وقعت معركة كربلاء في العاشر من محرم سنة 61هـ، وتحتل مكانة كبيرة في الوجدان الشيعي على وجه الخصوص- من مشهد تمثيلي
وقعت معركة كربلاء في العاشر من محرم سنة 61ه هجرية- من مشهد تمثيلي

وقعت معركة كربلاء في العاشر من محرم سنة 61هـ، واحتلت مكانة كبيرة في الوجدان الشيعي على وجه الخصوص. تحدثت المصادر التاريخية عن مجموعة من الشخصيات التي قاتلت إلى جانب الحسين في كربلاء، باعتبارهم "أبطالًا شجعانًا" اختاروا أن يضحوا بأنفسهم "في سبيل نصرة الحق". نلقي الضوء في هذا المقال على سبعة من الشخصيات التي لعبت أدوارًا مهمة في الملحمة الكربلائية، والتي يستعيد الشيعة ذكراها في شهر المحرم من كل عام.

♦ مسلم بن عقيل

هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب. تذكر المصادر الشيعية أن مسلمًا كان من أقرب الناس إلى الحسين، وأنه كان من الموالين والمناصرين له. ورد في كتاب "الأمالي" للشيخ الصدوق المتوفى 381هـ أن الرسول تحدث عن المصير الدامي الذي ينتظر مسلما قبل ولادته. تذكر الرواية أن علي بن أبي طالب سأل النبي ذات يوم "يا رسول الله إنك لتحب عقيلاً؟ قال: أي والله إني لأحبه حُبَّين، حباً له وحباً لحب أبي طالب له، وإن ولده –ويقصد بذلك مسلم– مقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون".

يذكر أحمد بن يحيى البلاذري، المتوفى 279هـ، في كتابه "أنساب الأشراف" الدور الذي اضطلع به مسلم في نصرة الحسين، فيقول: "وَكَانَ مسلم بن عقيل أرجل ولد عقيل وأشجعها فقدّمه الحسين ابن عَليّ إلى الكوفة حين كاتبه أهلها ودعوه إليها وراسلوه فِي القدوم ووعدوه نصرهم ومناصحتهم وذلك بعد وفاة الْحَسَن بن علي، وموت معاوية بن أبي سفيان، وأمره أن يكتم أمره ويعرف طاعة الناس له".

أطاع مسلم أمر الحسين. انطلق للكوفة وبدأ في جمع الشيعة. لمّا تيقن من كثرة أنصار الحسين أرسل إلى ابن عمه طالبًا منه أن يأتي إلى العراق. تطورت الأحداث بسرعة بعد ذلك، عُين عُبيد الله بن زياد كوال للأمويين على الكوفة. ونجح في تفريق الموالين للحسين وتثبيطهم، فاضطر ابن عقيل عندها للهرب والتخفي.

يذكر ابن جرير في تاريخه أن الأمويين عرفوا مكان مسلم فقبضوا عليه بعد أن قاتلهم. وتذكر المصادر التاريخية أن مسلما اُقتيد إلى عُبيد الله بن زياد فأمر بقتله. حُمل مسلم إلى سطح قصر الإمارة بالكوفة، فقطعت رأسه ثم ألقيت جثته إلى الأرض في التاسع من ذي الحجة سنة 60ه. اعتاد الشيعة في كل عام على استذكار "مصاب مسلم" في الليلة الخامسة من شهر محرم، وهي الليلة التي تُعرف بـ"ليلة مسلم بن عقيل".

♦ السيدة زينب

هي السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، شقيقة الحسين ورفيقته في معركة كربلاء. تؤكد المصادر الشيعية أن السيدة زينب شجعت الحسين ودعمته في المعركة وقت القتال. كما أنها لعبت دورًا مهمًا بعد المعركة.

يذكر ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" أن زينبا لمّا رأت الأمويين يريدون أن يقتلوا عليا زين العابدين بن الحسين -وهو الابن الوحيد للحسين الذي بقي على قيد الحياة بعد المعركة- ألقت بنفسها عليه، وقالت: "لا والله، لا يُقتل حتّى أُقتل"، فتُرك زين العابدين لحال سبيله وانصرف الجند عنه.

