بعد أكثر من ثلاثة عقود على عمليات التنقيب الآثاري في منطقة سهل البطيحة في الجولان السوري، بحثاً عن مدينة بيت صيدا، حيث ولد خمسة من تلاميذ السيد المسيح، وحيث قام بعدد من "المعجزات" الشهيرة في الكتاب المقدس، تمكن الباحثون قبل أيام من قراءة نقش فسيفسائي يشير بشكل مؤكد إلى كنيسة على اسم القديس بطرس، يفترض أنها بنيت في مكان البيت الذي ولد فيه هو وشقيقه القديس أندراوس. وهذا كشف كبير قد يزيل الغموض ويحسم الجدل حول موقع مدينة بيت صيدا التي تعد واحدة من أهم أماكن الحج المسيحية.
عثر على الكنيسة التي بنيت في عهد الإمبراطور قسطنطين العظيم (272-337 م) في موقع "العرج" القريب من قرية المسعدية على شاطئ بحيرة طبرية الشمالي الشرقي، من جانب فريق التنقيب التابع لمعهد آثار كينيرت (طبرية)، برئاسة البروفيسورين مردخاي أفيام وستيفن نوتلي. وقرأ النقوش التي من المفترض أن تصدر في دراسة علمية خلال فترة قريبة، البروفيسور ليا دي سيجني من الجامعة العبرية، والبروفيسور جاكوب أشكنازي من كلية كينيرت.
ومما أفصح عنه العالمان، فإن النقش المعني محاط بميدالية دائرية مكونة من سطرين من الحجارة السوداء، ويشير إلى اسم المتبرع وهو "قسطنطينوس خادم المسيح"، وقد يكون الإمبراطور نفسه، ولقب القديس الذي كرست الكنيسة له هو "رئيس وقائد الرسل السماويين" وهذا لقب يطلق على القديس بطرس باعتباره الرسول الأول بعد المسيح، وهو يحتل جزءًا من أرضية فسيفسائية في غرفة الشماس بالكنيسة، مزينة جزئياً بأشكال نباتية وهندسية.
وعلى الرغم من وجود إشارات تشير إلى أن القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين ربما زارت المكان وأشرفت على بناء الكنيسة، إلا أن موقع المدينة الصحيح تم ذكره للمرة الأولى في عام 530م حين ذكر الإمبراطور تيودوسيوس أن موقع بيت صيدا إلى الشرق من كفر ناحوم بستة أميال، وعن منابع الأردن بنحو خمسين ميلاً. ويمكن القول إن ويليبالد، رئيس أساقفة بافاريا إيخستات، هو أول من أشار إشارة صريحة إلى هذه الكنيسة عندما زارها في العام 724م في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، حيث كتب محرر الرحلة: "ومن كفر ناحوم ذهبوا إلى بيت صيدا، مقر إقامة بطرس وأندراوس، حيث توجد الآن كنيسة في موقع منزلهم. باتوا هناك ليلتهم، وفي صباح اليوم التالي ذهبوا إلى كورازين (موقع الكرسي حالياً)، حيث شفى ربنا الممسوسين، وأرسل الشيطان إلى قطيع من الخنازير".
المدينة المفقودة
كانَ موقع بيت صيدا الحقيقي محل خلاف ومادة للجدل لدى الرحالة وعلماء الآثار الكتابيين في القرن التاسع عشر، وقد تم توثيق أكثر من 20 محاولة لتحديد موقع المدينة من قبل حجاج ورجال دين مسيحيين قبل عام 1800. وفي العقود الثلاثة الأخيرة، توصل علماء الآثار مستفيدين من المعطيات العلمية الجديدة إلى ما يشبه الإجماع بشأن موقع بيت صيدا وهو سهل البطيحة الذي يقبع في وسطه تل أثري يدعى تل الأعور.
