لم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من أصل 1.5 مليون مسيحي تواجدوا في العراق في سنة 2003م
لم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من أصل 1.5 مليون مسيحي تواجدوا في العراق في سنة 2003م.

زار البابا فرنسيس الأراضي العراقية في مارس سنة 2021م في رحلة تاريخية حظيت باهتمام واسع من قِبل ملايين المسيحيين المنتشرين حول العالم. أتت تلك الزيارة في أعقاب نجاح القوات العراقية في هزيمة تنظيم داعش، واسترداد كافة المدن التي خضعت للتنظيم في السنوات السابقة.

أكد بابا الفاتيكان في زيارته أن "التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط، ضرر جسيم لا يمكن تقديره". ورحب في كلمته التي ألقاها في الموصل "بعودة الجالية المسيحية إلى الموصل لتقوم بدورها الحيوي في عملية الشفاء والتجديد". كذلك صلى البابا "من أجل ضحايا الحرب والنزاعات المسلحة"، مؤكدا أن "الرجاء أقوى من الموت، والسلام أقوى من الحرب".

في الواقع، تعرض المسيحيون في المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا للعديد من المخاطر. بحسب بعض التقارير لم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من أصل 1.5 مليون مسيحي تواجدوا في العراق في سنة 2003م. أيضًا، تشير بعض التقديرات إلى أن هناك أكثر من 700 ألف مسيحي سوري فروا من بلادهم في أعقاب اندلاع الحرب في 2011م.

نلقي الضوء في هذا المقال على بعض الكنائس المهمة في العراق وسوريا. لنرى كيف احتفظت تلك المباني بذاكرة الأقليات المسيحية في البلدين. ولنتعرف على جانب من الظروف الصعبة التي لاقاها المسيحيون في السنين القليلة الماضية.

• كنيسة القديس يوسف

تقع كنيسة القديس يوسف في العاصمة العراقية بغداد. بُنيت سنة 1871م، وهي تتبع الكنائس الكاثوليكية اللاتينية. في أثناء الحرب العالمية الأولى، استولت القوات التركية العثمانية على الكنيسة وحولتها إلى مستشفى. وبعد هزيمة الأتراك ورحيلهم، تمت إعادة افتتاح وتجديد الكنيسة مرة أخرى في سنة 1923م.

تشتهر كنيسة القديس يوسف بشكل المميز، فهي عبارة "عن مبنى على شكل صليب له قبة نصف كروية رائعة مع أسطوانة دائرية ونوافذ على مستوى جناح الكنيسة، ويبلغ ارتفاعها 32 متراً، يعلوها فانوس مثمن الشكل يوجد على قمّته صليب. عن بعد، نستطيع رؤية الكنيسة بوضوح كمنارة في الحي".

رغم تميز عمارتها، تعاني الكنيسة من الكثير الأضرار ويطلب القائمون عليها العمل على ترميمها. حظيت الكنيسة بتسليط الأضواء عليها عندما زارها البابا فرنسيس وترأس القداس بها بحضور بطريرك بابل للكلدان الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو.

• كنيسة سيدة النجاة

تقع كنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة في العاصمة العراقية بغداد. تتبع الكنيسة للسريان الكاثوليك، وترتبط في الوجدان العراقي الجمعي بذكرى مؤسفة. في أواخر شهر أكتوبر سنة 2010م، اقتحم مسلحون تابعون لتنظيم دولة العراق الإسلامية الكنيسة أثناء تأدية مراسيم القداس. تم احتجاز العشرات من المسيحيين داخل الكنيسة كرهائن لساعات عدّة. بعدها، اقتحم رجال الأمن الكنيسة لتحرير الرهائن، ولكن قام المسلحون بتفجير أنفسهم. لقي ما يقرب من الستين شخصًا مصرعهم أثناء الاقتحام، فيما أصيب المئات من المسيحيين بجروح مختلفة.

• كنيسة الساعة بالموصل

تسمى هذه الكنيسة بكنيسة اللاتين أو كنيسة الدومنيكان، وتُعرف في الأوساط الشعبية باسم كنيسة الساعة، لكونها تقع في حي الساعة بمدينة الموصل. بُنيت هذه الكنيسة في ستينات القرن التاسع عشر على الطراز الروماني البيزنطي. وكانت مركزًا للآباء الدومنيكان، وهي تابعة للمذهب الكاثوليكي.

اشتهرت الكنيسة ببرجها العظيم، وبالساعة الشهيرة التي أُهديت إلى الآباء الدومنيكان من قِبل الإمبراطورة أوجيني دي منتيغو زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث. قامت عناصر تنظيم داعش بنهب محتويات الكنيسة، ثم أقدموا على تفجيرها في الثاني من أبريل سنة 2016م. في أبريل سنة 2020، أعلنت منظمة اليونسكو أنها ستبدأ -بمشاركة السلطات العراقية والدومنيكان- بمشروع إعادة ترميم الكنيسة.

