لمّا كانت الذاكرة الجمعية لكل أمة، تتألف بالمقام الأول من عدد كبير من الأدبيات والمعارف والخبرات المتراكمة على مدار القرون، ولمّا كان الدين أحد أهم تلك المعارف على الإطلاق، فقد كان من الطبيعي أن نلمس حضورًا مهمًا للأفكار والعقائد الدينية والمذهبية على ساحة الوجدان الشعبي. الأمر الذي يمكن التأكد من صحته عند مراجعة الكثير من الأمثال، والتعبيرات الشائعة، وحتى الشتائم الدارجة.
من البخاري إلى "الخراشي"
عرف المصريون الكثير من الأمثلة والتعبيرات الشائعة، تلك التي اقتبسوها بالأساس من التراث السني. من أشهر تلك الأمثلة، عبارة "العلم في الراس مش في الكراس"، وهي العبارة التي يُزعم أنها ترجع لأحد المواقف الشهيرة التي وقعت لأبي حامد الغزالي المتوفى 505ه. تقول الرواية إن الغزالي سافر في شبابه من طوس إلى جرجان؛ ليحضر دروس الإمام أبي نصر الإسماعيلي. وفي أثناء عودته إلى بلدته طوس، قابله مجموعة من قطاع الطريق، وسرقوا حقائبه، فناشدهم الغزالي ورجاهم أن يردوا له الحقائب لأن بها كتبه. وعندها، رد عليه أحد السارقين قائلًا: "كيف تزعم أنك عرفت عِلمها وعندما أخذناها منك أصبحتَ لا تعلم شيئًا وبقيتَ بلا علم؟!"، ثم أشفق على الغزالي فترك له الكتب. هذه الحادثة أثرت كثيرًا على الغزالي لأنها دفعته لإدراك أهمية الحفظ في طلب العلم، ولذلك نراه يمكث بعدها لمدة ثلاث سنوات كاملة ليحفظ جميع ما دون في تلك الكتب. وهكذا، اشتهرت عبارة "العلم في الراس مش في الكراس"، لتصير مثلًا معروفًا ذائعًا بين الناس.
بعض التعبيرات العامية الشائعة، وضحت موقف المصريين من المذاهب المشهورة في الأوساط السنية. من ذلك عبارة "متبقاش حنبلي"، والتي تُقال في الكثير من الأحيان لإظهار الضيق من شدة الالتزام أو التزمت. الأمر الذي يمكن التأكد منه من خلال مراجعة تاريخ انتشار المذاهب الفقهية في مصر، والذي يؤكد أن المصريين تمذهبوا بالمذهب الشافعي في أغلب الأحيان، وبالمذهب الحنفي في أحيان أخرى، أما المذهب الحنبلي -المشهور بالتشدد فيما يخص العقائد- فلم يتبناه المصريون، مما حدا به لأن يصير مضربًا الأمثال.
في السياق نفسه، أظهرت بعض التعبيرات تعظيم المصريين لمجموعة من المحدثين والعلماء المبجلين في العقل السني الجمعي. ومن ذلك القول المشهور: "غلطت في البخاري!"، والذي يُقال للرد على التوبيخ، ويقصد به القائل أنه لم يقترف جريمة تستحق كل ذلك اللوم والعتاب. ومن المعروف أن البخاري الوارد ذكره في العبارة، هو محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256ه، وهو صاحب صحيح البخاري، الذي يُعدّ أهم كتب الحديث عند السنة.

أيضًا، من الأمثلة الشائعة التي استمدت تأثيرها من الذاكرة السنية، المثل المعروف "لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها"، والذي يعود -بالأساس- لمقولة أسماء بنت أبي بكر الصديق. بحسب ما يذكره ابن جرير الطبري المتوفى 310ه، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، فإن عبد الله بن الزبير بن العوام قد تمكن من فرض سيطرته على مساحات واسعة من البلاد الإسلامية بعد وفاة الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في عام 64ه، وكان -أي عبد الله- يحكم من عاصمته في مكة.
لاحقا، تمكن الأمويون من استعادة قوتهم في عام 73ه، وقام الخليفة عبد الملك بن مروان بتوجيه جيش كبير بقيادة الحجاج لقتال ابن الزبير، ولم يلبث الحجاج أن وصل الحجاز، وضرب الحصار الشديد على ابن الزبير، حتى تفرق عن الأخير أغلبية أتباعه ومناصريه. بحسب ما يذكر الطبري، فإن الحجاج أرسل لابن الزبير عارضًا عليه الأمان إن استسلم، فذهب عبد الله إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، وأبلغها بالعرض، فنصحته بالرفض. ولما قال لها إنه يخاف أن يمثل الأمويون بجثته إن ظفروا به، أجابته بالقول: لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها، بمعنى أن المصيبة الكبرى ستقع عند موته، أما ما سيحدث بعد ذلك فلن يضره في شيء.
