انتهى المطاف بالمنذر بن الحارث منفيا في حصن أتشي كاستيللو في صقلية. وظل هناك إلى أن توفي.
انتهى المطاف بالمنذر بن الحارث منفيا في حصن أتشي كاستيللو في صقلية. وظل هناك إلى أن توفي.

يخبرنا المؤرخ السرياني يوحنا الآسيوي، المعاصر للأحداث، أن من يسميهم "عرب الفرس" (المناذرة) كانوا يخشون الملك الغساني الحارث بن جبلة ويهابونه. فلما مات سخروا واحتقروا أبناءه وأمراءه وجيشه، واعتقدوا أنه بموت الحارث قد آلت إليهم كل ممتلكاته. وعندئذ اجتمعوا وتوجهوا إلى أرض "عرب الروم" (أي أرض الغساسنة) وعسكروا فيها وساقوا إبلهم كلها غنيمة إلى أرضهم. ولما علم المنذر الغساني بذلك، تضايق كثيراً وتملكته الحمية، فقاد كل إخوته وأبنائه وأمرائه وانقضوا على العدو فجأة.

أما عرب الفرس (المناذرة)، فكانوا يعتقدون أن الغساسنة لن يجرؤوا على قتالهم، وما إن رأى قائدهم قابوس سرعة انقضاض المنذر وجنوده الذين دخلوا معه وسيطروا على أرضه وأبادوا جيشه، حتى ركب مع ثلة من جنوده وهربوا بدون سلاح. ويذكر المؤرخ السرياني أن المنذر دخل خيمة قابوس وأقام فيها، واستولى على معسكره ومتاعه وكل ثروته، كما قبض على أقربائه وأمرائه وأخذهم أسرى وقتل الباقين. ثم توغل مسافة ثلاثة فراسخ (تسعة أميال) داخل أرض قابوس وأقام معسكره هناك، حيث قطعان الماشية وثروة "عرب الفرس".

الحارث بن جبلة الغساني.. الزعيم "العلماني" للكنيسة السريانية
تختلف صورة الملك الغساني الحارث بن جبلة في المصادر العربية والبيزنطية عنها في المصادر السريانية. ففي حين يظهر عند الطبري واليعقوبي والمسعودي، وكذلك عند بروكوبيوس وملالاس، مقاتلاً من الطراز الرفيع ضد أعدائه المناذرة من عرب العراق، ومن يقف خلفهم من ملوك الساسانيين، نجده في المصادر السريانية مقاتلاً من مقاتلي المسيح على خطى القديس الجندي سيرجيوس، جعل هدفه خدمة كنيسته السريانية الأرثوذوكسية "ذات الإيمان القويم".

وبعد فترة طويلة من إقامته هناك، جاء جواسيس قابوس ورأوا الخيمة مقامة في أرضه، فظنوا أن ملكهم فيها، فدخلوا بثقة داخل مخيم المنذر، فأمسكهم جند المنذر وقتلوا وأسروا المشهورين منهم. وهكذا، ظل المنذر وجنوده لفترة طويلة في أرض المناذرة وعادوا من هناك بقافلة كبيرة من الخيول وقطعان الإبل والسلاح وغير ذلك من الغنائم.

ويضيف المؤرخ الذي كان شاهد عيان على تلك الأحداث: "بعد فترة، عاد قابوس إلى أرضه وجمع جيشاً كبيراً وأرسل للمنذر لكي يستعد لقتاله قائلاً: ها نحن قادمون إليك بالرغم من أنك انقضضت علينا كاللص، واعتقدت أنك هزمتنا، والآن قادمون إليك لقتالك علانية. عندئذ أجابه المنذر بقوله: "لماذا تتكبدون عناء الطريق، إنني قادم إليكم، فأنا أستعد للقائك وإني لما أقول فاعل". فقابلهم المنذر في الصحراء وأخذهم على حين غرة ولم يتوقعوا ذلك، إذ انقض عليهم وفرق جمعهم ففروا أمامه ثانية".

