في يوم عاشوراء -العاشر من محرم- سنة 61هـ، قُتل حفيد الرسول الحسين بن علي بن أبي طالب في أرض كربلاء بالعراق، على يد الجيش الموالي لبني أمية. أصبحت هذه الحادثة الدامية، واحدة من أهم الذكريات الأليمة في تاريخ الإسلام بوجه عام، وتاريخ التشيع على وجه الخصوص. اليوم نفسه، صادف حضورًا لذكرى أخرى لا تقل أهمية، وهي تلك التي يفرح فيها أهل السنة والجماعة "بنجاة النبي موسى وبني إسرائيل من ملاحقة فرعون وجيشه". ما بين حزن الشيعة بمقتل "سيد شباب أهل الجنة"، وفرحة السنة "بنجاة كليم الله"، اعتادت المجتمعات الإسلامية أن تشهد مجموعة من المشاعر المتضاربة في عاشوراء من كل عام.
الخلفية التاريخية: ما الذي وقع في يوم عاشوراء؟
تروي بعض المصادر السنية أن الاحتفاء بيوم عاشوراء كان معروفًا في مكة منذ فترة مبكرة. وتقول إن قريشًا كانت تصومه في "الجاهلية". رغم ذلك، تتفق أغلب المصادر على أن المسلمين تعرفوا على هذا اليوم بعد الهجرة إلى يثرب. جاء تفصيل ذلك في صحيحي البخاري ومسلم كما يلي: "قَدِمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ، فَوَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عن ذلكَ؟ فَقالوا: هذا اليَوْمُ الذي أَظْهَرَ اللَّهُ فيه مُوسَى، وَبَنِي إسْرَائِيلَ علَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا له، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: نَحْنُ أَوْلَى بمُوسَى مِنكُم فأمَرَ بصَوْمِهِ".
على الجهة المقابلة، ترفض المصادر الشيعية تلك الروايات. وتؤكد أن يوم عاشوراء لم يتمتع بأي مكانة خاصة إلا في العام الحادي والستين من الهجرة، عندما خرج الحسين بن علي بن أبي طالب إلى العراق، متوجهًا إلى أنصاره في الكوفة. فلما وصل إلى منطقة كربلاء، قطع الجيش الأموي عليه الطريق وحاربه، وقتله مع مجموعة من أنصاره.
من الروايات الشيعية التي ذكرت قصة مقتل الحسين، (حتى قبل وقوعها!)، ما نقله محمد باقر المجلسي المتوفى 1111ه على لسان الحسن بن علي قبيل وفاته: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدنا محمد صلى الله عليه وآله وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة، تمطر السماء رمادًا ودمًا، ويبكي عليك كل شيء، حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار".
عند السنة.. الفرحة بنجاة النبي موسى
ارتبط يوم عاشوراء في الثقافة السنية الجمعية بمظاهر الفرح والسرور، ووردت الكثير من الروايات التي تحض على صيامه. منها ما نُسب إلى النبي من قوله إن صيام يوم عاشوراء يكفر ذنوب السنة السابقة، وما نقله عبد الرزاق الصنعاني المتوفى 211ه في مصنفه، أن معاوية بن أبي سفيان صعد المنبر ذات يوم، وقال: "إن يوم عاشوراء يوم عيد، فمن صامه فقد كان يصام، ومن تركه فلا حرج".
إضافة إلى ذلك، وإمعانًا في التأكيد على أهمية إظهار الفرحة في عاشوراء، تم الترويج له على أنه اليوم الذي تاب فيه الله على آدم! وبأنه أيضا اليوم الذي انحسر فيه الماء عن الأرض، واستوت فيه سفينة النبي نوح على جبل الجودي! من هنا، فقد اعتاد أهل السنة والجماعة على الاغتسال والاكتحال في هذا اليوم على وجه التحديد، كما اعتادوا على "التوسعة" فيما يخص المأكل والمشرب واللباس. وفي ذلك نقل الطبراني في "المعجم الكبير" عن النبي قوله: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ سَائِرَ سَنَتِهِ".
ويعتبر الباحث الشيعي المعاصر نجم الدين الطبسي في كتابه "صوم عاشوراء بين السنة النبوية والبدعة الأموية"، أن الاحتفالات التي تتم في يوم عاشوراء في الأوساط السنية، قد ظهرت في عصر الدولة الأموية، وأن خلفاء بني أمية استنفذوا وسعهم لإلهاء الناس عن "الجريمة البشعة" التي وقعت بحق حفيد الرسول في 61هـ.
في هذا الإطار أيضا، يقول الشيخ عباس القمي في كتابه "الألقاب والكنى" عن أبي الريحان البيروني المتوفى 440ه، من أنه قد ذكر يوم عاشوراء، وتحدث عن فرحة الأمويين فيه، فقال: "...فأما بنو أمية فقد لبسوا فيه ما تجدد، وتزينوا واكتحلوا وعيدوا، وأقاموا الولائم والضيافات، وأطعموا الحلاوات والطيبات، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم وبقي فيهم بعد زواله عنهم...".
