قبل يومين، أعلنت سلطة الآثار الإسرائيلية عن اكتشاف كنز أثري "مهم للغاية" في موقع بلدة بانياس في هضبة الجولان، والتي تقوم على أنقاض مدينة قديمة عرفت في "العهد الجديد" باسم قيصرية فيليبي. وفي الوقت الذي ألهب هذا الاكتشاف خيال من يُسمون في سوريا بـ"الكنَّازة"، وهم لصوص الآثار، أعلن الباحثون أن اكتشاف هذا الكنز يقدم إضاءة مهمة للغاية على أوضاع سكان المدينة لحظة سقوط المدينة بيد القوات الإسلامية عام 636م.
يتكون الكنز من 44 قطعة عملة بيزنطية مسكوكة من الذهب الخالص أقدمها تعود لمطلع القرن الرابع، وأحدثها تخص الامبراطور هرقل تعود للعام 635م. وقد عثرت عليه شركة كهرباء صدفة، مخفياً في قاعدة جدار حجري مقطوع وقت "الفتح الإسلامي" للمدينة صلحاً على يد القائد شرحبيل بن حسنة. ويبدو أن صاحب الكنز أخفى ثروته في المكان نفسه الذي سبق أن وقف فيه السيد المسيح ليسلم مقاليد الكنيسة لبطرس الرسول، أمام النبع المنبثق من كهف المدينة المقدس، كنوع من التبرك كما يبدو، قبل أن يغادر آملاً بالعودة إليه في يوم ما، ولكن يبدو الوقت قد طال على الرجل فمات قبل أن يعود إلى كنزه.
ومن المؤكد أن يشجع هذا الاكتشاف على افتتاح مواسم تنقيب جديدة في بعض المناطق التي لم يكن يخطر لعلماء الآثار أن ينقبوا بها، حيث يقدر حجم المكتشف من المدينة التاريخية المهمة بأقل من خمسة بالمائة من آثارها المتوقعة. وفي الوقت ذاته، من شأنه أن يشجع أيضاً الباحثين عن الكنوز في عموم المنطقة على المضي قدماً في تخريب المواقع الأثرية، سعياً للوصول إلى كنز شبيه بهذا الكنز من العملات الذهبية الخالصة، حيث هذا الطموح أقصى ما يحلم "الكنازة" به.
لوحة بانورامية فريدة
تقدم بانياس لوحة بانورامية، فريدة من نوعها، بنبعها الجميل، ونهرها الغزير، وكهفها اللغز، وموقعها الرائع في حضن حرمون، وآثارها الوثنية، والمسيحية، والإسلامية، وبقايا سورها وقلعتها. والتي جمعت مزيجاً فريداً من الطبيعة الخلابة، والتاريخ الحافل بالأحداث، والثقافة الثرية بالتنوع، فصارت أحد أشهر المواقع القديمة، ليس في الجولان وحده، إنما في عموم منطقة الشرق الأوسط. وقد استمدت بانياس اسمها من الإله الوثني "بان" وهو إله الرعاة، والغابات، والحيوانات البرية، والجبال عند الإغريق.
وتشير بعض الدراسات إلى أن موقع بانياس كان مقدساً منذ فترة عبادة البعول (آلهة كنعانية). وهناك من يعتقد أنها هي نفسها موقع معبد بعل جاد أو بعل حرمون. ولكن الشائع أن السلوقيين هم أول من عزا إلى بانياس قوى ميتافيزيقية، بعد أن ذكرتهم مناظرها الطبيعية بموطنهم. لقد نقل هؤلاء أساطيرهم المتعلقة بالإله بان، إله الرعاة، والصيد، والغابات، والحيوانات البرية، والجبال المشهورة، والمعروف أيضاً بمزماره. ووفق الأسطورة، يعود فضل انتصار السلوقيين على البطالمة إلى هذا الإله، فقد جعل "بان" فيلة الأعداء تصاب بالذعر، خلال معركة بانيوم، التي دارت بين الطرفين، من أجل السيطرة على المنطقة.