وكتب المنذر إلى الإمبراطور الروماني جستين الثاني (565-578م) يخبره بانتصاراته وباحتياجاته المالية لكي يعد جيشه استعداداً لهجوم انتقامي متوقع من المناذرة "عرب الفرس". لكن جستين غضب من طلب المنذر، ولعنه وتوعده بالعقاب القاسي، وأضمر في نفسه أن يقتله.

 

إمبراطور مجنون

 

ويبدي المؤرخ يوحنا الآسيوي استغرابه وعدم فهمه لغضب جستين على المنذر، الذي كان يفترض أن يكافئه على انتصاراته. ولكن جستين الذي كانت تنتابه نوبات جنون، حسب تأكيد المؤرخين المعاصرين له، كان يكره العرب وينظر إليهم بوصفهم تجاراً يحسبون الأمور بمقياس الربح والفائدة، وأنهم لا يأتون لمقابلته إلا من أجل مصلحتهم، ويصمهم بأنهم ناكرو جميل.

ورغم أن هذه الصفات ذكرها جستين بمناسبة وصول رسل عرب الفرس، الذين جاءوا يطالبون بالضريبة المتفق عليها سابقاً في الهدنة الرومية الفارسية عام 562، حيث تقضي بدفع الروم لعرب الحيرة مبلغاً قدره ألف قطعة ذهبية، إلا أنها تعبر عن نظرة جستين للعرب جميعاً. ولذلك عندما رفض مقابلة وفد عرب الحيرة، جعلهم يغزون أراضي المنذر بن الحارث الغساني بدلاً من مكافأته، لكن المنذر انتصر عليهم وأذاقهم الهزيمة مرتين، وطالب جستين بالمال. فما كان من الأخير إلا أن كتب رسالة إلى القائد العسكري موريقيوس لكي يقتل المنذر.

قطعة أثرية قديمة عثر عليها منقبون في موقع مدينة الحيرة القديمة قرب النجف.
مسيحيون قدامى تحتفظ النجف بمقابرهم.. تعرف على مملكة الحيرة القديمة!
تشتهر مدينة النجف في شتى أنحاء العالم الإسلامي باعتبارها المدينة الشيعية المقدسة التي يواري ثراها جثمان الإمام علي بن أبي طالب، أول الأئمة المعصومين عند الشيعة الاثني عشرية. بدأت أهمية النجف قبل ظهور الإسلام بأربعة قرون كاملة. شهدت أرضها قيام مملكة الحيرة القديمة التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الفرس الساسانيين. وأسهم ملوكها بشكل مؤثر في نشر المسيحية النسطورية في بعض أنحاء شبه الجزيرة العربية.

ويروي يوحنا الآسيوي القصة كما يلي: "عندما امتلأ الملك جستين بالعداء والغضب على المنذر، كتب رسالة إلى البطريق موريقيوس لكي يقتل المنذر بسرية تامة. وهكذا كتب له: "ها أنذا قد كتبت للمنذر العربي كي يأتي إليك، فاستعد واضرب عنقه حالما يأتيك، ولا تتردد ثم اكتب لنا". ثم كتب جستين للمنذر قائلاً: "أرسلت للبطريق موريقيوس بشأن بعض الأمور الضرورية لكي يتحدث معك، فتوجه إليه في الحال وتباحثا سوياً في الأمر".

وبحسب مؤرخنا؛ "فقد شاع أمر الرسالتين بين الناس، وكان من صنع الله أن أبدلت الرسالتان، فكتب اسم المنذر على الرسالة الموجهة لموريقيوس.. وهكذا أخذ الموظف المختص الرسالتين وسلمهما وفقاً لما كتب على كل واحدة منهما... فلما تسلم المنذر الرسالة اضطرب اضطراباً شديداً وقال: هل أجازى بقطع رقبتي مقابل جهودي من أجل الروم. ولذلك امتلأ المنذر غضباً وجمع جنوده وأمرهم بحراسته قائلاً: إذا رأيتم من أرسلهم ملك الروم إليّ فاقبضوا عليهم إن كانوا قلة وأبقوهم خارج المعسكر، وإن كانوا كثر فقاتلوهم بشجاعة في الحال ولا تنخدعوا بما يقولونه لكم، ولا تجعلوهم يقتربون من معسكركم مطلقاً. وهكذا ظلت كل قبائل العرب (الغساسنة) محتشدة ليلاً نهاراً تنتظر القتال مع من يأتيهم من الروم".