الأزهر، باعتباره المعقل الأهم للسنة، حظي هو الآخر ببعض التأثيرات المهمة التي دخلت في الأمثال والتعابير الشائعة في المجتمع المصري. من أهم تلك التعابير جملة "يا خراشي"، والتي اعتاد أن ينادي بها المصريون في أوقات الشدة والعسر، وعند إظهار الجزع والخوف. بحسب ما هو معروف، فإن أصل تلك الجملة يعود إلى الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي المتوفى عام 1690م، والذي يُنسب إلى قرية أبي خراش التابعة لمدينة الرحمانية بمحافظة البحيرة. الخرشي -والذي تغير اسمه فيما بعد ليصبح الخراشي- كان أول إمام في تاريخ الجامع الأزهر، وكان معروفًا بنصرته للفقراء والمساكين، حتى أنه كثيرًا ما وقف أمام الحكام ليشفع للمظلومين ولأصحاب الحوائج. كل ذلك حدا بالمصريين لأن يذكروا اسمه عندما يصيبهم الكرب، وأن ينادوا به عاليًا، وكأنهم بذلك ينشدون مساعدته ومعونته، الأمر الذي استمر بعد وفاة "الخراشي"، وصار تقليدًا معروفًا عند الناس على مر القرون.
"خلي البساط أحمدي".. للتصوف نصيب
على الرغم من دخول التصوف في بنية التدين المصري منذ فترة مبكرة، إلا أن تأثيره -أي التصوف- قد تضخم بشكل كبير في العصر المملوكي على وجه الخصوص، ذلك أن البلاد المصرية قد شهدت في ذلك العصر وفود العشرات من الأولياء المتصوفة القادمين من بلاد المغرب، كما أنها عرفت ظهور العديد من الطرق الصوفية المتمايزة، تلك التي استقطبت الآلاف من العامة والبسطاء في شتى المدن والقرى والنجوع.
من هنا، كان من الطبيعي أن نجد أن الكثير من الأمثلة المصرية قد تأثرت بالمصطلحات ذات الطابع الصوفي، وقد اتضح ذلك في نوعين من الأمثال الشائعة: الأول هو الأمثال العامة، والتي عبرت عن بعض العلاقات الوطيدة الناشئة بين المجتمع والاقتصاد والدين، والنوع الثاني، وهو الذي يتصل بأحد الأولياء على وجه الخصوص.
من أمثال النوع الأول "يطلع من المولد بلا حمص"، والذي يعبر عن الطرف الخاسر الذي لم يربح شيئًا، و"تحت القبة شيخ"، والذي يظهر فيه تأثير بناء القباب والأضرحة على جثامين الأولياء، و"كل شيخ وله طريقة" والذي يعبر عن اختلاف الحلول والطرق، ويوضح كثرة الطرق الصوفية التي عرفتها البلاد المصرية، و"زعق له ولي" ويعبر عن الاعتقاد الشائع في قوة الأولياء وتأثيرهم واعتقاد العامة بكراماتهم وقدراتهم الخارقة القادرة على تغيير أحوال الناس، وأخيرًا المثل المشهور "زيارة وتجارة"، والذي يوضح وجود ارتباط وثيق بين الدين والاقتصاد في حياة المصريين، ويعبر عن أهمية المولد كطقس اجتماعي، تجتمع فيه زيارة الولي الصالح، مع أعمال البيع والشراء.

أما النوع الثاني من الأمثال والتعبيرات الصوفية الشائعة في مصر، فمنه جملة "خلي البساط أحمدي"، ويُقصد بها أن الشيء البسيط ممكن أن يكفي الجميع إن وضعت فيه البركة. وأصل هذا المثل يعود لأحمد البدوي المتوفى 675ه، حيث تزعم الرواية الشعبية أنه لما قدم من المغرب وعاش في مدينة طنطا، فإنه كان يجلس على بساط صغير، وكان أتباعه يجلسون بجواره ليسمعوا منه حديثه، وكان عدد زواره في بعض الأحيان يقترب من الألف شخص، ورغم ذلك كان البساط الصغير يسعهم جميعًا "لبركة البدوي" الذي تعود أصوله إلى آل البيت!
اسم البدوي أيضًا ارتبط بتعبير شائع آخر وبقصة غرائبية أخرى، وهو "البدوي جاب اليسرى"، والذي قيل إن أصله مرتبط ببعض الحروب التي وقع فيها عدد من المسلمين في أسر الصليبيين، فلمّا ذهبت أم أحد الأسرى إلى البدوي لتشتكي له ما وقع لابنها، إنه -أي البدوي- قد رده لها. من هنا، شاعت تلك الحكاية لتصير مثلًا يُقال في التعزية، وإثباتًا لقدرة الأولياء في رد الغائب لأهله!
