موظف في هيئة الآثار الإسرائيلية في أحد مواقع  بنياس الأثرية، في هضبة الجولان، في نوفمبر 2020.
موظف في هيئة الآثار الإسرائيلية في أحد مواقع بنياس الأثرية، في هضبة الجولان، في نوفمبر 2020.

قبل يومين، أعلنت سلطة الآثار الإسرائيلية عن اكتشاف كنز أثري "مهم للغاية" في موقع بلدة بانياس في هضبة الجولان، والتي تقوم على أنقاض مدينة قديمة عرفت في "العهد الجديد" باسم قيصرية فيليبي. وفي الوقت الذي ألهب هذا الاكتشاف خيال من يُسمون في سوريا بـ"الكنَّازة"، وهم لصوص الآثار، أعلن الباحثون أن اكتشاف هذا الكنز يقدم إضاءة مهمة للغاية على أوضاع سكان المدينة لحظة سقوط المدينة بيد القوات الإسلامية عام 636م.

يتكون الكنز من 44 قطعة عملة بيزنطية مسكوكة من الذهب الخالص أقدمها تعود لمطلع القرن الرابع، وأحدثها تخص الامبراطور هرقل تعود للعام 635م. وقد عثرت عليه شركة كهرباء صدفة، مخفياً في قاعدة جدار حجري مقطوع وقت "الفتح الإسلامي" للمدينة صلحاً على يد القائد شرحبيل بن حسنة. ويبدو أن صاحب الكنز أخفى ثروته في المكان نفسه الذي سبق أن وقف فيه السيد المسيح ليسلم مقاليد الكنيسة لبطرس الرسول، أمام النبع المنبثق من كهف المدينة المقدس، كنوع من التبرك كما يبدو، قبل أن يغادر آملاً بالعودة إليه في يوم ما، ولكن يبدو الوقت قد طال على الرجل فمات قبل أن يعود إلى كنزه. 

ومن المؤكد أن يشجع هذا الاكتشاف على افتتاح مواسم تنقيب جديدة في بعض المناطق التي لم يكن يخطر لعلماء الآثار أن ينقبوا بها، حيث يقدر حجم المكتشف من المدينة التاريخية المهمة بأقل من خمسة بالمائة من آثارها المتوقعة. وفي الوقت ذاته، من شأنه أن يشجع أيضاً الباحثين عن الكنوز في عموم المنطقة على المضي قدماً في تخريب المواقع الأثرية، سعياً للوصول إلى كنز شبيه بهذا الكنز من العملات الذهبية الخالصة، حيث هذا الطموح أقصى ما يحلم "الكنازة" به.

 

لوحة بانورامية فريدة 

 

تقدم بانياس لوحة بانورامية، فريدة من نوعها، بنبعها الجميل، ونهرها الغزير، وكهفها اللغز، وموقعها الرائع في حضن حرمون، وآثارها الوثنية، والمسيحية، والإسلامية، وبقايا سورها وقلعتها. والتي جمعت مزيجاً فريداً من الطبيعة الخلابة، والتاريخ الحافل بالأحداث، والثقافة الثرية بالتنوع، فصارت أحد أشهر المواقع القديمة، ليس في الجولان وحده، إنما في عموم منطقة الشرق الأوسط. وقد استمدت بانياس اسمها من الإله الوثني "بان" وهو إله الرعاة، والغابات، والحيوانات البرية، والجبال عند الإغريق.

وتشير بعض الدراسات إلى أن موقع بانياس كان مقدساً منذ فترة عبادة البعول (آلهة كنعانية). وهناك من يعتقد أنها هي نفسها موقع معبد بعل جاد أو بعل حرمون. ولكن الشائع أن السلوقيين هم أول من عزا إلى بانياس قوى ميتافيزيقية، بعد أن ذكرتهم مناظرها الطبيعية بموطنهم. لقد نقل هؤلاء أساطيرهم المتعلقة بالإله بان، إله الرعاة، والصيد، والغابات، والحيوانات البرية، والجبال المشهورة، والمعروف أيضاً بمزماره. ووفق الأسطورة، يعود فضل انتصار السلوقيين على البطالمة إلى هذا الإله، فقد جعل "بان" فيلة الأعداء تصاب بالذعر، خلال معركة بانيوم، التي دارت بين الطرفين، من أجل السيطرة على المنطقة.

