ما إن تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لتشوهات أصابت قاعدة تمثال كهرمانة وسط بغداد، حتى صب العراقيون غضبهم على أمانة العاصمة، المسؤولة عن تطوير وترميم النصب بعد إصابات خطيرة تعرض لها نتيجة حادث مروري.
يقع نصب كهرمانة في أحد أكثر المناطق حيوية وسط بغداد، يتوسط ساحة دائرية بين منطقة الكرادة وشارع السعدون. إلى يمين النصب، تقع ساحة الفردوس حيث شهد العالم إسقاط تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وعلى بعد بضع مئات من الأمتار عن شماله تقع ساحة الفتح حيث يستقر مبنى المسرح الوطني الذي يستقطب جماهير غفيرة مع كل عرض فني.
ومنذ افتتاحه العام 1971، تعرض نصب كهرمانة للعديد من الحوادث، آخرها في مايو الماضي حين فقد سائق السيطرة على سيارته لتصطدم مباشرة بقاعدة النصب. تعرض التمثال بأكمله للاهتزاز، وتحطمت ست من جِراره، وأصاب الضرر أنابيب توزيع المياه في النافورة، بحسب بيان لأمانة بغداد.
أوكَلت الأمانة مهمة ترميم النصب لفريق فني من جمعية الفنانين التشكيليين ووزارة الثقافة بعد إجراء تقييم للأضرار الناتجة عن الحادث. رفع فريق العمل الجِرار المتضررة. بعضها لم يكن قابلاً للترميم كونها مصنوعة من الكونكريت المسلح وليس من المعدن.
وقبل أيام، التقطت كاميرات المدونين صوراً لعملية الترميم، تضمنت مد أنابيب بلاستيكية رخيصة من خلال ثقوب غير منتظمة في بدن الجِرار. أثارت تلك الصور سخط عشاق كهرمانة، كما أثارت غضب عائلة شيخ النحاتين الراحل، محمد غني حكمت، ليُحَمِّل نجله ياسر حكمت في تصريحات إعلامية من العاصمة الأردنية عمان، حيث يقيم، أمانة بغداد مسؤولية "التخريب المتعمد" للنصب عبر الأنابيب البلاستيكية التي وصفها بالـ "الطريقة المشوهة جداً" والتي "لا تليق بالنصب".
ما حصل من ضجة كبيرة تتعلق بترميم نصب كهرمانة ليست الأولى من نوعها. ففي عام 2017 حصلت ضجة مشابهة نتيجة عملية ترميم تم خلالها سنفرة النصب وتلوين جراره بلون أخضر.
وقال مدير إعلام أمانة بغداد محمد الربيعي لـ"ارفع صوتك" إن الأمانة "تعاقدت مع رئيس فرع النحت السابق في معهد الفنون الجميلة عبد الحميد سعيد الزبيدي، لصيانة النصب وإصلاح الأضرار"، مبينا أن تلك الأنابيب " كانت موجودة ضمن أساس النصب، وستختفي بعد إعادة باقي الجرار التي تضررت الى مكانها السابق".
ويوضيح الربيعي أنه "بعد عام 2003 تعرض تمثال كهرمانة لأربعة حوادث سببت العديد من الأضرار.. ثلاثة منها نتيجة اصطدام المركبات بالنصب، بعد فقدان السيطرة بسبب السرعة المفرطة أو بتأثير المشروبات الكحولية". أما الرابع، فكان "نتيجة تفجير سيارة مفخخة قرب النصب استهدفت أمين بغداد السابق صابر العيساوي في مارس 2007".
نتيجة للتفجير تبعثرت جرار النصب وتحطمت إحداها، كما تعرضت القدم اليمنى للتمثال لشرخ ما تزال آثاره باقية حتى الآن.
ويتابع الربيعي: "انهارت منظومة المياه المرتبطة بالجرار والتي أنشأها النحات قبل وضع النصب في الساحة"، وعلى إثر ذلك "تم تحويرها والاستعاضة عنها بأنابيب حديدية عبر ثقوب في جدران الجرار لتوصليها وإعادة النافورة إلى العمل من جديد"، يقول الربيعي.
