الكعبة

تسببت الأحداث المثارة على الساحة السياسية -والمجتمعية- في الفترة الأخيرة، في لفت الأنظار إلى أهمية مناقشة موضوع علاقة الإسلام بالآخر. الأمر الذي تسبب -بالتبعية- في ظهور بعض الأسئلة المستفسرة عن سبب ميل تلك العلاقة للعنف، وللشكل العدائي- الصدامي، الذي لا يقبل التهدئة أو المجاملة في أغلب الأحيان.

في الحقيقة، إن القراءة المتأنية لمدونات التاريخ الإسلامي من الممكن أن تقدم الإجابة عن بعض تلك الأسئلة، وأن تكشف لنا عن بعض الجوانب المهمة المُهملة من الصورة الكلية لعلاقة الإسلام المبكر بالآخر الديني. وهو الجزء الذي تم التشويش عليه بفعل الكثير من المؤثرات السياسية والمذهبية، تلك التي تضخمت -شيئًا فشيئًا- عبر القرون، لتؤدي في نهاية الأمر إلى اعتماد نسخة تصادمية من الإسلام، في حين تم إهمال النسخ الأخرى، ونُظر إليها على كونها مجموعة من الشبهات والروايات الضعيفة التي لا يجوز العمل بها، لتُترَك منزويةً منسيةً في بطون الكتب والمتون.

 

إن الدين عند الله الإسلام.. بين التعميم والتخصيص

 

تُعدّ الآية التاسعة عشر من سورة آل عمران "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ"، واحدةً من بين الأدلة المهمة التي يحتج بها الكثير من المسلمين في سبيل اثبات رأيهم الذاهب إلى أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول عند الله، وأن ما عداه من معتقدات مجرد "عقائد كفرية وشركية" لا نفع لها في الآخرة!

على الرغم من شهرة هذا الرأي في الأوساط الإسلامية، إلا أن الرجوع لباقي الآيات من جهة، والتفسيرات التراثية للقرآن من جهة أخرى، من شأنه تقديم وجهة نظر مغايرة إلى حد بعيد. على سبيل المثال، سنجد أن ما ورد في الآية الثانية والستين من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، يؤكد على أن طريق الخلاص والنجاة مفتوح أمام غير المسلمين، بشرط الإيمان بالله والعمل الصالح.

تختلف الديانات الإبراهيمية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، في نظرة كل منها للخلاص، وفي نظرتها للجنة.
هل يدخل "الكافر" الجنة؟ ماذا يقول الإسلام والمسيحية واليهودية؟
تحول وادي "جي هنوم"، الذي يقع بالقرب من أورشليم، والذي كان الكنعانيون يقومون فيه بتقديم الأضاحي البشرية، إلى جهنم، تلك الأرض التي تشتعل فيها النيران، والتي يلقى فيها المذنبون الجزاء على ما ارتكبوه من شرور وآثام.

المعنى نفسه ظهر في بعض التفسيرات المتقدمة - إلى حد ما- للآية التاسعة عشر من سورة آل عمران نفسها. مثلًا، سنجد أن الطبري، المتوفى 310 هـ، يفهم الآية بشكل واسع الدلالة. فبعد أن يقول إن الدين في الآية قد ورد بمعنى الطاعة، وأن الإسلام، هو الانقياد بالتذلل والخشوع، فإنه يتابع: "فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: "إنّ الدّين عند الله الإسلام": إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة".

هذا الرأي صار في القرون التالية رأيًا ضعيفًا مهجورًا، بعدما فقد الكثير من قوته أمام الآراء التي مالت للفهم الحرفي للنص، والتي قصرت النجاة والخلاص على المسلمين وحدهم دون سواهم، ومن أهم الأمثلة على ذلك، ما ورد في تفسير ابن كثير، المتوفى 774ه، والذي جاء فيه أن معنى الآية هو "إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل".

 

النجاشي وأبو طالب.. تهميش التسامح مع الآخر الديني والمذهبي

 

عرفت الثقافة الإسلامية النجاشي، أصحمة بن أبجر، ملك الحبشة، بوصفه ملكًا عادلًا، تمتع الكثير من المسلمين في بلاده بالحماية والأمان، بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت في وطنهم الأصلي بمكة المكرمة.