 

• كنيسة الطاهرة الكبرى

تقع كنيسة الطاهرة الكبرى في قرقوش بمحافظة نينوى. وقد بُنيت في النصف الأول من القرن العشرين. تعرضت الكنيسة للتخريب في فترة سيطرة تنظيم داعش على الموصل. تم تحويل الكنيسة إلى ثكنة عسكرية، واستخدمت حجراتها كمخازن للسلاح، كما استخدمت الكنيسة نفسها كمقر للمحكمة الشرعية. سُلطت الأضواء على الكنيسة عندما زارها البابا فرنسيس في رحلته إلى العراق.

• الكنيسة المريمية

يعتقد الكثير من الباحثين أن الكنيسة المريمية بدمشق هي أقدم كنيسة في العالم. يرجع تاريخ تأسيسها لسنة 37م. وتُعتبر أكبر كنائس الشرق بشكل عام، ولا يوازيها في المساحة إلا كنيسة القديسين بطرس وبولس في أنطاكية.

سيطر المسلمون على الكنيسة لفترة بعد الاستيلاء على دمشق، ثم ردوها للمسيحيين الأرثوذكس عوضًا عن كنيسة يوحنا. تعرضت الكنيسة بعدها لبعض الحوادث المؤسفة، حُرقت في العصر العباسي والعصر الفاطمي. ولكن أُعيد بناؤها فيما بعد واهتم المسيحيون بتزيينها وتجميلها. في القرن الثاني عشر الميلادي زارها الرحالة المسلم ابن جبير الأندلسي، ووصفها بقوله: "في داخل البلد كنيسة لها عند الروم شأن عظيم تعرف بكنيسة مريم ليس بعد كنيسة بيت المقدس عندهم أفضل منها، وهي جميلة البناء تتضمن من التصاوير أمرًا عجيبًا يبهر الأفكار ويستوقف الأبصار، ومرآها عجيب".

تتبع الكنيسة طائفة الروم الأرثوذكس منذ قرون عديدة. وكانت تابعة فيما سبق لكرسي بطريرك أنطاكية. في سنة 1268م، وقع تغير مهم أثر كثيرًا في مستقبل الكنيسة المريمية. دمر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس أنطاكية في سياق حروبه مع الصليبيين في تلك الفترة. اضطر البطاركة إلى الخروج من أنطاكية. وبحثوا لأنفسهم عن مقر جديد لكرسيهم. في سنة 1344م، اختار البطريرك الجديد إغناطيوس الثاني الكنيسة المريمية في دمشق لتصبح المقر الجديد للكرسي الأنطاكي.

• كنيسة حنانيا

تقع كنيسة حنانيا في حي باب توما بمدينة دمشق. وتُعدّ من أقدم الكنائس في العالم، ويعود تاريخ تأسيسها للقرن الأول الميلادي. تتمثل الأهمية التاريخية للكنيسة في كونها المكان الذي شهد تعميد بولس الرسول على يد القديس حنانيا، حسب المرويات المسيحية. يذكر العهد الجديد أن بولس خرج من فلسطين وتوجه إلى دمشق لمطاردة تلاميذ المسيح. في الطريق أُصيب بالعمى. وفي دمشق قام المسيحي حنانيا بشفاء بولس من العمى وعمده، ليتحول بولس إلى المسيحية وليسهم بالدور الأكبر في نشر الديانة الجديدة.

تقع الكنيسة تحت الأرض بما يقارب الأمتار الخمسة. وكان السبب في ذلك أن المسيحيين الأوائل تعرضوا للاضطهاد، وكانوا يبحثون عن مكان خفي لممارسة شعائرهم. من المُرجح أن الكنيسة هُدمت في القرون الأولى من الميلاد، وتحولت لأرض خربة. تذكر بعض المصادر التاريخية الإسلامية أن المسلمين لمّا عزموا على تحويل كنيسة القديس يوحنا المعمدان إلى المسجد الأموي، فإنهم أعطوا المسيحيين في المقابل مكان كنيسة يوحنا لترضيتهم. وكانت في تلك الفترة تُعرف باسم الكنيسة المُصلبة أو كنيسة الصليب. في سنة 1829، ابتاع الآباء الفرنسيسكان أرض الكنيسة وأُعيد بناؤها من جديد. وفي 1973، تم ترميم الكنيسة وسجلتها منظمة اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي.

• كنيسة أم الزنار

تقع تلك الكنيسة في منطقة الحميدية بمدينة حمص السورية. ويرجع تأسيسها إلى سنة 59م تقريبًا. كانت الكنيسة عبارة عن قبو تحت الأرض تتم العبادة فيه سراً خشية من الحكم الوثني الروماني، ثم جرى توسيع بنائها في العهد المسيحي.

