في عام 1248م اجتاحت جيوش المغول بغداد آكلةً الأخضر واليابس، بعدما عجزت الجيوش العباسية عن حماية عاصمة الخلافة فوقعت فريسة بين أيدي المغول الذين أذاقوا أهلها المُر وأغرقوا الشوارع بدمائهم، وعلى رأسهم الخليفة العباسي المستعصم بالله، الذي أوصى له هولاكو بميتة مُذلة لتكون نهاية مأساوية للعباسيين في العراق، بعدما أسّسوا إمبراطورية قوية دامت 524 عامًا.
رغم تلك الفاجعة، فإنها لم تمثّل نهاية عهد العباسيين بالخلافة فسُرعان ما احتضنت دولة المماليك في مصر فلول البيت العباسي، وعلى رأسهم الأمير العباسي أبو العباس أحمد، الذي يمتدُّ نسبه إلى الخليفة المسترشد بالله. حقّق المماليك نصرًا عظيمًا على المغول في موقعة عين جالوت حمى العالم الإسلامي من اكتساح ما تبقى فيه من بلدان.
لاحقًا، احتضن المماليك بقايا النسب العباسي مُعلنين القاهرة عاصمةً جديدة للخلافة الإسلامية، وإن أصبح منصب الخليفة مجرد منصب شكلي روحي وبقيت السُلطة الحقيقية بين يدي المماليك يتسترون باحتضانهم للخليفة لإضفاء شرعية على دولتهم.
منذ لحظة مبايعة الأمير أبو العباس أحمد خليفةً للمسلمين في حفلٍ مهيب أقامه له الظاهر بيبرس عاش أغلب العباسيين في مصر حتى دخلت الجيوش العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول القاهرة عام 1517م وحوّلت مصر إلى ولاية ضمن حدود الدولة العثمانية. وعقب إقراره نظامه الجديد في مصر رحل السُلطان سليم الأول مصطحبًا الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث معه.
هنا، تتضارب آراء المؤرخين بين إجبار سليم الأول الخليفة العباسي على التنازل عن الخلافة للعثمانيين في حفلٍ مهيب أُقيم في "آيا صوفيا"، وبين أن عددًا من فقهاء الإسلام هم الذين ارتأوا أن سليم الأول بات الأحق بلقب الخليفة بسبب انتصاراته العسكرية المتنامية واتساع سُلطان مُلكه، في الوقت الذي كان الخليفة العباسي لا يتمتع بسُلطة خارج حدود داره.
أيًّا كانت الحقيقة، فإن ما حدث هو أن انتقلت الخلافة من المتوكل على الله الثالث إلى السُلطان سليم الأول، ومنه ورثها أحفاده وظلّت الخلافة الإسلامية عثمانية حتى ألغاها القائد التركي مصطفى كمال أتاتورك عام 1924.
عقب "عثمَنة الخلافة" خيّمت الظلال على تاريخ ما تبقى من آل عباس، كيف عاشوا بعدما انتُزع منهم عرش المسلمين؟ وكيف عاملهم الناس؟
الأشراف العباسيون
شكّل الأشراف العباسيون طبقة أرستقراطية حظيت بعطف حكّام الدول السُنية حتى بعد انتزاعهم من فوق عرش الخلافة. وبحسب كتاب محمود إسماعيل "سوسيولوجيا الفكر الإسلامي"، فإن الأشراف العباسيين شكّلوا نقاباتهم الخاصة بهم، وكذلك كان لهم لباس مميز، كما كان لهم قضاؤهم الخاص الذي حال بين نسائهم وبين الزواج من غير آل البيت حفاظًا على شرف النسب.
ووفقًا لما رواه يونس الشيخ السامرائي في كتابه "أنساب العباسيين خارج العراق" فإن كثيرًا من السلالات العباسية تسرّبت في كثيرٍ من ربوع العالم الإسلامي. في السعودية مثلا، انتشروا في الطائف ومكة وجدة والمدينة.
من أشهر العائلات العباسية في السعودية أسرة الخليفتي التي يعود نسبها إلى الخليفة المستمسك بالله، أحد الخلفاء العباسيين في مصر، والتي برز منها الفقيه عبدالكريم الخليفتي العباسي الذي تولّى منصب الإفتاء في المدينة المنورة خلال القرن الـ11هـ.
وهناك أيضًا أسرة العباسي التي عاشت في الطائف وجدة والرياض والتي يعود نسبها إلى الخليفة المطيع لله العباسي، وكذلك أسرة "جنيد بن فيض" المُنحدرة من ذرية الخليفة الشهير هارون الرشيد.