عملة عليها صورة الملك إيسباسينو عثر عليها في دورا اوروبس السورية.
"خاراكس".. مملكة ميسان التي تؤجل الفيضانات والحروب اكتشافها
شغل موقع مدينة "خاراكس" كما تسمى باليونانية، و"كرك سباسينو" كما تسمى بالتدمرية، علماء الآثار منذ القرن التاسع عشر، نظراً لأهمية هذه المدينة في التاريخ الكلاسيكي للعراق وإيران، ولأنها كانت واحدة من أهم المراكز التجارية العالمية خلال أكثر من خمسة قرون.

وتصف الأسطورة هذا الإله الوثني، بأن نصفه على شكل إنسان، في حين نصفه الآخر على هيئة تيس. وتتباين الآراء حوله، فهو يسكن في المغاور والكهوف، وطائش ومرح، ويعزف بمزماره القصبي، أو مزمار الرعاة، ويسلي حوريات الماء والحيوانات، ويعشق النساء، وتعشقه الفتيات والحسناوات، ويقيم حفلات صاخبة، ماجنة طوال الليل، ترقص فيها الحوريات على أنغامه، وهو في الوقت ذاته كائن قبيح إلى درجة مخيفة، حتى أن الكثير من الباحثين يعتقدون أن شكل الشيطان في المعتقدات المسيحية اقتبس عن شكل هذا الإله الوثني.

شيد الإغريق معبداً لهذا الإله، في هذا الموقع الرائع، وقرب المغارة الكبيرة، التي تشكل أحد مكونات المشهد العام الأساس، وربما كان هذا المعبد أصلاً لبعل حرمون، وأصبح لاحقاً للإله "بان"، وهو معبد جمع بين المنظر الطبيعي، الساحر بجماله وهيبته، وبين فنون الهندسة المعمارية والنحت، وبشكل يتناسب مع الطبيعة الخاصة لهذا الإله، وهي طبيعة محببة ومخيفة في آن واحد.

 

مدينة مترامية الأطراف

 

دلت الدراسات الأخيرة أن مدينة بانياس كانت قد شملت في قمة مجدها كل المرتفعات التي تقع إلى الشمال من نهر بانياس، ووصلت حدودها شمالاً إلى منحدرات تل الأحمر وإلى الغرب حتى نقطة تقارب خط الحدود الدولية، ومن الجنوب حتى الجروف الشمالية لنهر بانياس، حيث تم العثور في المنطقة الجنوبية الواقعة بقرب وادي سعار على قسم من سور المدينة الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي. وقد تم إغلاق هذا السور من الشرق باتجاه الجرف الواقع فوق نبع بانياس، كما تم العثور في الكروم الغربية لقرية جباتا الزيت على بقايا بيوت تابعة لضاحية بانياس القديمة، وهذا يعني أن المدينة كانت قد أقيمت على مساحة تزيد عن كيلو متر مربع، وامتازت مبانيها بالفخامة والاتساع وخاصة المباني الواقعة في المنطقة الشمالية التي بدت كالفيلات المطلية بالكلس الأبيض والملون، المرصوفة أرضيتها بالفسيفساء، وبخاصة البناء الكبير ذي الطابقين الذي يقع جنوب نهر بانياس مقابل نادي الضباط القديم، حيث يمكن للمرء أن يعرف من آثار هذا البناء الفخم مدى روعة البناء الذي عرفته مدينة بانياس في القدم.

ومن الجهة الأخرى عثر إلى الشمال الغربي من نهر بانياس قبل عدة سنوات على بقايا حمام يتكون من عدة برك يعود تاريخه إلى العهد الروماني الأخير، علماً أن المصادر العربية تشير إلى أن الوزير الفاطمي معلى بن حيدرة هو الذي بنى الحمام في بانياس أو على الأقل جدده.

ويعتقد أن محور مركز البلدة قد ربط المنطقة التي تربط النبع حتى نهر سعار بالمدينة الإسلامية، ذلك لأن الحجارة المنحوتة الكبيرة التي وجدت في المدخل تشير إلى وجود مبان ضخمة عامة كانت في هذا المكان رغم عدم استكشافها جميعاً حتى الآن. وجاءت الدراسات الخاصة بآثار بانياس لكي تكشف أن المناطق السكنية في ضاحيتها كانت تمتد على مسافة ساعة أو ساعتين عن البلدة مشياً على الأقدام.