تكرر هذا الموقف عندما حُمل أسرى المعركة إلى الكوفة. يذكر الشيخ المفيد في كتابه "الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد" أن الوالي الأموي عُبيد الله بن زياد أمر بقتل زين العابدين ولكن منعته السيدة زينب من ذلك عندما احتضنت ابن أخيها، وقالت للوالي: "...يا ابن زياد، حسبك من دمائنا... والله، لا أُفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه"، فرضخ عُبيد الله لطلبها وانصرف عن قتل ابن أخيها.

♦ أبو الفضل العباس

هو العباس بن علي بن أبي طالب. أمه هي أم البنين بنت حزام التي تزوجها علي بعد وفاة فاطمة الزهراء. ولد العباس سنة 26هـ على أرجح الأقوال.

لعب دورًا مهمًا في معركة كربلاء. وكان صاحب اللواء يوم العاشر من محرم، وتتحدث المصادر الشيعية عن بطولاته وشجاعته الفائقة في ذلك اليوم. يشتهر العباس في الأوساط الشيعية بالسقا. كان السبب في ذلك أن الأطفال في معسكر الحسين لمّا شعروا بالعطش، حمل العباس قربته وتوجه ناحية الماء وقاتل الأمويين حتى ملأ القربة، ورفض أن يشرب من الماء لمعرفته بأن الحسين عطشان. رجع العباس ولكن الأمويين وجهوا السهام إلى قربته فقطعوها، ثم قطعوا كفه الأيمن وبعدها قطعوا كفه الأيسر. حاول العباس أن يوصل ما تبقى من المياه إلى معسكر الحسين فقبض على القربة بأسنانه، وعندها قتله الأعداء وأجهزوا عليه!

تذكر المصادر الشيعية أن الحسين أصيب بالغم والحزن لمّا عرف بمقتل العباس، وأنه قال عندها: "الآن انكسر ظهري، وقلت حيلتي، وشمت بي عدوي". اعتاد الشيعة على تبجيل ذكرى العباس في محرم من كل عام. وبنوا له مرقدًا كبيرًا بالقرب من مرقد الحسين.

♦ الحر بن يزيد الرياحي

كان أحد أمراء الجيش الأموي. وتذكر المصادر أنه كان يقود ألف رجل، وأنه كُلف من قِبل عُبيد الله بن زياد بمراقبة الحسين وبمنعه من الرجوع. يذكر البلاذري أن الحر لمّا رأى أن الجيش الأموي يريد أن يقتل الحسين وأتباعه، ترك الجيش وذهب إلى الحسين معتذرًا، وقال له: "...والله لو علِمْتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركِبْتُ منك الذي ركِبْتُ وإنّي تائبٌ إلى الله ممّا صنعْتُ فترى لي ذلك توبةً؟ فقال له الحسين: نعم يتوب الله عليك، أنت الحر في الدنيا والآخرة".

شغلت معركة كربلاء، التي وقعت سنة 61 هـ، مكانًا محوريًا في الوجدان الشيعي الجمعي عبر القرون.
عاشوراء.. ما قصة "النبوءات المقدسة" حول كربلاء ومقتل الحسين؟
يزعم العديد من الباحثين الشيعة المعاصرين أن العهد القديم تنبأ بما سيحدث للحسين وأهل بيته في كربلاء. استدل هذا الفريق بما ورد في الإصحاح السادس والأربعين من سفر إرميا "...أَعِدُّوا الْمِجَنَّ وَالتُّرْسَ وَتَقَدَّمُوا لِلْحَرْبِ...

واجه الحر الجيش الأموي بعد ذلك. وحاول أن يؤثر في الجند وأن يستميلهم لجانب حفيد النبي.

ثم رجع بعدها للحسين وطلب منه أن يقاتل للدفاع عنه، فأذن له. نزل الحر إلى ميدان المعركة وشهر سيفه وقاتل الجيش الأموي حتى قُتل.