الاعتراف بعدل النجاشي ظهر في الكثير من المدونات التاريخية والحديثية. منها على سبيل المثال، ما ورد في سيرة ابن هشام أن النبي عندما دعا أنصاره للهجرة للحبشة قال لهم: "إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه". بحسب ما ذكرته المصادر الإسلامية، فإن النجاشي توفي في السنة التاسعة من الهجرة، وكان الوحيد الذي صلى عليه الرسول صلاة الغائب.

العقل الإسلامي التراثي -والذي أكد كثيرًا على عدم جواز الترحم على غير المسلم- عمل على إيجاد تفسير مناسب لصلاة الرسول على النجاشي المسيحي الديانة، وتمثل ذلك التفسير في القول بأن ملك الحبشة قد أسلم قبل وفاته، وأنه قد أرسل للنبي يخبره بذلك، وفي هذا السياق تحدثت بعض التفسيرات عن أن النجاشي قد بعث بابنه للمدينة ليكون في معية الرسول.

في الحقيقة، توجد الكثير من الشواهد المشككة في مسألة إسلام النجاشي، ومنها بعض الروايات التي يظهر منها أن الصحابة قد اندهشوا لما أمرهم الرسول بالصلاة على ملك الحبشة، وأنهم قد "قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟"، وذلك بحسب ما ورد في تفسير ابن كثير. في سياق آخر، أكد الكثير من الفقهاء والمؤرخين أن النجاشي لم يمارس أي شعيرة من شعائر الإسلام في حياته. فعلى سبيل المثال، يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "...وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها -يقصد النجاشي- لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم".

الجدل حول إسلام النجاشي، وحكم الاستغفار للميت غير المسلم يتصل أيضًا بما شاع من تفسيرات حول الآية السادسة والخمسين من سورة القصص "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، وهي التفسيرات التي دار معظمها حول قضية إسلام أبي طالب عم الرسول.

ولد منصور بن سرجون في عام 676م على وجه التقريب، في زمن الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان في دمشق.
يوحنا الدمشقي والهرطقة المئة.. الإسلام المبكر بعيون قس مسيحي
في دير القديس سابا بفلسطين، ناقش يوحنا الدمشقي الإسلام المبكر في كتابه المعروف باسم "الهرطقات". هذا الكتاب تم تأليفه باليونانية، ما ضمن للدمشقي الحماية الكافية من الغضب الذي كان من الممكن أن يوجهه إليه المسلمون لو اطلعوا على ما دونه في كتابه.

بالنسبة لأهل السنة والجماعة، فقد قالوا بوفاة أبي طالب على "الكفر"، إذ تواترت المصادر السنّية على تأكيد خبر رفضه للإسلام وهو على فراش الموت. فعلى سبيل المثال، يذهب ابن كثير في تفسيره للآية 56 من سورة القصص إلى أن الرسول حضر عند أبي طالب في لحظاته الأخيرة، وطلب منه أن يسلم، ولكن أبا طالب رفض ذلك بتحريض مجموعة من سادات قريش الذين خوفوه من ترك ملة عبد المطلب، فمات عم الرسول كافرًا، وقال الرسول عندها: "أما لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فنزل النهي عن الاستغفار لمَن مات على غير الإسلام، ونزلت في أبي طالب آية "إنك لا تهدي مَن أحببت، ولكن الله يهدي مَن يشاء".

على الجهة المقابلة، يرفض الشيعة الإمامية القول بوفاة أبي طالب على "الكفر"، وقالوا بإسلامه. ووردت في تفاسيرهم أقوال متعددة في سبب نزول الآية السابقة، إذ قال البعض إنها نزلت في بعض أهل الكتاب بعد هجرة الرسول إلى يثرب، وقال البعض الآخر إنها نزلت في الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

النقطة المهمة التي ينبغي الالتفات إليها هنا هي أن الجدل حول إسلام/ كفر أبي طالب قد تم تضخيمه في سياق النزاع السياسي المحتدم بين العباسيين والعلويين. ففي حين أكد العباسيون على حقهم في خلافة الرسول، من خلال التأكيد على إسلام العباس بن عبد المطلب في فترة مبكرة، وإشاعتهم أن مكوثه في مكة وإظهاره الكفر وخروجه لقتال المسلمين في بدر في العام الثاني من الهجرة، كان بناء على أمر من الرسول نفسه، فقد حرصوا في الوقت ذاته على التأكيد على إثبات "كفر أبي طالب"، وذلك لتوهين وتضعيف الأسس الدينية التي بني عليها العلويون مطالبتهم المستمرة بالحق في الخلافة.

