زار البابا فرنسيس الأراضي العراقية في مارس سنة 2021م في رحلة تاريخية حظيت باهتمام واسع من قِبل ملايين المسيحيين المنتشرين حول العالم. أتت تلك الزيارة في أعقاب نجاح القوات العراقية في هزيمة تنظيم داعش، واسترداد كافة المدن التي خضعت للتنظيم في السنوات السابقة.
أكد بابا الفاتيكان في زيارته أن "التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط، ضرر جسيم لا يمكن تقديره". ورحب في كلمته التي ألقاها في الموصل "بعودة الجالية المسيحية إلى الموصل لتقوم بدورها الحيوي في عملية الشفاء والتجديد". كذلك صلى البابا "من أجل ضحايا الحرب والنزاعات المسلحة"، مؤكدا أن "الرجاء أقوى من الموت، والسلام أقوى من الحرب".
في الواقع، تعرض المسيحيون في المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا للعديد من المخاطر. بحسب بعض التقارير لم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من أصل 1.5 مليون مسيحي تواجدوا في العراق في سنة 2003م. أيضًا، تشير بعض التقديرات إلى أن هناك أكثر من 700 ألف مسيحي سوري فروا من بلادهم في أعقاب اندلاع الحرب في 2011م.
نلقي الضوء في هذا المقال على بعض الكنائس المهمة في العراق وسوريا. لنرى كيف احتفظت تلك المباني بذاكرة الأقليات المسيحية في البلدين. ولنتعرف على جانب من الظروف الصعبة التي لاقاها المسيحيون في السنين القليلة الماضية.
• كنيسة القديس يوسف
تقع كنيسة القديس يوسف في العاصمة العراقية بغداد. بُنيت سنة 1871م، وهي تتبع الكنائس الكاثوليكية اللاتينية. في أثناء الحرب العالمية الأولى، استولت القوات التركية العثمانية على الكنيسة وحولتها إلى مستشفى. وبعد هزيمة الأتراك ورحيلهم، تمت إعادة افتتاح وتجديد الكنيسة مرة أخرى في سنة 1923م.
تشتهر كنيسة القديس يوسف بشكل المميز، فهي عبارة "عن مبنى على شكل صليب له قبة نصف كروية رائعة مع أسطوانة دائرية ونوافذ على مستوى جناح الكنيسة، ويبلغ ارتفاعها 32 متراً، يعلوها فانوس مثمن الشكل يوجد على قمّته صليب. عن بعد، نستطيع رؤية الكنيسة بوضوح كمنارة في الحي".
رغم تميز عمارتها، تعاني الكنيسة من الكثير الأضرار ويطلب القائمون عليها العمل على ترميمها. حظيت الكنيسة بتسليط الأضواء عليها عندما زارها البابا فرنسيس وترأس القداس بها بحضور بطريرك بابل للكلدان الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو.
كنيسة القديس يوسف للاتين، #بغداد - 1900.
— Gilgamesh nabeel (@GilgameshNabeel) May 23, 2022
بُنيت كنيسة #مار_يوسف للاتين في بغداد بفضل الآباء الكرمليين، وتم تكريسها عام 1871 بعد خمس سنوات من العمل. لكونها أكثر من مجرد كنيسة أبرشية، كانت كنيسة مار يوسف بمثابة كاتدرائية اللاتين في بغداد. pic.twitter.com/xuoZmyUkpU
• كنيسة سيدة النجاة
تقع كنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة في العاصمة العراقية بغداد. تتبع الكنيسة للسريان الكاثوليك، وترتبط في الوجدان العراقي الجمعي بذكرى مؤسفة. في أواخر شهر أكتوبر سنة 2010م، اقتحم مسلحون تابعون لتنظيم دولة العراق الإسلامية الكنيسة أثناء تأدية مراسيم القداس. تم احتجاز العشرات من المسيحيين داخل الكنيسة كرهائن لساعات عدّة. بعدها، اقتحم رجال الأمن الكنيسة لتحرير الرهائن، ولكن قام المسلحون بتفجير أنفسهم. لقي ما يقرب من الستين شخصًا مصرعهم أثناء الاقتحام، فيما أصيب المئات من المسيحيين بجروح مختلفة.
