في أغسطس 2020، شهدت بيروت انفجارا ضخما في مرفئها أودى بحياة أكثر من 200 شخص.
في أغسطس 2020، شهدت بيروت انفجارا ضخما في مرفئها أودى بحياة أكثر من 200 شخص.

كلحن عذب يتدفق عبر الأسماع ويأسرها.. يعلو بحنو ثم يخرج عن النوتات حد النشاز والإزعاج قبل أن يعتدل، ثم يصمت ويعلو مجددا.. يختفي فيخيفك الصمت وترجو أن يعود صداه.. هكذا هي بيروت في كل تقلباتها عبر التاريخ. ولعل لملمة شتات بيروت بألحانها التي تتعدد وتمتزج وتذوي فيها الهويات من أصعب المهام، لكن الثابت الأكيد هو أن العاصمة اللبنانية هي مدينة التناقضات بامتياز.

على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، أبصرت بيروت النور قبل أكثر من أربعة آلاف عام، في منطقة ترافق ذكرها مع القداسة في الكتب الدينية، وبقي التاريخ شاهدا على هذا الحضور الأزلي من خلال الآثار والكتابات الهيروغليفية على ألواح الآجر. حضور متذبذب بين السلام والحرب وبين الغضب والسكينة، وبين التوازن والفوضى.

أخذت بيروت حصتها منذ فجر التاريخ، من الآلام والمآسي فأطبق الموت عليها مرارا، بيدي الطبيعة أو بيدي الإنسان. انقلبت على أهلها في سلسلة من الزلازل واختفى سورها الكنعاني تحت الأنقاض. فقدت الآلاف من سكانها وهجرها آلاف آخرون هربا من الهزات الأرضية ومن الحرائق في القرن السادس قبل الميلاد. وما بين وصفها بـ"المستعمرة الممتازة" في أيام الرومان والدمار الذي حل بها، فقدان لقيمتها.

لقد حمل المجد بيروت على أجنحة العظمة والسؤدد، فلقبت بـ"درة الشرق" و"درة تاج آل عثمان" في حقبات متباعدة وتغنى بها الكتاب من عرب وأجانب حتى تسمرت عيون الرومان والعرب والصليبيين والمماليك وسواهم عليها، فباتت ضحية للغزوات والحروب الخارجية والداخلية منها في حقب ليست ببعيدة.

لم تعرف مدينة في العالم قط هذا القدر من التغيرات والنسخ التي لا تنتهي من الروايات والتحولات، ولا تزال حتى اليوم تقف على مفترق طرق يبقى إرثها شاهدا عليه وشاهدا على ذوبان هوية الإنسان في هوية المكان والتكامل بين الإرث المادي والإرث غير المادي للمدينة المتجددة بكل المعاني الإيجابية والسلبية. وعلى الرغم من أن المحفوظات التي توحّد الروايات المتعددة لهذه المدينة لا تتوفر بسبب الإهمال أو بفعل التدمير، عكف كثر على البحث عن ماض لا يتفق الجميع على سرديته وحاضر لا يشبه الصورة التي تتبادر إلى بال من سمع عن بيروت على لسان الرحالة والمستشرقين والزوار.

يعيد إرث بيروت وتحديدا غير المادي منه تشكيل روح المدينة التي تنبض بالحرف وبروائح الخبز الطازج وقهوة الصباح.. وإذا أردنا استذكارها بشكل مقتضب، يمكننا اختصارها ببيروت الإنسان وبيروت المكان.

أما عن بيروت الإنسان فتعكس "انصهارا للسير الذاتية وتراكما للهويات وتفاعلا بين حضارات وتداخلا بين اللغات والثقافات" (د. محمد القوزي). ويشارك التراث العائلي المنسي خلا الروايات المتناقلة شفهيا وبعض الصور الفوتوغرافية والمراسلات وبعض وثائق الأحوال الشخصية، ملامح الحياة اليومية المتغيرة للبيروتي مثلا في أواخر القرن التاسع عشر وفي الفترة التي تلت. فيتزين بورتريه بيروت بصورة "الأفندي" وبشجاعة "القبضاي" وبرقي "ملكة الجمال" على سبيل المثال لا الحصر في أواخر القرن التاسع عشر.