وتحدث المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي هو الآخر عن سبب الاحتفاء السني بيوم عاشوراء، فذكر في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" أن الأيوبيين لمّا أرادوا أن يتخلصوا من بقايا التأثيرات الفاطمية في دولتهم، عمدوا إلى إحياء مظاهر العيد والفرح في عاشوراء. يقول: "...فلما زالت الدولة، اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم، ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون، ويدخلون الحمام... ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب...".
يرفض السنة طبعا هذه التأويلات، ويؤكدون على أصالة شعيرة صيام عاشوراء والتوسعة فيه على الأهل منذ عهد النبي معتمدين على ما ورد في الكتب الحديثية المعتمدة عندهم.
في العصر الحديث، ظلت مظاهر الابتهاج والسرور في يوم عاشوراء قائمة في شتى أنحاء العالم السني. في البلدان المغاربية، تسود مظاهر الفرحة من خلال التوسعة في الطعام والشراب، وشراء الفواكه وصنع أصناف معينة من الحلوى. وفي مصر يُصنع طبق عاشوراء، وهو خليط من القمح واللبن والسكر والزبيب وجوز الهند والمكسرات. أما في تركيا، فيتم إعداد طبق "آشورى" من نفس مكونات عاشوراء المصرية، ولكن يُضاف إليه كل من الفاصولياء والحمص والرمان. ويسود الاعتقاد الشعبي هناك أن النبي نوح كان أول من صنع هذه الحلوى، عندما كان على ظهر سفينته!
عند الشيعة.. الحزن لمقتل الحسين بن علي
تظهر ذكرى عاشوراء في الوجدان الشيعي الجمعي على كونها ذكرى أليمة دامية. ومن هنا، كان من الطبيعي أن يستذكرها الشيعة في كل عام بمظاهر الحزن والبكاء والألم.
يعتقد الشيعة أن النبي محمدا كان أول من حزن على مصاب الحسين في كربلاء، ويعتمدون في ذلك على عدد الروايات، بما فيها الروايات السنية مثل التي وردت في مسند أحمد بن حنبل، والتي نقل فيها على لسان علي بن أبي طالب أنه دخل يومًا على النبي فوجده يبكي، فلما سأله عما جرى، قال له: "...قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات، قال فقال: هل لك إلى أن أشمك من تربته؟ قال: قلت نعم، فمد يده فقبض قبضة من تراب، فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا".
أكد أئمة الشيعة على ضرورة إظهار الحزن في هذا اليوم في الكثير من الروايات المنقولة عنهم، ووعدوا من يفعل ذلك بالثواب العظيم. من تلك الروايات ما نقله شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي في كتابه "مصباح المجتهد"، عن الإمام الخامس محمد الباقر: "من زار الحسين بن علي عليهما السلام في يوم عاشوراء من المحرم حتى يظل عنده باكيًا لقي الله عزّ وجلّ يوم يلقاه بثواب ألفي حجة وألفي عمرة وألفي غزوة. ثواب كل غزوة وحجة وعمرة كثواب من حج واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع الأئمة الراشدين".
من جهة أخرى، رفض الشيعة كل مظاهر الفرح بيوم عاشوراء، ورفضوا صيامه وكذلك. وفي ذلك، نقل محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329ه في كتابه "الكافي" أن جعفرا الصادق لمّا سُئل عن صيام أهل السنة والجماعة ليوم عاشوراء أجاب قائلًا: "مَا نَزَلَ بِهِ كِتَابٌ ولَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةٌ إِلَّا سُنَّةُ آلِ زِيَادٍ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا".
ارتبط يوم عاشوراء في المجتمعات الشيعية بمجموعة من الطقوس والشعائر، والتي عُرفت باسم "الشعائر الحسينية". بدأت بعض تلك الطقوس في عصر البويهيين الشيعة في القرن الرابع للهجرة. تحدث ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" عن بعض مظاهر الاحتفاء الشيعي بيوم عاشوراء زمن البويهيين، فقال: "غلقت الأسواق ببغداد وعطل البيع ولم يذبح القصابون ولا طبخ الهراسون ولا ترك الناس أن يستقوا الماء ونصبت القباب في الأسواق وأقيمت النائحة على الحسين". أما ابن الأثير، المتوفى 630هـ، فتحدث عن الأمر نفسه في كتابه "الكامل في التاريخ"، فقال: "خرجت النساء، منشراتِ الشعور، مسوداتِ الوجوه، يلطمنَ في الشوارع، وغلقت الأسواق".
ظلت تلك الشعائر تُمارس عبر القرون، وعدّها الشيعة إثباتًا لهويتهم ولتمايزهم عن أهل السنة. في العصر الحديث اختلفت أشكال تلك الشعائر بما يتوافق مع ظروف الحياة. على سبيل المثال، يقوم ممثلون شيعة في عاشوراء بإقامة بعض العروض المسرحية في الشوارع والميادين العامة، وهي العروض التي تشهد تجسيدًا لما وقع في مذبحة كربلاء، وما جرى فيه من قتل للحسين وأصحابه.
يمارس الكثير من الشيعة أيضا شعيرة "التطبير"، والتي يتم فيها إدماء مقدمةِ الرأس باستعمال سيف أو سكين، وكذا القيام بجلد الظهر بالسلاسل الحديدة المُسماة بالزنجيل، كما أن البعض يحي شعيرة المشي على الجمر، استذكارًا لحرق خيام آل بيت الحسين في كربلاء.