شعبها، ومن مذهبها.

يقول المؤرّخ أمياني مارسيليني:: "في هذه الأثناء اتّحد القوط مع الهون والآلان، وكلّهم من القبائل الشجاعة المحاربة التي استقطبها القائد القوطي فريتغيرن (Fritigern) إلى جانبه بإغراء المكافآت العظيمة، فقامت بنصب معسكرها بالقرب من بيرنثوس؛ لأنّها تذكرت خسائرها السابقة "المقصود هزيمتها أمام العرب"، فهي لم تجرؤ على الاقتراب من المدينة، أو القيام بأيّ محاولة للاستيلاء عليها؛ ومع ذلك فقد دمّرت، وجرّدت الأرض الخصبة المحيطة بها بالكامل، وقتلت أو جعلت سكانها أسرى. من هنا سارت بسرعة إلى القسطنطينية على شكل كراديس قتالية خوفاً من الكمائن، وقرّرت تجربة كلّ الوسائل للاستيلاء على تلك المدينة اللامعة. لكن بينما أخذتها العزّة بنفسها، ووصلت إلى بوابات المدينة، صدّها الله قبل أن تدخل المدينة، فقد كان العرب لها كجسد واحد بالمرصاد، والعرب مقاتلون تلائمهم المناورات أكثر من المعارك الضارية، وقد تمّ إدخالهم إلى المدينة مؤخّرًا للدفاع عنها؛ وبمجرّد أن رأوا الجيش المهاجم البربري، خرجوا بكلّ جرأة من المدينة لمهاجمته".

 

مقاتل سراسيني انتحاري

 

كان هناك قتال شرس لبعض الوقت، وفي النهاية افترق الجيشان من دون تحقيق نصر. لكن حادثة غريبة وغير مسبوقة أعطت الميزة النهائية لمحاربي الشرق "العرب"، إذ خرج منهم مقاتل بشعر طويل، عاري الجسد باستثناء مئزر حول خصره، وهو يصرخ بصوت أجشّ وحزين، وسحب خنجره، وسقط في وسط المهاجمين القوط، وبعد أن قتل واحدًا منهم، وضع شفتيه على حلقه، وامتصّ دمه، فدبّ الرعب في أوساط البرابرة "من القوط والهون والآلانيين"، من هذا الإعجاز الرائع، ومنذ ذلك الوقت بدأ التردّد والخوف يظهر عليهم. مع مرور الوقت فترت حماستهم، ثمّ بعد تدمير تحصيناتهم التي شيدوها، تكبّدوا خسائر أكبر مما ألحقوها بالمحاصَرين، فرفعوا الحصار، وفرّوا بشكل عشوائي، باتجاه المقاطعات الشمالية التي اجتازوها دون قيود، حتى جبال الألب".

عد نجاح العرب (السراسين) هذا النجاح الباهر في إنقاذ القسطنطينية من الوقوع بيد البرابرة الجرمان والسكيثيين، أصبحوا حجر الزاوية في الدفاع عن بيزنطة في مواجهة هجمات الفرس الساسانيين المتلاحقة، وهؤلاء اضطروا أيضاً للتحالف مع قبائل سراسينية وثنية لمواجهة القبائل المسيحية السراسينية، وهنا برزت فترة الصراع الدامي والطويل المعروف في المصادر العربية باسم حروب الغساسنة والمناذرة.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".