كلحن عذب يتدفق عبر الأسماع ويأسرها.. يعلو بحنو ثم يخرج عن النوتات حد النشاز والإزعاج قبل أن يعتدل، ثم يصمت ويعلو مجددا.. يختفي فيخيفك الصمت وترجو أن يعود صداه.. هكذا هي بيروت في كل تقلباتها عبر التاريخ. ولعل لملمة شتات بيروت بألحانها التي تتعدد وتمتزج وتذوي فيها الهويات من أصعب المهام، لكن الثابت الأكيد هو أن العاصمة اللبنانية هي مدينة التناقضات بامتياز.
على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، أبصرت بيروت النور قبل أكثر من أربعة آلاف عام، في منطقة ترافق ذكرها مع القداسة في الكتب الدينية، وبقي التاريخ شاهدا على هذا الحضور الأزلي من خلال الآثار والكتابات الهيروغليفية على ألواح الآجر. حضور متذبذب بين السلام والحرب وبين الغضب والسكينة، وبين التوازن والفوضى.
أخذت بيروت حصتها منذ فجر التاريخ، من الآلام والمآسي فأطبق الموت عليها مرارا، بيدي الطبيعة أو بيدي الإنسان. انقلبت على أهلها في سلسلة من الزلازل واختفى سورها الكنعاني تحت الأنقاض. فقدت الآلاف من سكانها وهجرها آلاف آخرون هربا من الهزات الأرضية ومن الحرائق في القرن السادس قبل الميلاد. وما بين وصفها بـ"المستعمرة الممتازة" في أيام الرومان والدمار الذي حل بها، فقدان لقيمتها.
لقد حمل المجد بيروت على أجنحة العظمة والسؤدد، فلقبت بـ"درة الشرق" و"درة تاج آل عثمان" في حقبات متباعدة وتغنى بها الكتاب من عرب وأجانب حتى تسمرت عيون الرومان والعرب والصليبيين والمماليك وسواهم عليها، فباتت ضحية للغزوات والحروب الخارجية والداخلية منها في حقب ليست ببعيدة.
العاصمة اللبنانية #بيروت 🇱🇧
— Hakam Aldawaimh (@HakamAldawaema) August 30, 2022
سماها الرومان «أم الشرائع» بسبب بناء أكبر معهد للقانون بالإمبراطورية فيها...ونعتها العثمانيون «بالدرة الغالية» وفي العصر الحديث خلدها نزار قباني بلقب «ست الدنيا» وعرفت أيضا باسم «باريس الشرق»❤️ pic.twitter.com/g0tBYHfPXV
لم تعرف مدينة في العالم قط هذا القدر من التغيرات والنسخ التي لا تنتهي من الروايات والتحولات، ولا تزال حتى اليوم تقف على مفترق طرق يبقى إرثها شاهدا عليه وشاهدا على ذوبان هوية الإنسان في هوية المكان والتكامل بين الإرث المادي والإرث غير المادي للمدينة المتجددة بكل المعاني الإيجابية والسلبية. وعلى الرغم من أن المحفوظات التي توحّد الروايات المتعددة لهذه المدينة لا تتوفر بسبب الإهمال أو بفعل التدمير، عكف كثر على البحث عن ماض لا يتفق الجميع على سرديته وحاضر لا يشبه الصورة التي تتبادر إلى بال من سمع عن بيروت على لسان الرحالة والمستشرقين والزوار.
يعيد إرث بيروت وتحديدا غير المادي منه تشكيل روح المدينة التي تنبض بالحرف وبروائح الخبز الطازج وقهوة الصباح.. وإذا أردنا استذكارها بشكل مقتضب، يمكننا اختصارها ببيروت الإنسان وبيروت المكان.
أما عن بيروت الإنسان فتعكس "انصهارا للسير الذاتية وتراكما للهويات وتفاعلا بين حضارات وتداخلا بين اللغات والثقافات" (د. محمد القوزي). ويشارك التراث العائلي المنسي خلا الروايات المتناقلة شفهيا وبعض الصور الفوتوغرافية والمراسلات وبعض وثائق الأحوال الشخصية، ملامح الحياة اليومية المتغيرة للبيروتي مثلا في أواخر القرن التاسع عشر وفي الفترة التي تلت. فيتزين بورتريه بيروت بصورة "الأفندي" وبشجاعة "القبضاي" وبرقي "ملكة الجمال" على سبيل المثال لا الحصر في أواخر القرن التاسع عشر.