وكان من نتيجة ذلك أن امتنع المنذر عن قتال الفرس والدفاع عن الحدود الشرقية لإمبراطوريتهم، فخربوا القرى والمدن وتوغلوا وسبوا سبياً كثيراً، حتى بلغوا مشارف أنطاكية وأضرموا الحرائق في القرى المحصنة كالمدن التي كانت تحيط بأنطاكية وخلافها، ثم عادوا إلى أرضهم بقافلة كبيرة من الغنائم، كما يؤكد مؤرخو تلك الحقبة. الأمر الذي أجبر الامبراطور جستين للتصالح مع المنذر، وإرسال الرسل له، غير أن المنذر بقي على موقفه المعارض للصلح لمدة ثلاث سنوات. ومع ذلك؛ يتحدث يوحنا الآسيوي عن حزن المنذر على أراضي الروم التي أخربها الفرس وأتباعهم اللخميون، كونه رجلا مسيحيا، مما حدا به إلى إرسال رسالة إلى البطريق جستنيانوس بن جرمانوس، وكان الرئيس الأعلى لقواد الجيوش البيزنطية في الشرق، جاء فيها: "إنني أعلم حيل الروم، وقد سمعت عنها منذ زمن طويل، وأنت تعلم خدعة الموت التي جوزيت بها مقابل جهودي، ومن ثم لن أثق ثانية في أحد من قادة الروم. أما أنت فلأنك رجل مسيحي فاضل وتخاف الله كما أعلم، فإذا جئت إلى قبر البار مار سرجيس بالرصافة، وأرسلت إلي، آتيك هناك مع جيش مسلح مستعد للقتال، فإن قابلتني بسلام وأوضحت لي الحقيقة سيمضي كلانا إلى سبيله بسلام، وإذا اتضح لي أن في الأمر خدعة أخرى فإني أرجو الله وأثق أنه لن يدع أحداً يقبض علي".

 

عند ضريح سرجيوس

 

رد البطريق جستنيانوس، الذي فرح برسالة المنذر، بأن يلتقيا في يوم معين عند ضريح القديس سرجيس دون أن يرهق جيشه لأنهما سيفترقان بسلام. فالتقيا في الرصافة (سيرجيو بوليس) أمام ضريح القديس الذي يجله الغساسنة كثيراً، وتداولا في أمور كثيرة واتفقا وافترقا بسلام. كان ذلك عام 578م. ونتيجة لتلك المصالحة، هاجم المنذر حيرة النعمان وانقضت قواته على أهلها على حين غرة، وأعملوا فيهم القتل والإبادة وخربوا كل المناطق وحرّقوها، عدا الكنائس، حيث أقام المنذر خيمته في إحداها ومكث هناك خمسة أيام. وبعد أن أسر كل من وجده من "عرب الفرس" قاد سبايا الحيرة والروم السجناء، وقطعان الماشية والإبل وعاد بها إلى أرضه محققاُ نصراً كبيراً، ووزع المنذر ما سباه على الأديرة والكنائس الأرثوذكسية (المونوفيسية) وعلى الفقراء والمساكين، فأضاف لمجده مجداً إضافياً، حسب تعبير يوحنا الآسيوي. وقد خلد المنذر انتصاراته هذه ببناء كنيسة خاصة به في مدينة الرصافة.

عملة عليها صورة الملك إيسباسينو عثر عليها في دورا اوروبس السورية.
"خاراكس".. مملكة ميسان التي تؤجل الفيضانات والحروب اكتشافها
شغل موقع مدينة "خاراكس" كما تسمى باليونانية، و"كرك سباسينو" كما تسمى بالتدمرية، علماء الآثار منذ القرن التاسع عشر، نظراً لأهمية هذه المدينة في التاريخ الكلاسيكي للعراق وإيران، ولأنها كانت واحدة من أهم المراكز التجارية العالمية خلال أكثر من خمسة قرون.