كنيسة سيدة النجاة - بغداد ✨#MyIraq pic.twitter.com/xe1y9TqRIb
— This Is My Iraq (@MyIraq) December 26, 2015
• كنيسة الساعة بالموصل
تسمى هذه الكنيسة بكنيسة اللاتين أو كنيسة الدومنيكان، وتُعرف في الأوساط الشعبية باسم كنيسة الساعة، لكونها تقع في حي الساعة بمدينة الموصل. بُنيت هذه الكنيسة في ستينات القرن التاسع عشر على الطراز الروماني البيزنطي. وكانت مركزًا للآباء الدومنيكان، وهي تابعة للمذهب الكاثوليكي.
اشتهرت الكنيسة ببرجها العظيم، وبالساعة الشهيرة التي أُهديت إلى الآباء الدومنيكان من قِبل الإمبراطورة أوجيني دي منتيغو زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث. قامت عناصر تنظيم داعش بنهب محتويات الكنيسة، ثم أقدموا على تفجيرها في الثاني من أبريل سنة 2016م. في أبريل سنة 2020، أعلنت منظمة اليونسكو أنها ستبدأ -بمشاركة السلطات العراقية والدومنيكان- بمشروع إعادة ترميم الكنيسة.
كنيسة الساعة (اللاتين) , شقيقة جامع النوري والحدباء بالموصل , سيتم قريبا الشروع قريبا بإعمارها على نفقة دولة ألامارات العربية المتحدة , بأشراف منظمة يونسكو و بموافقة رعية الدومنيكان .
— Amer Ibrahim عامر إبراهيم (@amiraljubori) April 25, 2020
-----
رموز نظام الحرامية أكيد سيتصدرون إفتتاحها . pic.twitter.com/GNTPJnTwix
• كنيسة الطاهرة الكبرى
تقع كنيسة الطاهرة الكبرى في قرقوش بمحافظة نينوى. وقد بُنيت في النصف الأول من القرن العشرين. تعرضت الكنيسة للتخريب في فترة سيطرة تنظيم داعش على الموصل. تم تحويل الكنيسة إلى ثكنة عسكرية، واستخدمت حجراتها كمخازن للسلاح، كما استخدمت الكنيسة نفسها كمقر للمحكمة الشرعية. سُلطت الأضواء على الكنيسة عندما زارها البابا فرنسيس في رحلته إلى العراق.
كنيسة الطاهرة الكُبرى في قضاء الحمدانية بمحافظة نينوى 🖤
— أماكن العراق 🇮🇶 IRAQ PLACES (@iraq_places) June 2, 2021
Tahira chruch in Neniveh.
- Avoon📸 pic.twitter.com/YksUwn7Lt2
• الكنيسة المريمية
يعتقد الكثير من الباحثين أن الكنيسة المريمية بدمشق هي أقدم كنيسة في العالم. يرجع تاريخ تأسيسها لسنة 37م. وتُعتبر أكبر كنائس الشرق بشكل عام، ولا يوازيها في المساحة إلا كنيسة القديسين بطرس وبولس في أنطاكية.
سيطر المسلمون على الكنيسة لفترة بعد الاستيلاء على دمشق، ثم ردوها للمسيحيين الأرثوذكس عوضًا عن كنيسة يوحنا. تعرضت الكنيسة بعدها لبعض الحوادث المؤسفة، حُرقت في العصر العباسي والعصر الفاطمي. ولكن أُعيد بناؤها فيما بعد واهتم المسيحيون بتزيينها وتجميلها. في القرن الثاني عشر الميلادي زارها الرحالة المسلم ابن جبير الأندلسي، ووصفها بقوله: "في داخل البلد كنيسة لها عند الروم شأن عظيم تعرف بكنيسة مريم ليس بعد كنيسة بيت المقدس عندهم أفضل منها، وهي جميلة البناء تتضمن من التصاوير أمرًا عجيبًا يبهر الأفكار ويستوقف الأبصار، ومرآها عجيب".