وكان للأفندي البيروتي سيرة راقية من الأداء المهني والجدي ومن السعي للتسلح بالقدرات العلمية. ويصبح الأفندي نفسه الوجيه الذي يحرص على تعليم أبنائه ما بين لبنان والمهجر وحصولهم على شهادات أو حتى المساهمة في إطلاق المشاريع العلمية مثل "جمعية المقاصد"، فكنت لتقع على عائلة الأفندي المكونة من 9 أولاد ينتهون بحمل ألقاب الطبيب والمهندس والموسيقي والقاضي وما شابه. ويتميز هذا الأفندي بأناقة ورصانة تنطلي على عائلته وعلى هندسة منزله الداخلية وحتى على نمط حياة أولاده، وكان يساهم من خلال تمسكه بالانتماء لبيروت بالتزامن مع السعي للتعلم في معاهد السلطنة، في انتقال بيروت للحداثة وفي هويتها المبنية على التسامح وتقبل الآخر والتعاطي مع التحولات الكبرى بالتوازي مع التطورات الجيوسياسية (د. نادر سراج).
فأين هو هذا الأفندي اليوم؟ تكافح المدينة للحفاظ على نموذج المواطن-الإنسان الوفي ويكافح هذا الإنسان ليجد لقمة العيش، وغالبا ما يجبر الأفندي "الحديث" على النزول للشارع للمطالبة بأبسط حقوقه. يقول أحد البيارتة: "كيف لي أن أحافظ على "أبهة" الأفندي وأنا ما عدت قادرا على كيّ القميص أو ترقيع سترتي!". وعلى هذا المنوال، تغير تعريف "القبضاي" البيروتي الذي برز كبطل في الأفلام. لكن بيروت الإنسان تغيرت حدّ الشعور بالغربة، وذبل معها وهج القبضاي التراثي الحافل "بالوطنية والنخوة والإقدام والشرف مثل جميل رواس وسليم الدهون ورشيد شهاب الدين (كتاب بيروت المحروسة لحسان حلاق)" ليحل مكانه قطاع الطرق الذين يحكمون بالسلاح، فبات القبضاي مشروع إدانة وسذاجة في ظل انتشار الترهيب والاعتداءات والجرائم التي تمر بلا محاسبة. يقول د. القوزي في أحد بحوثه: "قبضاي اليوم يعيث فسادا وينشر الكبتاغون ويتاجر بالمخدرات".
وفي ذاكرة بيروت الإنسان أيضا، صور من بريق الجمال والسهرات ذات الطابع العالمي في كازينو لبنان الأول من نوعه، حيث انعقدت مسابقة ملكة جمال العالم في بيروت في العام 1962. وفاز لبنان بعدها بسنين بحصته من البريق مع تتويج البيروتية جورجينا رزق ملكة جمال الكون في العام 1971. وفي الفترة نفسها، عرفت بيروت انفتاحا وصل ذروته مع حقبة الجنون، حيث عرفت كل المفاصل تنظيما واستثمارا، حتى أكثرها إثارة للجدل على غرار شارع المتنبي المخصص لـ"بنات الهوى" بشكل مرخص وحيث يوجد مستوصف تخضع فيه "المومسات" لفحوص طبية دورية.
ويعكس هذا الشارع الكثير عن بيروت-المكان التي تنهل هويتها من سكانها. يشرح د. نادر سراج في بحث حول التراث، عن "رحلة مشوقة في أسواق بيروت العثمانية وشوارعها وأزقتها (...) وعن تحول البلدة الصغيرة إلى مدينة عالمية مزدهرة". وتشير البروفيسورة ناديا اسكندراني التي نظمت عددا من المؤتمرات المحلية والدولية حول بيروت إلى العصر الذهبي للمدينة والتي حرص الفنانون والمفكرون والكتاب على حفظه في قوالب تمزج بين الخيال والواقع. "يخضع إرث بيروت، وفقا لما تقول لـ"ارفع صوتك"، منذ زمن طويل لإعادة البناء. وإذا توقفنا عند الخمسينات، تلفتنا بيروت "الأنوار" بمساحاتها الثقافية التي تضم المدارس والصحف والمعارض ودور السينما مثل سينما روكسي التي يصفها صلاح ستيتيه الكاتب والسفير اللبناني في مذكراته، بالأجمل في ذلك الزمن في منطقة الشرق الأوسط قبل أن تختفي بفعل قذائف الحرب الأهلية".
بيروت الحرب الأهلية
— 卄丨ㄚ卂爪 🇱🇧 (@Hiyam_D) August 5, 2020
بيروت الإهمال 2020#علقوا_المشانق pic.twitter.com/6s3Llf2ho5
وتحت ركام الحرب الأهلية أيضا يحاول أن يختفي "الخط الأخضر" أو الحدود الفاصلة التي مزقت بيروت إلى رئتين معطلتين، بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية اللتين شهدتا على اقتتال الأخوة. وبعد أن كانت بيروت أشبه بـ"اختصار للعالم العربي وبمدينة تعج بالايديولوجيات العالمية والتجديد والحداثة والتي تلهم الكتاب والفلاسفة والتي شكلت مركزا لإقامة للفنانين والصحافيين والرسامين والنحاتين"، باتت مدينة أشباح طرد منها الخوف السكان لتحل في المباني الميليشيات وينتشر القناصون. وجد هذا الخط مع الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975 ويفترض أنه اختفى مع انتهائها مع اتفاق الطائف في العام 1989. لكن هذا الخط بقي جرحا في قلب العاصمة، توقظه الزلازل الطائفية بين الفينة والفينة، إما على الأرض وإما في النفوس. بينما بقيت المباني تشهد على رصاص الحرب الدموية الطويلة.