ويذكر يوحنا الآسيوي أن الملك المنذر وصل إلى القسطنطينية، في شباط عام 580م مع ابنين له، فاستقبل بكل حفاوة وتكريم وأنعم عليه الإمبراطور الجديد طيباريوس بالتاج، مع أن الروم لم يكونوا ينعمون على عمالهم العرب إلا بالإكليل. وقد بلغ خبر هذه الحادثة إلى إسبانيا، حيث ذكرها القس البكلري، ووصف كيف أن القيصر طيباريوس رحب بالمنذر ملك الشرقيين. وانتهز المنذر هذه المناسبة وطلب العفو عن أصحاب مذهبه وحصل عليه وعقد مجمعاً خاصاً كنيسة لرأب أحد الصدوع التي كانت تعانيها الكنيسة المونوفيسية.

 

الملك المظلوم

 

بعد سلسلة من الهزائم أمام القائد الفارسي أذرمهان مرزبان، بين عامي 576م و580 م، تصارع قادة الروم البيزنطيين فيما بينهم وكتبوا إلى القيصر طيباريوس متهمين بعضهم بعضاً بالتخاذل، فوجد طيباريوس أن البطريق موريقيوس ليس واحداً منهم، فرقاه إلى رتبة كونت (قائد) الحرس الإمبراطوري، ثم أمره بالتوجه إلى الشرق لكي يتولى رئاسة الجيوش الرومانية، ومنحه سلطة إدارة وقيادة الألوية وضباط الجيش. غير أن نتائج حروبه مع الفرس لم تأت كما هو متوقع؛ إذ هزم الفرس قوات الروم في أكثر من موقعة وقام هو بالهجوم. وكانت الحرب جولة لموريقيوس وجولة للفرس، ذهبت ضحيتها الكثير من المدن والقرى حرقاً ونهباً وسبياً.

وما كان من موريقيوس إلا أن لجأ إلى المنذر، الذي تصالح حديثاً مع القسطنطينية، وحظي بتكريم من الإمبراطور. ولذلك، حسب رواية يوحنا الآسيوي، جمع موريقيوس والمنذر ملك العرب الغساسنة، جيشيهما ثم عبرا سوياً الأراضي الواقعة تحت سلطة الفرس، عن طريق الصحراء في سنة 580 م، وقد توغلا حتى بلغا منطقة "بيت أرامايا"، والتي تبعد مسافة عدة أميال داخل الأراضي الفارسية، وعندما بلغا جسر أرامايا الكبير، الذي خططا لعبوره سوياً واحتلال عاصمة المملكة الفارسية طيسفون (المدائن) وجدا الجسر مقطوعاً، إذ قطعه الفرس عندما علموا بقدوم موريقيوس والمنذر. وهكذا تكبد الجيشان مشقة كبيرة ولا سيما الروم، وتخاصم موريقيوس والمنذر وعادا أدراجهما بدون أن يحققا الهدف الذي خططا له. وشرعا يكتبان إلى الإمبراطور طيباريوس يشكوان بعضهما البعض، إذ زعم موريقيوس أن المنذر أرسل إلى الفرس قبل غزوه لأرض فارس، فقطعوا الجسر لئلا يعبرانه، وكان ذلك، حسب يوحنا الآسيوي افتراء على المنذر. وقد اجتهد طيباريوس وراسل حكام الأقاليم للتوفيق بينهما، ثم توجه موريقيوس إلى الملك وشكا المنذر بعنف وبغير وجه حق، يقول يوحنا الأسيوي.

 ويتابع سرد الأحداث قائلا: "بعدما وجد الفرس أن موريقيوس والمنذر قد عادا إلى أرضهما وليس لهما أثر، اخترق مرزبان الفرس العظيم آذرمهان أرض الروم بجيش جرار، وبلغ مدينة تلا، ورأس العين، فهدم وأحرق الأماكن الباقية من غزوته السابقة، ثم توجه إلى الرها: تلك الأرض العامرة بالغنى فأحرق وهدم وخرب أرض الأسرهونيين. وكان ينتقل بثقة داخل الأراضي الرومية وقضى هناك أياماً كثيرة، وهدم كل المنازل في طريقه وسخر من جيش الروم الذي لم يكن هناك.