تتبع الكنيسة طائفة الروم الأرثوذكس منذ قرون عديدة. وكانت تابعة فيما سبق لكرسي بطريرك أنطاكية. في سنة 1268م، وقع تغير مهم أثر كثيرًا في مستقبل الكنيسة المريمية. دمر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس أنطاكية في سياق حروبه مع الصليبيين في تلك الفترة. اضطر البطاركة إلى الخروج من أنطاكية. وبحثوا لأنفسهم عن مقر جديد لكرسيهم. في سنة 1344م، اختار البطريرك الجديد إغناطيوس الثاني الكنيسة المريمية في دمشق لتصبح المقر الجديد للكرسي الأنطاكي.
الكنيسة المريمية أو الكاتدرائية المريمية وهي إحدى كنائس مدينة دمشق، تقع في منطقة دمشق القديمة على يسار الطريق المستقيم المتجه إلى باب شرقي، وهي من الكنائس الأثرية السورية القديمة يعود تاريخها إلى بداية انتشار المسيحية في دمشق. pic.twitter.com/ItiAvFvjmv
— سوريا (@Syria_ar_) August 7, 2018
• كنيسة حنانيا
تقع كنيسة حنانيا في حي باب توما بمدينة دمشق. وتُعدّ من أقدم الكنائس في العالم، ويعود تاريخ تأسيسها للقرن الأول الميلادي. تتمثل الأهمية التاريخية للكنيسة في كونها المكان الذي شهد تعميد بولس الرسول على يد القديس حنانيا، حسب المرويات المسيحية. يذكر العهد الجديد أن بولس خرج من فلسطين وتوجه إلى دمشق لمطاردة تلاميذ المسيح. في الطريق أُصيب بالعمى. وفي دمشق قام المسيحي حنانيا بشفاء بولس من العمى وعمده، ليتحول بولس إلى المسيحية وليسهم بالدور الأكبر في نشر الديانة الجديدة.
تقع الكنيسة تحت الأرض بما يقارب الأمتار الخمسة. وكان السبب في ذلك أن المسيحيين الأوائل تعرضوا للاضطهاد، وكانوا يبحثون عن مكان خفي لممارسة شعائرهم. من المُرجح أن الكنيسة هُدمت في القرون الأولى من الميلاد، وتحولت لأرض خربة. تذكر بعض المصادر التاريخية الإسلامية أن المسلمين لمّا عزموا على تحويل كنيسة القديس يوحنا المعمدان إلى المسجد الأموي، فإنهم أعطوا المسيحيين في المقابل مكان كنيسة يوحنا لترضيتهم. وكانت في تلك الفترة تُعرف باسم الكنيسة المُصلبة أو كنيسة الصليب. في سنة 1829، ابتاع الآباء الفرنسيسكان أرض الكنيسة وأُعيد بناؤها من جديد. وفي 1973، تم ترميم الكنيسة وسجلتها منظمة اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي.
تعتبر"كنيسة حنانيا" في #دمشق من أقدم الكنائس في العالم، حيث تعود للحقبة الرومانية، وتقع في حي حنانيا أحد الأحياء المسيحية التاريخية العريقة في #دمشق_القديمة وتقبع الكنيسة القديمة تحت الأرض ويُنزل إليها بدرج يفضي إلى تحفة تاريخية تعود إلى أكثر من 2000 عام.
— سوريا (@Syria_ar_) June 13, 2019
. pic.twitter.com/6dL0Sckg3k
• كنيسة أم الزنار
تقع تلك الكنيسة في منطقة الحميدية بمدينة حمص السورية. ويرجع تأسيسها إلى سنة 59م تقريبًا. كانت الكنيسة عبارة عن قبو تحت الأرض تتم العبادة فيه سراً خشية من الحكم الوثني الروماني، ثم جرى توسيع بنائها في العهد المسيحي.
تُعدّ كنيسة أم الزنار واحدة من أقدم الكنائس الأثرية في سوريا. وأشهر ما تتميز به تلك المدينة هو "احتفاظها بزنار -حزام- العذراء مريم"!. وبحسب التقاليد الكنسية، فإن جميع الرسل كانوا حاضرين أثناء وفاة العذراء مريم، عدا القديس توما الذي كان يبشر بالمسيحية في أرض الهند. أتت الملائكة وحملت جسد مريم إلى السماء، وفي أثناء الصعود مر الركب على القديس توما الذي كان قادمًا من الهند. أعطى الملائكة زنار العذراء لتوما فاحتفظ به ولم يفارقه قط حتى توفى ودُفن بالهند. في أواخر القرن الرابع الميلادي نُقلت رفات توما والزنار من الهند إلى الرها. ثم بعد مائة عام تقريبًا، أخذ أحد الرهبان الزنار ونقله إلى حمص، ووضعه في الكنيسة التي ستُعرف منذ ذلك الوقت بكنيسة أم الزنار!.
