كانت قضايا القدر والجبر والاختيار محور نقاشات المتكلمين الأوائل، وهي النقاشات التي جابهتها السلطات الحاكمة بالقوة وأعدمت بسببها عددا من رواد علام الكلام.
كانت قضايا القدر والجبر والاختيار محور نقاشات المتكلمين الأوائل، وهي النقاشات التي جابهتها السلطات الحاكمة بالقوة وأعدمت بسببها عددا من رواد علام الكلام.

ما إن استقرت أحوال الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (646 - 705م)؛ حتى بدأت أصداء الجدل اللاهوتي المسيحي تتردد في دمشق عاصمة الخلافة، ولكن بأسماء ورموز إسلامية. مسيحيا، انصب النقاش تاريخيا حول قضايا تتعلق بطبيعة المسيح، والتثليث، وموقع السيدة العذراء في العقيدة. ووصل هذا الجدل إلى الاحتراب المدمر بين المذاهب الرسمية (الأرثوذوكس والكاثوليك) والمذاهب المعادية لها، خصوصاً الكنيستين النسطورية والمونوفيسية. أما على المستوى الإسلامي، فإن النقاش حول وحدانية الإله كان محسوما تماما، لذا انصب النقاش على قضايا تتعلق بالقدر والجبر والاختيار.

كانت هذه القضايا هي محور نقاشات الجيل الأول من المتكلمين المسلمين، المتأثرين بالجدل اللاهوتي المسيحي، وهي قضايا سبق أن عالجتها الفلسفة اليونانية بنسخها المختلفة، وآخرها الأفلاطونية الحديثة، صاحبة التأثير الأكبر على لاهوتيي المسيحية، ومتكلمي الإسلام فيما بعد. ولكن مغامراتهم الفكرية جوبهت برفض حاسم من جيل التابعين وصل إلى تطبيق حد الحرابة الخاص بالمفسدين في الأرض ضدهم!

• معبد الجهني أول القدريين

تشير المصادر الإسلامية إلى أن بوادر الجدل العقائدي ظهرت مع معبد الجهني الذي كان أول من قال بالقدرية. والقدرية تعني أن الإنسان هو خالقُ فعلِ قدره، أي أنه مخير وليس مسير. وكان هذا يعني فيما يعنيه أن الله لا يعلم بالأمور إلا بعد وقوعها!

وثمة شبه إجماع بين المؤرخين المسلمين على أن أصل هذه العقيدة مسيحي، فقد ذكر ابن قتيبة الدينوري، وابن الأثير الجزري، والحافظ الذهبي، وابن كثير الدمشقي أن معبد الجهني أخذ عقيدته عن نصراني من الأساورة يقال له أبو يونس! والمعروف أن المذهب الغالب على العراق وإيران في ذلك الوقت هو المذهب النسطوري الذي يميز بين طبيعتين مستقلتين للمسيح، الأولى إلهية مستقلة كلياً عن الثانية البشرية.

ولد منصور بن سرجون في عام 676م على وجه التقريب، في زمن الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان في دمشق.
يوحنا الدمشقي والهرطقة المئة.. الإسلام المبكر بعيون قس مسيحي
في دير القديس سابا بفلسطين، ناقش يوحنا الدمشقي الإسلام المبكر في كتابه المعروف باسم "الهرطقات". هذا الكتاب تم تأليفه باليونانية، ما ضمن للدمشقي الحماية الكافية من الغضب الذي كان من الممكن أن يوجهه إليه المسلمون لو اطلعوا على ما دونه في كتابه.

ولا شك في أن الجدل البسيط حول هذه المقولة يفضي إلى التمييز بين القدر والاختيار، وهما لب الجدل الأول الذي أثير في تاريخ الإسلام مع معبد الجهني. ويُرجع مؤرخ الفلسفة الإسلامية ت. ج. دي بور (Tjitze Jacobs De Boer) أصول الجدل الإسلامي في العصر الأموي إلى أصل مسيحي، فالمسيحيون الشرقيون، وخصوصاً النساطرة كانوا يؤمنون بالاختيار، أي أنهم قدريون (أي ينفون القدر) بشكل أو بآخر. أي أن سبب قدريتهم نابع من جدل الطبيعتين المختلفتين أو المتحدتين للسيد المسيح.

ومن هنا؛ فإن نقل هذه الأفكار إلى ديانة تتبنى التوحيد، خلق مشكلة كبرى، لأن الإله الواحد، بالفهم الإسلامي، هو إله أعلى، كلي القدرة، لا يمكن لشيء أن يحدث خارج إرادته، أو علمه، وهي قضية مركزية في الإسلام، بينما هي قضية ثانوية في المسيحية، وتأتي في الدرجة الثانية، ومرتبطة بفهم طبيعة المسيح. ولذلك شكلت أفكار معبد الجهني صدمة كبرى عند الجيل الأول من التابعين، الأمر الذي أدى إلى تبني عدد كبير منهم الدعوة إلى قتله.