قادت الملكة ماوية حربا شرسة ضد الرومان انتهت بتوقيع اتفاقية سلام مع الإمبراطور الروماني فالانس.
ماوية ملكة العرب "السراسين".. من تهديد بيزنطة إلى إنقاذها
لم يكم أمام الإمبراطور الروماني فالانس سوى طلب السلام. وهكذا، بعد أن فرضت ماوية شروط الحرب، فرضت أيضًا شروط السلام، ونجحت في فرض أسقف من أبناء شعبها، ومن مذهبها، ولم يكن أمام الأريوسيين سوى القبول، فعُيِّن موسى حسب الأصول كأول أسقف من العرب وللعرب.

وعندما علم أذرمهان أن المنذر وموريقيوس يعتزمان العودة لقتاله، أرسل إليهما ساخراً يقول: "لأنني علمت أنكما تعتزمان المجيء إلي فلا تتحملا أي مشقة وتأتيا، لأنكما منهكان من عناء السفر، فاستريحا وأنا قادم إليكما". وبعدما انتهى من التخريب والسبي والسلب الذي خطط له ونفذه، وعلم أنهما اعتزما الانقضاض عليه في طريق عودته، قاد الغنيمة والسبي الذي غنمه وهرب من الرها، عائداً إلى بلده دون أن يصطدم به أحد من المئتي ألف جندي الذين أرهبوا الملك كسرى. لكن عندما جد آذرمهان في العودة خرجت القوات الرومية في إثره، ولما عجزت عن اللحاق به، زعم القادة أنه أسرع بالفرار".

ويتابع يوحنا الآسيوي روايته فيقول: "أما المنذر بن الحارث فعندما اجتمع جيش العرب أتباع الفرس، بالإضافة إلى جيش آخر من فارس لكي يهاجموه بعدما عاد من فارس، إلى أرضه. وحين علم المنذر بذلك، لم يتوان لحظة، بل جمع جيشه في الحال، كرجل مقاتل، وانقض عليهم في طريق الصحراء. فبعد أن أرسل جواسيسه وعلم بمكانهم وعددهم وعتادهم، انقض عليهم بغتة فبهتهم وبلبلهم وأباد منهم الكثير، كما قبض على بعضهم وقيدهم بالأغلال. ولم يهرب منهم سوى قليلون عادوا إلى أرضهم. أما المنذر فقد توجه مباشرة إلى الحيرة، وأعمل فيها القتل والحرق والتخريب، ثم عاد منها بغنيمة عظيمة وسبي كثير، وهكذا ظفر المنذر بعظمة".

 

خيانة مجنا

 

يبدو أن الإمبراطور طيباريوس اقتنع أخيراً بشكوى موريقيوس، الذي لا شك أنه تميز غضباً وحسداً بعد انتصار المنذر على جيشي عرب الحيرة وفارس. وامتلأ الإمبراطور غيظاً، كما يقول يوحنا الآسيوي، وفكر في كيفية الاحتيال للقبض عليه والإتيان به إلى العاصمة. وكان الوصي مجنا السرياني حاكم أنطاكية صديقاً للمنذر وسنداً له عند الملك، وكان المنذر يثق بأنه يحقق له ما يطلبه من الملك، وقد أراد مجنا أن يتملق الملك فقال له: "أنا آتيك به مكبلاً بالأغلال إن أمرت بهذا". ففرح الملك وأرسل مجنا ببريد الشرق إلى بلدة تدعى حوارين، تلك التي أسسها الملك بعد أن أحاطها بسور ضخم وبنى بها كنيسة، وقد توجه مجنا إلى هناك بحجة تقديس الكنيسة، واصطحب معه بطريرك أنطاكية غريغور الأنطاكي (570- 591م) حتى يستطيع خداع المنذر فيأتي إليه. وبعد وصول مجنا تلك القرية خدع المنذر وأرسل له يقول: "إنني أتيت من أجل تدشين هذه الكنيسة، وأنا متعب من الطريق وإلا لكنت توجهت للاطمئنان على صحتك، فأرجو أن تأتيني فوراً ولا تصطحب معك جنداً كثيراً، لأنني أريدك أن تقضي معي عدة أيام لكي نتسامر سوياً، فلا تجهز نفقات كبيرة لجيش كبير، بل أقدم إلي مع نفر قليل من جندك".