هذه المباني نفسها حاولت الثقافة إنقاذها من خلال فنون الشارع والغرافيتي في محاولة لإخفاء كراهية الماضي وتلوين سواد الأيام، لكن بيروت لم تهدأ يوما وبالأمس كانت ساحة لما عرف بـ"انتفاضة تشرين" التي اندلعت تنديدا بتدهور الظروف المعيشية. ساحة الشهداء أصبحت صرحا يكتسب رمزية متجددة حسب السياقات، فهي ساحة المدافع وساحة الحرية وساحة الاستقلال عن الوصاية السورية وساحة الديمقراطية الرافضة لكل أشكال القمع. ساحة تختصر الساحات اللبنانية، تشهد اليوم على تكدس نفايات الفساد على جوانب الشوارع وعلى إقفال مكتبات عريقة وعلى توقف الحركة الثقافية التي اعتادت أن تستقطب اللبنانيين والزوار إلى معارض سباقة. هذا على سبيل المثال، حال المعرض الأخير للكتاب العربي في دورته الـ63 والذي أصبح محط جدل يعكس الانقسام العمودي في الشارع اللبناني بفعل التعرض للتيارات الإقليمية والدولية، بعد الترويج لصور وكتب لقاسم سليماني، في لفتة رآها البعض شكلا من أشكال "تجلي السطوة الإيرانية على لبنان".
#لبنان.. رسومات غرافيتي تملأ الوسط الفاخر لمدينة #بيروت
— قناة الحرة (@alhurranews) November 18, 2019
رسومات على واجهات زجاجية محطمة وعلى جدران تدين الطبقة السياسية اللبنانية، في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، حيث يتظاهر كل ليلة تقريبا عشرات الآلاف من اللبنانيين ويهتفون ضد الفساد pic.twitter.com/fiOP2lPhnr
بيروت اللبنانية تعيش الانفصام بين الإرث والمعالم التاريخية التي تعيدها لعصر القصص الشعبية والتنوع اللساني والحكواتي في المقاهي والمساجد والكنائس والكنيس اليهودي والقصور المتميزة التي أصبحت متاحف مثل قصر سرسق الذي شيد في بدايات القرن العشرين ليشهد على أساليب العمارة الإيطالية والعثمانية التي اكتسبت صبغة لبنانية وقصر بسترس وسواهما الكثير وخط سكة الحديد، والتهديد الوجودي الذي يتجلى بأكثر صوره ترويعا مع انهيار ما تبقى من إهراءات القمح التي تلقت صفعة انفجار المرفأ لتحمي ما تبقى من بيروت، بينما بقى تمثال المهاجر صامدا وشاهدا على حقبة جديدة من التهجير والتفريغ.
الفنان التشكيلي من #الجزائر #عبد_الحليم_كبيش يصور لوحة "شظايا بيروت" #لبنان #تفجير_مرفأ_بيروت #بيروت_منكوبة pic.twitter.com/AhabiCVK6M
— Jessy El Murr جيسي المرّ (@jessytrends) August 8, 2020
إن روح بيروت المشتتة والتي تصرخ بين الأنقاض تطارد اليوم مراكب الهجرة غير الشرعية والتي حولت بقع الساحل إلى نقطة فرار بحثا عن مستقبل أفضل. يقال أن المكان يبني الذاكرة ويعكسها فأي ذكريات تتأصل في الذاكرة الجماعية للبنانيين وللناظرين لبيروت اليوم؟ تستمر أجنحة بيروت بالتكسر على وقع التحولات العالمية، ويزداد تقوقعها أكثر فأكثر على الذات وعلى الخوف من الآخر.
تروي لنا الأديبة فيفي أبو ديب التي اشتهرت بكتبها عن المدينة: "في جينات بيروت سر من الأسرار، يجعلها تبدو رائعة حتى في أسوأ حالاتها وفي غمرة الفساد الذي يتآكلها. لبيروت إغراء لا يمكن التنصل منه وطبقات متعددة تخبئ أعوام من النضال والقتال والرقص على الأنقاض والموت الذي يذكرنا بأننا جميعا سندفن تحت التراب نفسه بغض النظر عن معتقداتنا. فههنا مسجد الخضر في وسط المدينة، مبنيًا على كنيسة بنيت بدورها على معبد وثني. أما عن علاقتنا ببيروت فهي علاقة متناقضة تجمع بين الحب والنفور".. لحن الحب يتجلى في التمسك بالعيش فيها أو بالعودة إليها بينما يزداد النفور والنشاز كلما أشبعتنا هذه المدينة إحباطا كما حين يكتب أحدهم، مع انقطاع بيروت عن الحضارة بغياب الفيول لمحطات الإنترنت: "صباح الخير من العصر الحجري!"