ويبدو أن أمر فهم طبيعة أفكار معبد الجهني لم يكن صعباً على الخليفة عبد الملك بن مروان، هو فقيه مشهود له من جيل التابعين، فلم يتردد بإصدار حكم حد الحرابة عليه بالصلب ثم القتل بحسب بعض الروايات.

• الحارث بن سعيد المتنبئ

في الفترة نفسها، ظهر الحارث بن سعيد، الموصوم بالتنبؤ، وهو مصطلح غامض يوحي بادعاء النبوة، ولكننا نجد أن غيلان الدمشقي المتهم هو الآخر بالقدرية مثل معبد الجهني، تساق له تهمة اتباع الحارث بن سعيد، وهو ما يعني أن الحارث كانت لديه وجهة نظر بالجبر والاختيار، وليس مجرد "نبي كاذب" كما تقول المصادر الإسلامية المتأخرة.

ينحدر الحارث بن سعيد من منطقة الحولة، في أقصى شمال فلسطين الحالية، وكان مقيماً في دمشق، وعرف بزهده وتعبده، وكان ينشر أفكاره بالسر كما يقول ابن كثير، إذ كان يجيء إلى أهل المسجد رجلاً رجلا،ً فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه. وهناك أحاديث عن ممارسته "السحر" و"الشعوذة"، كما يقول ابن أبي خيثمة في روايته، إلى أن وشى به شخص يدعى القاسم بن مخيمرة لقاضي دمشق أبي إدريس، ثم أعلم أبو إدريس هذا الخليفة عبد الملك بذلك، فطلبه عبد الملك طلبا حثيثاً، الأمر الذي دفعه للهرب إلى مدينة الناصرة في الجليل، حيث وشى به شخص ناصري. فأرسل الخليفة له طائفة من الجند الأتراك الفرغانيين الذين قبضوا عليه وأحضروه إلى دمشق وهم يقولون له بلكنتهم التركية "هذا كرانا" أي هذا قرآننا"، وقد أصدر الخليفة عليه حكم حد الحرابة فصلب على خشبة، ثم أمر رجلاً بأن يطعنه.

ولذلك؛ فإن كل ما قيل عن الحارث بن سعيد حول ادعائه النبوة، ما هو إلا رواية من طرف واحد، فنحن لا نعرف أفكار الرجل، ولم يحدِّث أحد بأخباره، ولكن لجوءه إلى الناصرة، مهد السيد المسيح، قد يعطي مؤشراً على البيئة التي عاش فيها، بالإضافة إلى علاقة غيلان الدمشقي به ورعاية أرملته.

• غيلان الملتبس

أما غيلان الدمشقي (؟-724م) فتتشعب قصته، ويتداخل فيها العقائدي بالسياسي. ومع غيلان تتضح أكثر فأكثر أبعاد هذه الحركة التي تجادل في واحدة من أكثر القضايا الإسلامية حساسية.

ينسب غيلان إلى القدرية التي يقول مؤرخو الإسلام إنه أخذها عن معبد الجهني، ولكنهم يشيرون أيضاً إلى أن له علاقة خاصة مع الحارث بن سعيد، وهي علاقة يعيدها بعض الدارسين إلى أصل مسيحي، على اعتبار أن غيلان قبطي مونوفيسي بالأصل، والحارث بن سعيد مسيحي الأصل هو الآخر.

وتنطوي قصة غيلان على مناظرة لاهوتية مع الإمام الأوزاعي بحضور الخليفة هشام بن عبد الملك، ربما هي المناظرة الأولى في العصر الأموي، وملخصها: أن الأوزاعي سأل غيلان ثلاث أسئلة، وفي روايات أربع، وحتى خمس، ولكن أهم هذه الأسئلة هي: "هل علمت أن الله أعان على ما حرّم؟ قال غيلان: ما علمت وعظمت عنده. قال: فهل علمت أن الله قضى على ما نهى؟ قال غيلان: هذه أعظم، مالي بهذا من علم. قال: فهل علمت أن الله حال دون ما أمر؟ قال غيلان: حال دون ما أمر؟ ما علمت. فقال الأوزاعي: هذا مرتاب من أهل الزّيغ".

وهذا يعني أن الأوزاعي حكم عليه بالإفساد في الأرض، بدليل أن الخليفة هشام بن عبد الملك أمر بقطع يده ورجله، وإلقائه في الكناسة، ثم بعد ذلك، أمر بقطع لسانه وضرب عنقه. ويذكر المؤرخون أن الخليفة هشام التفت إلى الأوزاعي وقال له بعد تنفيذ الحكم: "قد قلت يا أبا عمرو ففسّر، فقال: نعم؛ قضى على ما نهى عنه: نهى آدم عن أكل الشجرة، وقضى عليه بأكلها. وحال دون ما أمر، أمر إبليس بالسجود لآدم وحال بينه وبين ذلك. وأعان على ما حرّم، حرّم الميتة وأعان المضطر على أكلها". وهذا يعني أن الخليفة هشام لم يفهم ما دار في المناظرة، وأصدر أمره بإقامة حد الحرابة على معبد غيلان بناء على فتوى من الأوزاعي.