بلغت بيت صيدا موقعاً بارزاً في التاريخ المسيحي عبر ارتباطها بالعديد من الأحداث الرئيسية في حياة السيد المسيح وحوارييه. وقد أشار العهد الجديد إلى أن هذه المدينة التي يعني اسمها مكان صيد السمك تقع إلى الشرق من نهر الأردن أي في منطقة الجولان، حيث التقى فيها يسوع بأتباعه الأوائل: بطرس وأندراوس ابنا يونا، ويوحنا ويعقوب ابنا صياد السمك زبدي، ورفيقهم الخامس فيليب الذي يوصف بأنه أخو المسيح. ويذكر "العهد الجديد" أن يسوع قام في بيت صيدا بمعجزة إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين، وكذلك معجزة علاج الرجل الأعمى، ومعجزة المشي على الماء!.
محطات تاريخية
يذكر المؤرخ اليهودي جوزيفوس فلافيوس أن فيليب ابن هيرود الذي حكم الجولان من عام 4 قبل الميلاد إلى 34 ميلادية طوّرَ قريةَ بيت صيدا في سنة 30 ميلادية وجعلها مدينة "polis" وقام بتقوية تحصيناتها وزاد في عدد سكانها وأطلق عليها اسم "Julias" تكريماً لبنتِ الإمبراطور أغسطس قيصر. ولا يتضح لنا من خلال الأناجيل إن كانت بيت صيدا مدينة أو قرية عندما زارها السيد المسيح، فمتى ولوقا يصورانها كمدينة بينما مرقص يعتبرها قرية. وبالمقارنة مع قيصرية فيلبي والتي هي بانياس الجولان فإن فيها الكثير من معايير المدن حيث تسيطر على أراض شاسعة.
أما الدليل الذي يمكن أن يدعم كون بيت صيدا مدينة في عصر السيد المسيح وجود تراتب اجتماعي. فبالإضافة إلى تعامل السيد المسيح مع المستضعفين والمرضى ومؤازرته لهم في معظم وقته، نجد أنه تَعاملَ أيضاً مع شخص ثري هو زبدي الذي كَانَ قادراً على استخدام الأجراء. هذا التمايز الطبقي قد يؤشر إلى تركيبة مدينة وليس قرية.
رحلة البحث
وقد تشوشت الصورة كثيراً منذ الحروب الصليبية وحتى القرن الثامن عشر، عندما حج ريتشارد بوكوك وهو رئيس أساقفة أنغليكاني عام 1738 إلى شاطئ طبريا وشكك بمكان بيت صيدا حيث كان شائعاً في ذلك الزمن أن موقع عين التينة على الضفة الغربية لنهر الأردن هو المكان الذي يحج إليه المؤمنون على خطى السيد المسيح. وعندما قام مؤسس علم الآثار الكتابي البروفيسور الأميركي إدوارد روبنسون برحلته الاستكشافية إلى الأرض المقدّسة في 1838، تسلق التل الذي ينتصب وسط سهل البطيحة وحدّدَ مكان بيت صيدا على مسافة ميل ونصف الميل عن شاطئ البحيرة. وبعد أكثر من عشر سنوات أكد تومسون، وهو عالم آثار كتابي آخر أن أهالي البطيحة أخبروه أن بيت صيدا هي المسعدية، وهي إحدى قرى البطيحة وتقع إلى الجنوب الشرقي من التل، وهذا يدل على أن الاسم ظل متداولاً ومعروفاً من قبل أهل البلاد. وبعد نحو نصف قرن اقترح عالم الآثار الألماني غوتليب شوماخر موقع المدينة في قرية العرج أو المسعدية على اعتبار أن بيت صيدا كانت على الشاطئ، وهو المكان نفسه الذي عثر فيه على الكنيسة المذكورة.
حل اللغز
في العام 1991 تشكل ائتلاف أكاديمي عالمي للبحث عن بيت صيدا، حيث شاركت فيه 17 جامعة وكلية من كافة أنحاء أميركا وأوروبا، برئاسة جامعة نبراسكا أوماها، وجامعة هاردفورد الأميركيتين. وترأس فريق التنقيب البروفيسور رامي عرب.