أعمال الترميم الحالية "تمت بالاستعانة بالنحات العراقي عبد الحميد الزبيدي الذي باشر بصنع قوالب لجرتين بعد تحطمها دون امكانية للترميم"، وبعد الانتهاء من العمل "سيتم طلاء الأنابيب بلون مناسب للنصب، ولن تكون ظاهرة بعد إعادة الجرار إلى مكانها".
إبعاد الخطر عن النصب عبر إحاطته بسياج أمني، كما يرى مدير إعلام أمانة بغداد "غير ممكن"، لأنه سيؤدي إلى "تغيير الشكل الأساس للتصميم ويحجب رؤيته بالطريقة التي وضع بها الفنان تصميمه، أي أن يتم رؤية النصب كاملا من بعيد وعبر الاتجاهات الأربعة للشوارع الرئيسية نحوه".
وتتمثل الإجراءات المتخذة من قبل مديرية المرور العامة في حوادث الاصطدام بالنصب "بعمل مخطط للحادث لبيان التقصير، ثم إحالة المتجاوز الى مركز الشرطة"، الذي بدوره "يحول الملف الى القضاء ويحدد غرامة مالية تقع مسؤولية تقديرها على عاتق القضاء وأمانة بغداد"، كما يقول زياد القيسي مدير العلاقات والإعلام في مديرية المرو العامة لـ"ارفع صوتك".
لم تحصل "ارفع صوتك" على إجابة واضحة عن حجم الغرامة المالية التي دفعها سائق السيارة التي اصطدمت بالنصب. لكن مدير إعلام الأمانة رجح أن لا يكون مبلغها ضخما. فالتعامل مع حوادث الاصطدام بالممتلكات العامة واحد ولا يتم فرض غرامات كبيرة جداً على المخالفين.
وتشكل أعمال محمد غني حكمت في بغداد، كما يقول رئيس فرع النحت في كلية الفنون الجميلة إيهاب أحمد لـ"ارفع صوتك"، "تناغماً بين الموروث الحضاري وأساطير ألف ليلة وليلة"، وتنبع أهمية نصب كهرمانة من كونه "أول أعمال النحات الراحل الذي ينتمي إلى مدرسة الواقعية التعبيرية، والتي نقل من خلاله النحت من القاعات إلى الساحات العامة لأول مرة في العراق".
بعدها، انتشرت أعمال محمد غني حكمت في بغداد بجانبيها. ففي الرصافة توزعت تماثيل بساط الريح والمصباح السحري وشهرزاد وشهريار، فيما زرع الفنان أعماله في ناحية الكرخ عبر نصب بغداد وإنقاذ الحضارة والجنية والصياد، وغيرها من الأعمال النحتية.
قصة إتمام نصب كهرمانة بحد ذاتها "تروي عن مدى تمسك الفنان برؤيته، ففي حينها لم تخصص له أمانة بغداد سوى مبلغ 600 دينار فقط (كان الدينار يساوي أربعة دولارات). ورغم أن المبلغ لم يكن كافيا لإنجاز النصب من البرونز، إلا أن النحات عمد إلى حل ذكي بتنويع الخامة المستخدمة ليمتزج الإسمنت في الجِرار مع تمثال كهرمانة البرونزي في تناغم جمالي قل مثيله"، يقول أحمد.
أُجريت العديد من أعمال الصيانة لنصب كهرمانة بعد تعرضه للكثير من الحوادث "كونه يقع في منطقة صغيرة محاطة بالشوارع من جميع الجهات، وليس من السهل وضع دعامات لإسناده"، كما أنه "لا يمكن أبداً رفعه من مكانه أو تغييره لأي سبب كان. فالنصب والساحة أصبحا جزءاً مهماً من تاريخ الشعب العراقي الفني، ومجرد التفكير برفعه يعني أن يفقد النصب والمكان قيمتهما التاريخية".