أيضًا، سنجد أن هناك تعبير شهير ينطق به المصريون عند إقدامهم على الصعاب والمخاطر، وهو "يا عدوي"، والذي يرجع أصله إلى الشيخ خضر بن أبي بكر العدوي الكردي الذي حظي بمكانة رفيعة في دولة السلطان المملوكي الأشهر الظاهر بيبرس، الأمر الذي شجع الناس على التوسل به ومناشدته قُبيل القيام بالمهام الصعبة.
"ابن الرفضي" و"كروديا".. الشتائم العنصرية أيضا
في 361ه انتقل الخليفة الفاطمي المعز لدين الله إلى مصر، واتخذ من القاهرة عاصمةً جديدة لدولته الواسعة، وتابعه في ذلك خلفاؤه المتعاقبون على مدار ما يزيد عن قرنين ونصف، حتى سقطت الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي عام 567ه.
على الرغم من قصر زمن الدولة الفاطمية في مصر -إذا ما قورن بباقي عصور مصر الإسلامية- فإننا سنجد أن الفاطميين قد أثروا كثيرًا في الوجدان المصري الجمعي، الأمر الذي ظهرت ملامحه في الكثير من الطقوس والأعياد، كما وضح أيضًا في العديد من الأمثال، تلك التي تأثرت بأصول وعقائد المذهب الشيعي الذي دان به الخلفاء الفاطميون.
المصريون -الذين بقيت الأغلبية الغالبة منهم محتفظةً بمذهبها السني التقليدي- دخلوا في الكثير من المناوشات الكلامية مع الفاطميين. وقد خلدت الأمثال قصة تلك المجادلات في الكثير من الأقوال الشائعة، من الطرفين، والتي لا تزال منتشرة حتى الآن على ألسنة الناس في كل مكان.
على سبيل المثال، اعتاد أتباع الفاطميين التعرض لرموز المذهب السني. ظهر ذلك في الكثير من التعبيرات الشائعة، ومنها "يعمل عيشة"، والتي تُقال عن الشخص الذي يدعي القوة والبأس، ثم سرعان ما يظهر ضعفه عقب انهزامه في المعركة، و"خيبة الأمل راكبة جمل". وأصل التعبيرين يعود لمعركة الجمل الشهيرة التي وقعت بالبصرة في عام 36ه، عندما تمكن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب من الانتصار على معارضيه الذين قادتهم عائشة بنت أبي بكر إلى أرض القتال، وهي تعتلي الجمل الذي سُميت به المعركة: معركة الجمل.

في السياق نفسه، عرف العصر الفاطمي ظهور تعبير "يا عمر"، الذي قُصد به إظهار الامتعاض والتبرم، وقد جاء أصل هذا التعبير من خطب بعض الفقهاء الشيعة الذين اعتادوا سب عمر والتشنيع عليه في الكثير من الدروس والخطب. أيضًا ظهرت كلمة "كروديا" في عصر الدولة الأيوبية كنوع من أنواع السباب والشتائم التي قُصد منها التقليل من قيمة صلاح الدين الأيوبي وأهله من الأكراد الذين أسقطوا الدولة الفاطمية.
بعض الأمثلة التي تعود للعصر الفاطمي لم تحمل القدح أو الذم، وإنما عبرت عن بعض الأمور المتصلة بالسياسة الفاطمية من جهة، أو المعتقدات الشيعية من جهة أخرى. من ذلك الجملة الشهيرة "سيف المعز أو ذهبه"، والتي توضح أهمية السيف والمال في سياسة الدولة وتصريف أمورها. ويرجع أصلها لواقعة شهيرة سُئل فيها المعز لدين الله عن أصله ونسبه، فسحب عندها سيفه وقال: هذا أصلي، ثم أمسك بالدنانير الذهبية وقال: وهذا نسبي.
أيضًا، سنجد أن وصف الفتى الشجاع بأنه "عترة"، هو أحد التوصيفات التي ظهرت في العصر الفاطمي، ويعود أصله لكلمة العترة التي وصف بها آل بيت الرسول في الكثير من الأحاديث.
على الجهة المقابلة، عرف المصريون بعض التعبيرات التي استهزأت بالسلطة الفاطمية، ومنها "ابن الرفضي" والتي ترجع أصولها لكلمة الرافضي. ومنها قول المصريين "ماشي جنب الحيط"، ويُقصد به الرجل الذي لا دخل له بالسياسة والسلطة، والذي يسير بجوار قصور الفاطميين دون أن يعترض على سطوتهم.