واعتمد فريق علماء الآثار على خبرات البروفسور جاك شرودر، الذي ألقىَ نظرة واحدة فقط على الخرائط الجيولوجية للمنطقة، ثم صاغ الفرضية التي حلت اللغز في نهاية عام 2001، وملخصها أن خط شاطئ البحيرة اليوم ليس بالضرورة هو نفسه الخط القديم. فالتل يقع فوق أحد أكثر المواقع الزلزالية نشاطاً في العالم. وقد دعم نظرية شرودر العثور على كائنات بحرية بعيدة عن الشاطئ، وهو ما يشير إلى تغير منسوب البحيرة وانزياح خط الشاطئ.
وبتحليل الكاربون 14 تبين أن مواد عضوية كانت تحت الصخور يعود تاريخها إلى الفترة بين عامي 68 و375 ميلادي. ولذلك، اتفق علماء وخبراء الائتلاف الأكاديمي على نتيجة واحدة تتمثل بوقوع حدث كارثي، من المرجح أنه زلزال كبير ترافق مع فيضان، وقع عام 363 م، كنس كمية كبيرة مِنْ الصخور والحصى والتربة ومصنوعات يدوية عبر السهلِ الذي يمتد أمام التل، بشكل قطع صلة بيت صيدا عن خط الشاطئ.
لوحة آثارية
من الاكتشافات الجديرة بالاهتمام بوابة للمدينة تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهي من أفضل البوابات التي ما زالت محتفظة بتفاصيلها في عموم المنطقة. وطبقا للمسح الراداري فإن حائط المدينة الذي مازال يحتفظ بارتفاع يبلغ أكثر من متر ونصف المتر يعود إلى فترة أقدم من هذا التاريخ. وعليه، فإن المدينة بنيت على مرحلتين وفي جزأين، جزء مرتفع وجزء منخفض. الجزء المرتفع يضم الأبنية العامة والتحصينات، والجزء الأوطأ يضم الحيّ السكني.
كتلة بوابة المدينة تظهر وجود بابين لكل منهما برجان، باب للمدخل الخارجي وآخر للداخلي، يفصل بينهما ميدان معبّد كبير، وتظهر الأرض المرصوفة آثار عجلات العربات التي يبدو أنها كانت منتشرة بكثرة. كما عثر على أربع غرف مليئة بالأنقاض تعود إلى بناء عام للمدينة من الفترة التي سبقت الهجوم الآشوري، والغريب أن البوابة امتصت صدمة الهجوم الآشوري وكذلك صدمة زلزال كبير أصابها.
وتم التنقيب في حي يعود إلى الفترة الهللينية (332-37 قبل الميلاد)، وتبين أنه يتضمن عدداً من البيوت الخاصة وفي كل بيت عدد من الغرف التي تحيط بفناء مبلط. وفي شرق الفناء مكان نموذجي كمطبخ وإلى الشمال غرفة طعام ويعتقد فريق الآثاريين أن غرف النوم كانت في طابق ثان.
أحد البيوت يعود إلى صياد سمك، وجدت فيه أدوات تعبر عن ثقافة متطورة ارتبطت بصناعة صيد السمك مثل شبكة صيد مع ثقالاتها ومراسي وإبر وصنارات صيد. إحدى الصنارات لم تكن قد ثنيت، مما يشير إلى أنها صنعت في المكان، كما عثر على مفتاح بيت الصياد محتفظاً بشكله العام رغم أنه مصنوع من الحديد، وقد تم إهداء نسخة مصنوعة طبق الأصل من هذا المفتاح للبابا يوحنا بولص الثاني عندما زار الأراضي المقدسة مطلع الألفية الثالثة وطاف بمروحية فوق موقع بيت صيدا لإلقاء نظرة على هذا المكان المقدس.
وجد أيضاً ختم من الصلصال، يصوّر شبكة تعود إلى سفينة فينيقية الطراز ومقدمة سفينة على شكل رأس حصان. وكل ذلك يدعم نظرية أن بيت صيدا كانت أقرب إلى الشاطئ في عهد السيد المسيح. ووجد أيضاً بيت يحتوي قبواً للتخمير وجرار نبيذ كبيرة، وقد دعي هذا المكان "بيت صانعِ النبيذ".