وينسب بعض الدارسين المعاصرين، مثل الدكتور محمد عمارة، لغيلان موقفاً ثورياً من حكم بني أمية، حيث يقول إن سبب إعدام غيلان ليس عقائدياً، بل سياسياً، لأنه دعا إلى رد المظالم التي ارتكبها الأمويون، وأنه هو السبب وراء محاولات الخليفة عمر بن عبد العزيز رد مظالم بني أمية، والمقصود عزمه على إعادة المسجد الأموي إلى المسيحيين لتحويله إلى كنيسة، وغيرها من قرارات وصفت بالثورية. وهو رأي يحتاج إلى تمحيص، خصوصاً أن كتب التاريخ الإسلامي تتحدث عن نهي عمر بن العزيز لغيلان عن أفكاره، وأخذه عهداً عليه بالإقلاع عنها.

ويبدو أن أفكار غيلان لم تمت بإعدامه وإنما استمرت في جماعة من أتباعه دعيت بـ "الفرقة الغيلانية"، وهي فرقة استمر وجودها إلى العصر العباسي. وبحسب المؤرخين المسلمين تجمع هذه الفرقة بين فكر المعتزلة وفكر المرجئة.

• الجعد بن درهم وعلم الكلام

بعد إعدام غيلان ظهر في دمشق الجعد بن درهم (666- 724م)، الذي قيل أيضاً إنه تأثر بالجدل اللاهوتي المسيحي حول طبيعة المسيح، ولكن أفكاره تنتمي بشكل أو بآخر للأفلاطونية الحديثة التي تنزه الإله الأعلى عن الصفات. وهو ما يعني أن جدل الجعد بن درهم مع المسيحيين قاده إلى أفكار جديدة تتناسب مع المعتقد الإسلامي التوحيدي، وليس نسخ الأفكار ونقلها كما يقول مؤرخو الإسلام.

ويذكر ابن كثير أن الجعد نشأ في حي القلاسيين وهو من أحياء المسيحيين في دمشق قرب الكنيسة، فيما يتهم ابن عساكر في تاريخ دمشق، والذهبي في "تاريخ الإسلام" الجعد بأنه أخذ أفكاره عن بيان بن سمعان التميمي النهدي، الذي نادى بألوهية علي بن أبي طالب وقال إن لاهوته متحد بناسوته، وهي، كما يظهر جلياً الأفكار نفسها التي تنطوي عليها "العقيدة المونوفيسية" التي يتبعها السريان الغربيون والأقباط، ولكنها منسوخة عن المسيح مسقطة على الإمام علي بن ابي طالب.

كفّروا مخالفيهم وبطشوا بأعدائهم.. الوجه الآخر للمعتزلة
يقدّم المعتزلة دائما على أنهم حاملو لواء العقل ودعاة التنوير، وأن أفكارهم سابقة لعصرها. في هذا المقال نلقي الضوء على الوجه الآخر للمعتزلة: كيف سقطوا هم أيضا في فخ التكفير والتفسيق والتبديع، وكيف عملوا على البطش بمعارضيهم.

ولا شك في أن هذا الاتهام محض أوهام، نظراً للافتراق الكبير بين النظرة المونوفيسية المسيحية، ورؤية الجعد لطبيعة الإله الواحد المنزه عن الصفات التي توحي بالتشبيه والقابلة للتأويل، ومن بينها صفة الكلام. ولذلك كان الجعد ينفي أن يكون الله قد كلم موسى تكليماً، وأن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلاً، أي أنه وصل إلى القول بخلق القرآن بناء على تنزيهه للإله. وربما هذا مصدر الاعتقاد الزائف بأنه تأثر ببيان بن سمعان الذي كان يقول أيضاً بخلق القرآن، ولكن ليس بسبب تنزيه الله عن الصفات، بل بسبب إيمانه بالطبيعتين الإلهية والبشرية للإمام علي بن ابي طالب. فالكلام الذي هو القرآن صدر كمعنى عن الطبيعة الإلهية، وكلفظ وكتابة صدر عن الطبيعة البشرية.

ويبدو أن الجعد قد غادر دمشق إلى الكوفة، بعد ان رأى بعينيه مصير غيلان ومن سبقه من الخائضين في الجدل اللاهوتي. وبعد أن بلغ خبره الخليفة هشام بن عبد الملك، كلف واليه على الكوفة خالد بن عبد الله القسري بالقبض عليه. ويقال، وهو خبر غير مؤكد، أن القسري ضحى بالجعد في أول يوم من أيام عيد الأضحى عام 724م.

ورغم موته، سواء قتلاً أو ميتة طبيعية؛ فإن أفكار الجعد لم تمت إذ تطورت على يدي تلميذه الجهم بن صفوان الذي قتل هو الآخر بعد أربعة أعوام، وترك خلفه تلاميذ واتباعا أطلق عليهم اسم "الفرقة الجهمية"، وهي الفرقة التي أثرت عميقاً بفكر المعتزلة، وخصوصاً قولهم بخلق القرآن.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".