من هنا، فإن مراجعة قصتي النجاشي وأبي طالب، والتفكر في موقفيهما من الإسلام، من شأنه أن يفتح بابًا فقهيًا واسعًا لإجازة الترحم على الميت غير المسلم من جهة، كما أنه يتيح الفرصة لفهم الطريقة التي أسهمت فيها المجادلات السياسية في تهميش فضيلة التسامح مع الآخر -الديني أو المذهبي- في التراث الإسلامي بشكل عام.

 

صلاة الرهبان في مسجد الرسول

 

من المعروف أن الكثير من أهل منطقة نجران كانوا يعتنقون المسيحية زمن النبوة، وأن بعضًا من كبار رهبانهم وأحبارهم قدموا المدينة في العام التاسع من الهجرة، لمقابلة الرسول ضمن الوفود الكثيرة التي قصدت عاصمة المسلمين في تلك الفترة.

على الرغم من كثرة وتعدد الآراء الفقهية التي تذهب إلى وضع قيود صارمة على أماكن وطرق ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية، فإن قصة لقاء رهبان نجران بالنبي احتوت على إشارة مهمة من شأنها تقديم وجهة نظر مغايرة في تلك القضية.

بحسب ما يذكره ابن هشام في السيرة النبوية عن ابن إسحاق، فإن الرهبان لما قدموا على الرسول "دخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات، جبب وأردية... يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله يصلون، فقال رسول الله: دعوهم، فصلوا إلى المشرق".

على الرغم من أن الكثير من العلماء والمحدثين حكموا بضعف هذه الرواية بسبب ما فيها من إرسال، إلا أن بعضهم صححها، وبنى عليها حكمًا فقهيًا يجيز صلاة المسيحي في المسجد. من هؤلاء ابن القيم الجوزية المتوفى 751ه في كتابه أحكام أهل الذمة، إذ يقول: "وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَنْزَلَ وَفْدَ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي مَسْجِدِهِ وَحَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَصَلوا فِيهِ وَذَلِكَ عَامَ الْوُفُودِ".

 

صورة المسيح وأمه في الكعبة.. القصة التي ذكرها الأزرقي والذهبي

 

من المعروف أن الثقافة الإسلامية لا ترحب بالأيقونات والتماثيل وتعتبرها شبيهة بالأصنام والأوثان. هذا التوجه -وعلى الرغم من شيوعه- لا يتفق مع بعض المرويات التي جاء ذكرها في المدونات التاريخية. على سبيل المثال، ذكر أبو الوليد الأزرقي المتوفى في حدود 250ه، في كتابه "أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار"، أن الكعبة في الجاهلية كانت تحتوي على الكثير من التماثيل والصور، منها صورة للنبي إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام، وصورة أخرى للمسيح عيسى بن مريم مع أمه.

بحسب الأزرقي، فإن الرسول لما فتح مكة في العام الثامن من الهجرة توجه إلى الكعبة "ودخل إلى البيت، فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: امحوا الجميع إلا ما تحت يدي". هذه الحادثة، نقلت في الكثير من المصادر المعتبرة في القرون التالية، ومنها تاريخ الإسلام لشمس الدين الذهبي المتوفى 748ه، إذ أوردها ثم علق عليها ببعض الشواهد المثبتة لها، ومن ذلك ما ورد عن التابعي عطاء بن أبي رباح المتوفى 114ه، من أنه لما سُئل عن هذه الصورة، قال: "أدركت تمثال مريم مزوقًا في حجرها عيسى قاعد، وكان في البيت -يقصد الكعبة- ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب". ولما سئل عطاء عن توقيت إزالة هذا التمثال من الكعبة، أجاب بأن ذلك قد وقع في الحريق الذي نشب بالكعبة في زمن عبد الله بن الزبير سنة 64ه.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".