وكان للأفندي البيروتي سيرة راقية من الأداء المهني والجدي ومن السعي للتسلح بالقدرات العلمية. ويصبح الأفندي نفسه الوجيه الذي يحرص على تعليم أبنائه ما بين لبنان والمهجر وحصولهم على شهادات أو حتى المساهمة في إطلاق المشاريع العلمية مثل "جمعية المقاصد"، فكنت لتقع على عائلة الأفندي المكونة من 9 أولاد ينتهون بحمل ألقاب الطبيب والمهندس والموسيقي والقاضي وما شابه. ويتميز هذا الأفندي بأناقة ورصانة تنطلي على عائلته وعلى هندسة منزله الداخلية وحتى على نمط حياة أولاده، وكان يساهم من خلال تمسكه بالانتماء لبيروت بالتزامن مع السعي للتعلم في معاهد السلطنة، في انتقال بيروت للحداثة وفي هويتها المبنية على التسامح وتقبل الآخر والتعاطي مع التحولات الكبرى بالتوازي مع التطورات الجيوسياسية (د. نادر سراج).

فأين هو هذا الأفندي اليوم؟ تكافح المدينة للحفاظ على نموذج المواطن-الإنسان الوفي ويكافح هذا الإنسان ليجد لقمة العيش، وغالبا ما يجبر الأفندي "الحديث" على النزول للشارع للمطالبة بأبسط حقوقه. يقول أحد البيارتة: "كيف لي أن أحافظ على "أبهة" الأفندي وأنا ما عدت قادرا على كيّ القميص أو ترقيع سترتي!". وعلى هذا المنوال، تغير تعريف "القبضاي" البيروتي الذي برز كبطل في الأفلام. لكن بيروت الإنسان تغيرت حدّ الشعور بالغربة، وذبل معها وهج القبضاي التراثي الحافل "بالوطنية والنخوة والإقدام والشرف مثل جميل رواس وسليم الدهون ورشيد شهاب الدين (كتاب بيروت المحروسة لحسان حلاق)" ليحل مكانه قطاع الطرق الذين يحكمون بالسلاح، فبات القبضاي مشروع إدانة وسذاجة في ظل انتشار الترهيب والاعتداءات والجرائم التي تمر بلا محاسبة. يقول د. القوزي في أحد بحوثه: "قبضاي اليوم يعيث فسادا وينشر الكبتاغون ويتاجر بالمخدرات".

وفي ذاكرة بيروت الإنسان أيضا، صور من بريق الجمال والسهرات ذات الطابع العالمي في كازينو لبنان الأول من نوعه، حيث انعقدت مسابقة ملكة جمال العالم في بيروت في العام 1962. وفاز لبنان بعدها بسنين بحصته من البريق مع تتويج البيروتية جورجينا رزق ملكة جمال الكون في العام 1971. وفي الفترة نفسها، عرفت بيروت انفتاحا وصل ذروته مع حقبة الجنون، حيث عرفت كل المفاصل تنظيما واستثمارا، حتى أكثرها إثارة للجدل على غرار شارع المتنبي المخصص لـ"بنات الهوى" بشكل مرخص وحيث يوجد مستوصف تخضع فيه "المومسات" لفحوص طبية دورية.

ويعكس هذا الشارع الكثير عن بيروت-المكان التي تنهل هويتها من سكانها. يشرح د. نادر سراج في بحث حول التراث، عن "رحلة مشوقة في أسواق بيروت العثمانية وشوارعها وأزقتها (...) وعن تحول البلدة الصغيرة إلى مدينة عالمية مزدهرة". وتشير البروفيسورة ناديا اسكندراني التي نظمت عددا من المؤتمرات المحلية والدولية حول بيروت إلى العصر الذهبي للمدينة والتي حرص الفنانون والمفكرون والكتاب على حفظه في قوالب تمزج بين الخيال والواقع. "يخضع إرث بيروت، وفقا لما تقول لـ"ارفع صوتك"، منذ زمن طويل لإعادة البناء. وإذا توقفنا عند الخمسينات، تلفتنا بيروت "الأنوار" بمساحاتها الثقافية التي تضم المدارس والصحف والمعارض ودور السينما مثل سينما روكسي التي يصفها صلاح ستيتيه الكاتب والسفير اللبناني في مذكراته، بالأجمل في ذلك الزمن في منطقة الشرق الأوسط قبل أن تختفي بفعل قذائف الحرب الأهلية".