تُعدّ كنيسة أم الزنار واحدة من أقدم الكنائس الأثرية في سوريا. وأشهر ما تتميز به تلك المدينة هو "احتفاظها بزنار -حزام- العذراء مريم"!. وبحسب التقاليد الكنسية، فإن جميع الرسل كانوا حاضرين أثناء وفاة العذراء مريم، عدا القديس توما الذي كان يبشر بالمسيحية في أرض الهند. أتت الملائكة وحملت جسد مريم إلى السماء، وفي أثناء الصعود مر الركب على القديس توما الذي كان قادمًا من الهند. أعطى الملائكة زنار العذراء لتوما فاحتفظ به ولم يفارقه قط حتى توفى ودُفن بالهند. في أواخر القرن الرابع الميلادي نُقلت رفات توما والزنار من الهند إلى الرها. ثم بعد مائة عام تقريبًا، أخذ أحد الرهبان الزنار ونقله إلى حمص، ووضعه في الكنيسة التي ستُعرف منذ ذلك الوقت بكنيسة أم الزنار!.

يزور الكثير من المسيحيين الكنيسة في يوم الخامس عشر من أغسطس -وهو يوم انتقال العذراء إلى السماء- في كل عام، ويُعرض "الزنار المقدس" على الزائرين. تتميز الكنيسة بنمط معماري فريد من نوعه. يشهد عليه جمال أقواسها، وفن بنائها الحجري القديم، وقناطرها الرائعة. رغم ذلك تضررت الكنيسة بشكل كبير بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية في 2011م وما تبعها من معارك بين الجيش السوري والتنظيمات المعارضة.

 

كنيسة شهداء الأرمن

تتبع الكنيسة طائفة الأرمن الأرثوذكس. ويرجع تاريخها لفترة الحرب العالمية الأولى عندما وقع الآلاف من الأرمن ضحايا على يد القوات العثمانية. تم ترحيل عدد كبير من الأرمن إلى منطقة دير الزور بسوريا كنوع من النفي والتشريد. بعد سنوات، قام الأرمن ببناء الكنيسة في دير الزور وخصصوها لتضم رفات أجدادهم من ضحايا الإبادة الجماعية، وافتتحت الكنيسة للمرة الأولى في سنة 1990م.

اختصت الكنيسة بطابع معماري مميز يتماشى مع الهدف الذي بُنيت من أجله. أٌقيم نصبٌ تذكاري ضخم يخلّد ذكرى ضحايا الأرمن، يتوسطه خاتشكار -حجر الصليب- جيء به من أرمينيا، تشعل أمامه بصفة دائمة "شمعة الخلود"، وعلى جانبيه خمسة نماذج لـ"نصب شهداء الأرمن" موجودة في أنحاء العالم. أما في أسفل الكنيسة، فتوجد صالة يرتفع منها عمود يخترق منتصف الكنيسة ويسمّى بعمود الانبعاث. دُفن في أساسه بقايا من عظام الضحايا ورفاتهم التي اُنتشلت من مواقع عدة. وتحوي الصالة أيضا واجهات عرض لكتب ومنشورات وصور وثائقية تحكي حكاية الشعب الأرمني ومآسيه.

يمكن التعرف على الرمزية المهمة التي تحتلها الكنيسة في الوجدان الأرمني الجمعي إذا عرفنا أن الآلاف من الأرمن اعتادوا أن يزوروا الكنيسة في الرابع والعشرين من كل عام لإحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية. كانت الكنيسة بمثابة القبلة التي تجمع حولها الأرمن من كل مكان استذكارًا لمصابهم.

في سبتمبر 2014م، تعرضت الكنيسة للتدمير الجزئي عقب تفجيرها من قِبل بعض عناصر تنظيم داعش. مثل هذا الحدث ضربة موجعة للمسيحيين السوريين والأرمن. عبر عن ذلك البيان المشترك الصادر عن الأحزاب الأرمنية حينذاك. والذي جاء فيه "في الوقت الذي يتحضر فيه الشعب الأرمني لإحياء الذكرى المئوية للإبادة الأرمينية، وفي وقت كان يقام فيه المؤتمر العام الخامس الأرمني في أرمينيا، حيث جدد الأرمن مرة جديدة على مطالبة المجتمع الدولي بالعدالة، طالت يد الإجرام، بتفجير كنيسة شهداء الأرمن والمتحف المجاور في دير الزور، حيث يرقد رفات عدد كبير من شهداء الإبادة الجماعية الأرمنية".

بعد طرد تنظيم داعش من دير الزور، أُقيم في أبريل الماضي أول قداس بعد انقطاع استمر لأكثر من عشر سنوات بسبب ما تعرضت له الكنيسة من تدمير على يد التنظيمات الإرهابية.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".