يزور الكثير من المسيحيين الكنيسة في يوم الخامس عشر من أغسطس -وهو يوم انتقال العذراء إلى السماء- في كل عام، ويُعرض "الزنار المقدس" على الزائرين. تتميز الكنيسة بنمط معماري فريد من نوعه. يشهد عليه جمال أقواسها، وفن بنائها الحجري القديم، وقناطرها الرائعة. رغم ذلك تضررت الكنيسة بشكل كبير بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية في 2011م وما تبعها من معارك بين الجيش السوري والتنظيمات المعارضة.
كنيسة أم الزنار .. #حمص#مساء_الخير 🌸 pic.twitter.com/lQZSHsGJJC
— سونا نيوز - suna news (@SunaUnique) September 17, 2021
كنيسة شهداء الأرمن
تتبع الكنيسة طائفة الأرمن الأرثوذكس. ويرجع تاريخها لفترة الحرب العالمية الأولى عندما وقع الآلاف من الأرمن ضحايا على يد القوات العثمانية. تم ترحيل عدد كبير من الأرمن إلى منطقة دير الزور بسوريا كنوع من النفي والتشريد. بعد سنوات، قام الأرمن ببناء الكنيسة في دير الزور وخصصوها لتضم رفات أجدادهم من ضحايا الإبادة الجماعية، وافتتحت الكنيسة للمرة الأولى في سنة 1990م.
اختصت الكنيسة بطابع معماري مميز يتماشى مع الهدف الذي بُنيت من أجله. أٌقيم نصبٌ تذكاري ضخم يخلّد ذكرى ضحايا الأرمن، يتوسطه خاتشكار -حجر الصليب- جيء به من أرمينيا، تشعل أمامه بصفة دائمة "شمعة الخلود"، وعلى جانبيه خمسة نماذج لـ"نصب شهداء الأرمن" موجودة في أنحاء العالم. أما في أسفل الكنيسة، فتوجد صالة يرتفع منها عمود يخترق منتصف الكنيسة ويسمّى بعمود الانبعاث. دُفن في أساسه بقايا من عظام الضحايا ورفاتهم التي اُنتشلت من مواقع عدة. وتحوي الصالة أيضا واجهات عرض لكتب ومنشورات وصور وثائقية تحكي حكاية الشعب الأرمني ومآسيه.
يمكن التعرف على الرمزية المهمة التي تحتلها الكنيسة في الوجدان الأرمني الجمعي إذا عرفنا أن الآلاف من الأرمن اعتادوا أن يزوروا الكنيسة في الرابع والعشرين من كل عام لإحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية. كانت الكنيسة بمثابة القبلة التي تجمع حولها الأرمن من كل مكان استذكارًا لمصابهم.
في سبتمبر 2014م، تعرضت الكنيسة للتدمير الجزئي عقب تفجيرها من قِبل بعض عناصر تنظيم داعش. مثل هذا الحدث ضربة موجعة للمسيحيين السوريين والأرمن. عبر عن ذلك البيان المشترك الصادر عن الأحزاب الأرمنية حينذاك. والذي جاء فيه "في الوقت الذي يتحضر فيه الشعب الأرمني لإحياء الذكرى المئوية للإبادة الأرمينية، وفي وقت كان يقام فيه المؤتمر العام الخامس الأرمني في أرمينيا، حيث جدد الأرمن مرة جديدة على مطالبة المجتمع الدولي بالعدالة، طالت يد الإجرام، بتفجير كنيسة شهداء الأرمن والمتحف المجاور في دير الزور، حيث يرقد رفات عدد كبير من شهداء الإبادة الجماعية الأرمنية".
بعد طرد تنظيم داعش من دير الزور، أُقيم في أبريل الماضي أول قداس بعد انقطاع استمر لأكثر من عشر سنوات بسبب ما تعرضت له الكنيسة من تدمير على يد التنظيمات الإرهابية.