وتحت ركام الحرب الأهلية أيضا يحاول أن يختفي "الخط الأخضر" أو الحدود الفاصلة التي مزقت بيروت إلى رئتين معطلتين، بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية اللتين شهدتا على اقتتال الأخوة. وبعد أن كانت بيروت أشبه بـ"اختصار للعالم العربي وبمدينة تعج بالايديولوجيات العالمية والتجديد والحداثة والتي تلهم الكتاب والفلاسفة والتي شكلت مركزا لإقامة للفنانين والصحافيين والرسامين والنحاتين"، باتت مدينة أشباح طرد منها الخوف السكان لتحل في المباني الميليشيات وينتشر القناصون. وجد هذا الخط مع الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975 ويفترض أنه اختفى مع انتهائها مع اتفاق الطائف في العام 1989. لكن هذا الخط بقي جرحا في قلب العاصمة، توقظه الزلازل الطائفية بين الفينة والفينة، إما على الأرض وإما في النفوس. بينما بقيت المباني تشهد على رصاص الحرب الدموية الطويلة.

هذه المباني نفسها حاولت الثقافة إنقاذها من خلال فنون الشارع والغرافيتي في محاولة لإخفاء كراهية الماضي وتلوين سواد الأيام، لكن بيروت لم تهدأ يوما وبالأمس كانت ساحة لما عرف بـ"انتفاضة تشرين" التي اندلعت تنديدا بتدهور الظروف المعيشية. ساحة الشهداء أصبحت صرحا يكتسب رمزية متجددة حسب السياقات، فهي ساحة المدافع وساحة الحرية وساحة الاستقلال عن الوصاية السورية وساحة الديمقراطية الرافضة لكل أشكال القمع. ساحة تختصر الساحات اللبنانية، تشهد اليوم على تكدس نفايات الفساد على جوانب الشوارع وعلى إقفال مكتبات عريقة وعلى توقف الحركة الثقافية التي اعتادت أن تستقطب اللبنانيين والزوار إلى معارض سباقة. هذا على سبيل المثال، حال المعرض الأخير للكتاب العربي في دورته الـ63 والذي أصبح محط جدل يعكس الانقسام العمودي في الشارع اللبناني بفعل التعرض للتيارات الإقليمية والدولية، بعد الترويج لصور وكتب لقاسم سليماني، في لفتة رآها البعض شكلا من أشكال "تجلي السطوة الإيرانية على لبنان".

بيروت اللبنانية تعيش الانفصام بين الإرث والمعالم التاريخية التي تعيدها لعصر القصص الشعبية والتنوع اللساني والحكواتي في المقاهي والمساجد والكنائس والكنيس اليهودي والقصور المتميزة التي أصبحت متاحف مثل قصر سرسق الذي شيد في بدايات القرن العشرين ليشهد على أساليب العمارة الإيطالية والعثمانية التي اكتسبت صبغة لبنانية وقصر بسترس وسواهما الكثير وخط سكة الحديد، والتهديد الوجودي الذي يتجلى بأكثر صوره ترويعا مع انهيار ما تبقى من إهراءات القمح التي تلقت صفعة انفجار المرفأ لتحمي ما تبقى من بيروت، بينما بقى تمثال المهاجر صامدا وشاهدا على حقبة جديدة من التهجير والتفريغ.

إن روح بيروت المشتتة والتي تصرخ بين الأنقاض تطارد اليوم مراكب الهجرة غير الشرعية والتي حولت بقع الساحل إلى نقطة فرار بحثا عن مستقبل أفضل. يقال أن المكان يبني الذاكرة ويعكسها فأي ذكريات تتأصل في الذاكرة الجماعية للبنانيين وللناظرين لبيروت اليوم؟ تستمر أجنحة بيروت بالتكسر على  وقع التحولات العالمية، ويزداد تقوقعها أكثر فأكثر على الذات وعلى الخوف من الآخر.

تروي لنا الأديبة فيفي أبو ديب التي اشتهرت بكتبها عن المدينة: "في جينات بيروت سر من الأسرار، يجعلها تبدو رائعة حتى في أسوأ حالاتها وفي غمرة الفساد الذي يتآكلها. لبيروت إغراء لا يمكن التنصل منه وطبقات متعددة تخبئ أعوام من النضال والقتال والرقص على الأنقاض والموت الذي يذكرنا بأننا جميعا سندفن تحت التراب نفسه بغض النظر عن معتقداتنا. فههنا مسجد الخضر في وسط المدينة، مبنيًا على كنيسة بنيت بدورها على معبد وثني. أما عن علاقتنا ببيروت فهي علاقة متناقضة تجمع بين الحب والنفور".. لحن الحب يتجلى في التمسك بالعيش فيها أو بالعودة إليها بينما يزداد النفور والنشاز كلما أشبعتنا هذه المدينة إحباطا كما حين يكتب أحدهم، مع انقطاع بيروت عن الحضارة بغياب الفيول لمحطات الإنترنت: "صباح الخير من العصر الحجري!"

 

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".