إضافة إلى ذلك، هناك أسرة "برهان الدين باش أعيان" وهم منحدرون من نسل الخليفة المستضيء بأمر الله بن المستنجد بالله، الذين سكنوا البصرة في عصورٍ قديمة. وشغل أحد أفرادهم، برهان الدين باش أعيان منصب وزير خارجية العراق في العهد الملكي، وعقب اندلاع ثورة 1958 انتقل إلى مدينة الرياض.
لم يتوقّف انتشار النسل العباسي على حدود العالم العربي، وإنما امتدَّ إلى الهند أيضًا والتي لجأت إليها عدد من العائلات العباسية مثل آل الكاكوري الذين عاشوا في الهند ومنها انتقلوا إلى باكستان.
أشهر تجمّع عباسي في باكستان، وربما في أي دولة خارج المنطقة العربية بأسرها، هو تأسيس أحفاد العباسيين لإمارة بهاولبور -تقع ضمن حدود باكستان الآن- عام 1727 وظلّت قائمة حتى عام 1947.
وفي إيران، أقدَمَ فرع عباسي على خطوة شبيهة، وهي تأسيس إمارة بستك العباسية جنوب فارس، واستمرت من عام 1673 حتى 1967. فعقب نجاته من مذبحة هولاكو في بغداد، هاجر الأمير العباسي إسماعيل بن سليمان بن محمد إلى إيران، وتنقّل بين عدة بقاع حتى استقرَّ به الحال في قرية بستك، وهناك تزوّج وأنجب وخرج من ذريته أحفاد أسّسوا إمارتهم الصغيرة، وهو الأمر الذي كرّره أحفاد الخليفة المستعصم بالله العباسي الذين أسّسوا إمارة "بهدينان" جنوب شرق تركيا خلال الفترة من 1376 حتى 1843.
في كتابه "التاريخ الإسلامي" تحدّث محمد شاكر عن شقيقين عباسيين يُدعى أكبرهما عليًا والآخر أحمد، وصلا دارفور عام 824 ه، وهناك تزوّج علي بابنة ملك البلاد وأنجب منها ولدًا سمّاه سليمان ورث المُلك عن جدّه عام 850، وأسّس دولة عباسية حكمت دارفور حتى عام 1293.
عقب سقوط هذه الإمارات انتشرت فلول العباسيين في عددٍ من الدول، في الخليج العربي مثل الإمارات وقطر والكويت، وفي فلسطين وسوريا وغيرها.
وظهرت العديد من الأسر العباسية في أنحاءٍ متفرقة من العالم الإسلامي، مثل أسرة "العباسي" في سوريا، وأسرتيْ البرادعي والبيطار في فلسطين، وقبيلة "الجعليين" في السودان.
يقول محمد السوربوني في كتابه "الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل"، إن عام 1896 شهد بزوغ نجم أحد المنحدرين من نسل العباسيين، هو "الزبير رحمت"، الذي كان يعمل نخّاسًا، ونال مكانة رفيعة لدى مسلمي السودان بسبب نسبه الشريف وذكائه وكفاءته، ما مكّنه من أن يُصبح ملكًا غير متوّج على البلاد وينازع الحكومة المصرية سيطرتها على بلاد السودان، وهو ما دفع الخديوِي لسجنه لاحقًا في القاهرة.
وفي كتابه "الأساس في أنساب بني العباس"، تعقّب حسني العباسي بعض البطون العباسية، مثل ذرية أحمد شهاب الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي، الذي عاش في مصر والشام ومن صُلبه خرجت 3 فروع، هي: آل محمد الجندي، وآل محمد وفا، وآل محمد الجوهري.
كما تطرّق حسني إلى سيرة الأمير عبيد الله بن عبد الله المنحدر من نسل الخليفة المستنصر العباسي، والذي تفرقت ذُريته بين عددٍ من المدن المصرية، مثل: القاهرة وقنا وأسوان وطنطا وبني سويف.
لكن، لم تتمّتع جميع الأفرع العباسية بحظٍّ حسن من الحياة، فلقد أشار جون بوركهارت في كتابه "ترحال في الجزيرة العربية" إلى وجود بعض أحفاد العباسيين يعيشون في فقر مدقع داخل المدينة، أطلق عليهم الناس اسم "الخالفية"، أي المنحدرين من الخلفاء.