كانت مدينة بانياس في العهدين الروماني والبيزنطي ولا شك مدينة عامرة وفخمة. وما خرائب هذه المدينة بحجارتها من النوع المنحوت وأعمدتها المزدانة بالتيجان الحجرية المنقوشة، إلا خير دليل على فخامة الأبنية العامة والخاصة التي وجدت في بانياس، رغم أن ما بقي الآن من خرائب ما هي إلا جزء فقط من أبنية هذه المدينة، التي كانت لمئات السنوات مدينة هامة كسميتها قيصرية الواقعة على الساحل الفلسطيني. وخلال الفترة الفاطمية في القرن الحادي عشر بعد الميلاد تمت إحاطة المدينة بالسور الذي استخدم أيضاً خلال فترة الحروب الصليبية.

 

في تاريخها المسيحي 

 

تحتل بانياس أهمية خاصة في الموروث المسيحي. ففيها سلم يسوع رسوله بطرس مقاليد السلطة في الكنيسة، وليقيمه راعي رعاة الكنيسة، وأساساً لها، بحسب إنجيل متى (16/13 ـ 19). وأورد المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري في كتابه "تاريخ الكنيسة" نصاً يتحدث عن تمثال رفعته نازفة الدم البانياسية، إذ يقول: "ولدت نازفة الدم، التي أبرأها يسوع، في بانياس. يقولون إن بيتها ما زال يرى في المدينة والنصب التذكارية المدهشة للفضل الذي منحها إياه مخلصنا ما تزال قائمة". 

ورغم تلك المكانة، فإن المسيحية انتشرت ببطء بادئ الأمر، في بانياس، بسبب المقاومة الوثنية، واضطهادات الأباطرة، وولاتهم، والحكام المحليين. وبدأت المسيحية تلقى تجاوباً متنامياً، منذ بدايات السلام الروماني، الذي بزغ فجره في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير، بعد أن أطلق الحرية للدين المسيحي، فحظيت المدينة بكرسي أسقفي يمثل منطقة الجولان.

قطعة أثرية قديمة عثر عليها منقبون في موقع مدينة الحيرة القديمة قرب النجف.
مسيحيون قدامى تحتفظ النجف بمقابرهم.. تعرف على مملكة الحيرة القديمة!
تشتهر مدينة النجف في شتى أنحاء العالم الإسلامي باعتبارها المدينة الشيعية المقدسة التي يواري ثراها جثمان الإمام علي بن أبي طالب، أول الأئمة المعصومين عند الشيعة الاثني عشرية. بدأت أهمية النجف قبل ظهور الإسلام بأربعة قرون كاملة. شهدت أرضها قيام مملكة الحيرة القديمة التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الفرس الساسانيين. وأسهم ملوكها بشكل مؤثر في نشر المسيحية النسطورية في بعض أنحاء شبه الجزيرة العربية.

كانت بانياس كرسياً أسقفياً لأبرشية في القرن الرابع، ودخلت ضمن تبعية فينقية الأولى (البحرية) وقاعدتها مدينة ومتروبوليتية صور، الخاضعة لبطريركية أنطاكية، في نهاية القرن الرابع، ومطلع القرن الخامس. واحتلت المرتبة الثانية عشرة، في سلم الأسقفيات التابعة لصور، وتميزت عن هذه الأسقفيات الاثنتي عشرة بأنها كانت الوحيدة، التي لا تقع على البحر. وتظهر العودة إلى سجل إعادة تنظيم إدارة الأبرشيات، في البطريركية الانطاكية، وفي صلاحيات هذه البطريركية في القرن العاشر ( 910 ـ 968م) أن بانياس كانت أيضاً تابعة لميتروبوليتية صور الكبرى، والتي بلغ عدد أسقفياتها ثلاث عشرة أسقفية، احتلت بانياس المرتبة العاشرة في قائمة هذه الأسقفيات. وذلك قبل عملية تهجير المسيحيين الأرثوذوكس منها، بعد سقوط مدينة طرسوس والثغور الشمالية بيد نقفور فوكاس عام 965م، حيث جرى توطين مهجري طرسوس والمصيصة والثغور الشمالية مكان مسيحيي بانياس.

لقد شهدت بانياس جميع التحولات التي مرت بها بلاد الشام عبر تاريخها الطويل، من معقل وثني، إلى مركز مسيحي، لعب دوراً كبيراً في تاريخ المسيحية، إلى ولاية إسلامية، ثم مملكة صليبية قبل استعادتها على يد الأيوبيين. واضمحل شأنها منذ العصر المملوكي إلى أن تحولت إلى قرية متوسطة سقطت في العام 1967 بيد القوات الإسرائيلية.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".