ويتابع يوحنا الآسيوي سرد تفاصل القصة فيقول: "فرح المنذر بعد أن تسلم رسالة مجنا، وتوجه إليه بثقة في الحال، ولم يصطحب معه سوى قلة من جنده، وكان كمن هو ذاهب إلى صديق حميم، فلم يشعر المنذر بأدنى خوف البتة. أما مجنا فأراد أن يخفي خدعته الماكرة، واستقبل المنذر ببشاشة، وأمر فأقيمت مأدبة الطعام وقال للمنذر: "أطلق من جاءوا معك". فأجابه المنذر قائلاً: " قد جئتك مع قلة من جنودي كما طلبت، فلا أستطيع العودة دونهم وإن كانوا قلة". فرد عليه مجنا بقوله: "أطلقهم وعندما تعود أرسل في طلبهم فيأتوك". أما المنذر فلم يَحسُن له هذا التصرف، إذ كان رجلاً ذا خبرة كبيرة، وبدأ يرتاب في أمر مجنا، وأمر جنده بالابتعاد قليلاً وانتظاره، فلما ابتعدوا أمر مجنا القائد المرافق له وجنوده بالاستعداد في هدوء، ولما جن الليل قال مجنا للمنذر: "سيدي البطريق، لقد شكيت عند الملك وأمرك بالذهاب إليه والاعتذار وإقناعه بأن ما أشيع عنك ليس صحيحاً.

فرد عليه المنذر: بعد كل ما قمت به من جهود من أجل الروم، لا أظن أن الملك يقبل ضدي افتراءات، فأنا عامل الملك وهو لم يطلب مني الذهاب إليه، لكنني لا أستطيع أن أترك معسكري الآن فيأتي عرب الفرس فيسبون نسائي وأولادي وكل ممتلكاتي. وبعد ذلك ظهر الجنود الروم المسلحون، وأمر مجنا المنذر قائلاً: إن لم تأت معي بإرادتك، أقيدك بالأغلال وأركبك حماراً وأرسلك على هذا النحو المهين إلى الملك. فتيقن المنذر حينئذ من خديعة مجنا، ولما أدرك أنه جرده من جنوده، وحبسه وأسلمه لجند الروم ليحرسوه، خارت قواه وكأنه أسد بري سقط في شرك. أما جنود المنذر فلما علموا بما حدث له حاصروا الحصن واستعدوا لإحراقه، لكنهم ابتعدوا عنه ما إن ظهر لهم جنود الروم وهم مستعدون للقتال.

 

منفياً في صقلية

 

أما المنذر فقد أخرجوه تحت حراسة مشددة، ووصل على هذا النحو المهين إلى العاصمة، ولما دخل القصر الإمبراطوري أمر الملك أن تفك قيوده ويكون حراً كما كان من قبل، وخصصت له ولمن معه نفقة لإقامته. وأقام المنذر على هذا النحو رغماً عنه مع إحدى زوجاته، واثنين من أبنائه وابنته دون أن يقابله أحد. ويبدو أن محنة المنذر كان لها صدى كبيراً لدى العرب المسيحيين، فهذا أحد المتبرعين في جنوبي العاصمة الأردنية عمان في موقع تل العميري يبني مقاماً على اسم القديس سيرجيوس شفيع الغساسنة، لحماية القائد المعظم المنذر.

بعد فترة، نقل المنذر وعائلته إلى حصن أتشي كاستيللو الذي بني على صخرة خصيصاً له في مدينة كتانيا على جزيرة صقلية الإيطالية، لكي يمضي بقية حياته هناك، تحت الإقامة الجبرية. وقد ورد ذكر المنذر وقضية سجنه في رسالة للبابا غريغوري الأكبر عام 600 ميلادي، وأنه يريد أن يحل مشكلته. لكن سعى البابا هذا لم يتحقق، فمات المنذر داخل سجنه في المنفى.

 

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".