♦ زهير بن القين

هو زهير بن القين البجلي. تذكر المصادر الشيعية أنه كان يتردد في اتباع الحسين في أول الأمر، لكنه تبعه في الأخير عند مسيره نحو الكوفة. تذكر الروايات أن الحسين لمّا رأى كثرة أعداد الجيش الأموي، عرض على أصحابه أن يتركوه وينصرفوا. رفض زهير هذا العرض.

يتحدث الطبري عن شجاعة زهير في دفاعه عن الحسين عندما كان يصلي، وأنه -أي زهير- كان قائدًا على ميمنة جيش الحسين وقت المعركة. وردت بعض الروايات التي تبيّن تفاني زهير في الدفاع عن حفيد النبي، منها قوله: "والله لوددت أنّي قتلت، ثمّ نشرت، ثمّ قتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرّة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك".

يذكر أبو المؤيد الخوارزمي، المتوفى 568هـ، في كتابه "مقتل الحسين" أن الأخير لمّا عرف بمصرع زهير في أرض المعركة، حزن وقال: "لا يبعدنك الله، ولعن قاتلك لَعْنَ الذين مُسخوا قردة وخنازير".

♦ وهب النصراني

تظهر شخصية وهب النصراني في المصادر الشيعية بشكل غامض إلى حد بعيد. قيل إن اسمه هو وهب بن عبد الله بن الكلبي. وأنه كان واحدًا من المسيحيين الذين يعيشون بالقرب من منطقة كربلاء.

تذكر بعض الروايات أن وهبًا رأى المسيح والنبي محمد وعلي بن أبي طالب والحسين في منامه ذات ليلة!، وأن المسيح قال له في تلك الرؤيا: "يا وهب... اعلم أن الذي يقف بجنبي هو محمد رسول الله وخاتم الأنبياء وأشرف الخلق وهذا الثاني هو علي بن أبي طالب وصيه وخليفته وزوج ابنته وهذا الثالث هو ريحانة رسول الله إنه الحسين بن علي. يا وهب عليك أن تنصر الحسين غدًا في كربلاء واعلم بأنك معه في الجنة وأن اسمك مع الأبرار…".

تذكر الروايات الشيعية أن وهبًا ترك زوجته التي تزوجها منذ أيام قلائل، وذهب للحسين في كربلاء وقاتل إلى جنب إلى أن قتل.

 

♦ الرضيع

تختلف المصادر الشيعية في اسم هذا الرضيع. تذكر بعضها أن اسمه هو عبد الله، فيما ورد في مراجع أخرى أن اسمه هو علي. كان هذا الرضيع هو أصغر أبناء الحسين في كربلاء، يُقال إن عمره لم يتعد ستة أشهر.

ورد في المصادر الشيعية أن السيدة زينب ذهبت للحسين لما منع الأمويون الماء عنه، وقالت له: "أخِي حُسَين هذا عبد الله قَد دَلَعَ لِسَانَهُ مِن شِدَّةِ العَطَشِ وَكَانَ بِأبِي وَنَفسِي لَهُ ثَلَاثَةُ ايَّام لَم يَذق قَطرةَ مِن المَاءِ فَهَل تَأخُذَهُ يَا أبَا عَبدِ الله لِهؤلاءِ القَومِ كَي يَسقُوَهُ شَربَة مِن المَاءِ فَانَّ امّه قَد جَفَّ لَبَنها". أخذ الحسين الطفل الرضيع العطشان وذهب إلى الجيش الأموي وطلب منهم أن يسمحوا لمعسكره بالشرب. اختلف الجند الأموي بين موافق ورافض ووقعت الفتنة في الجيش. عندها، أمر قائد الجيش الأموي عمر بن سعد بن أبي وقاص بقتل الطفل الرضيع للقضاء على الفتنة! وكلف حرملة بن كاهل الأسدي بتلك المهمة. تذكر المصادر أن حرملة رمى الطفل الرضيع بسهم مسمم ذي ثلاث شعب، وأن السهم أصاب عنق الرضيع فقتله.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".