وتصف الأسطورة هذا الإله الوثني، بأن نصفه على شكل إنسان، في حين نصفه الآخر على هيئة تيس. وتتباين الآراء حوله، فهو يسكن في المغاور والكهوف، وطائش ومرح، ويعزف بمزماره القصبي، أو مزمار الرعاة، ويسلي حوريات الماء والحيوانات، ويعشق النساء، وتعشقه الفتيات والحسناوات، ويقيم حفلات صاخبة، ماجنة طوال الليل، ترقص فيها الحوريات على أنغامه، وهو في الوقت ذاته كائن قبيح إلى درجة مخيفة، حتى أن الكثير من الباحثين يعتقدون أن شكل الشيطان في المعتقدات المسيحية اقتبس عن شكل هذا الإله الوثني.
شيد الإغريق معبداً لهذا الإله، في هذا الموقع الرائع، وقرب المغارة الكبيرة، التي تشكل أحد مكونات المشهد العام الأساس، وربما كان هذا المعبد أصلاً لبعل حرمون، وأصبح لاحقاً للإله "بان"، وهو معبد جمع بين المنظر الطبيعي، الساحر بجماله وهيبته، وبين فنون الهندسة المعمارية والنحت، وبشكل يتناسب مع الطبيعة الخاصة لهذا الإله، وهي طبيعة محببة ومخيفة في آن واحد.
مدينة مترامية الأطراف
دلت الدراسات الأخيرة أن مدينة بانياس كانت قد شملت في قمة مجدها كل المرتفعات التي تقع إلى الشمال من نهر بانياس، ووصلت حدودها شمالاً إلى منحدرات تل الأحمر وإلى الغرب حتى نقطة تقارب خط الحدود الدولية، ومن الجنوب حتى الجروف الشمالية لنهر بانياس، حيث تم العثور في المنطقة الجنوبية الواقعة بقرب وادي سعار على قسم من سور المدينة الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي. وقد تم إغلاق هذا السور من الشرق باتجاه الجرف الواقع فوق نبع بانياس، كما تم العثور في الكروم الغربية لقرية جباتا الزيت على بقايا بيوت تابعة لضاحية بانياس القديمة، وهذا يعني أن المدينة كانت قد أقيمت على مساحة تزيد عن كيلو متر مربع، وامتازت مبانيها بالفخامة والاتساع وخاصة المباني الواقعة في المنطقة الشمالية التي بدت كالفيلات المطلية بالكلس الأبيض والملون، المرصوفة أرضيتها بالفسيفساء، وبخاصة البناء الكبير ذي الطابقين الذي يقع جنوب نهر بانياس مقابل نادي الضباط القديم، حيث يمكن للمرء أن يعرف من آثار هذا البناء الفخم مدى روعة البناء الذي عرفته مدينة بانياس في القدم.
ومن الجهة الأخرى عثر إلى الشمال الغربي من نهر بانياس قبل عدة سنوات على بقايا حمام يتكون من عدة برك يعود تاريخه إلى العهد الروماني الأخير، علماً أن المصادر العربية تشير إلى أن الوزير الفاطمي معلى بن حيدرة هو الذي بنى الحمام في بانياس أو على الأقل جدده.
ويعتقد أن محور مركز البلدة قد ربط المنطقة التي تربط النبع حتى نهر سعار بالمدينة الإسلامية، ذلك لأن الحجارة المنحوتة الكبيرة التي وجدت في المدخل تشير إلى وجود مبان ضخمة عامة كانت في هذا المكان رغم عدم استكشافها جميعاً حتى الآن. وجاءت الدراسات الخاصة بآثار بانياس لكي تكشف أن المناطق السكنية في ضاحيتها كانت تمتد على مسافة ساعة أو ساعتين عن البلدة مشياً على الأقدام.
كانت مدينة بانياس في العهدين الروماني والبيزنطي ولا شك مدينة عامرة وفخمة. وما خرائب هذه المدينة بحجارتها من النوع المنحوت وأعمدتها المزدانة بالتيجان الحجرية المنقوشة، إلا خير دليل على فخامة الأبنية العامة والخاصة التي وجدت في بانياس، رغم أن ما بقي الآن من خرائب ما هي إلا جزء فقط من أبنية هذه المدينة، التي كانت لمئات السنوات مدينة هامة كسميتها قيصرية الواقعة على الساحل الفلسطيني. وخلال الفترة الفاطمية في القرن الحادي عشر بعد الميلاد تمت إحاطة المدينة بالسور الذي استخدم أيضاً خلال فترة الحروب الصليبية.
في تاريخها المسيحي
تحتل بانياس أهمية خاصة في الموروث المسيحي. ففيها سلم يسوع رسوله بطرس مقاليد السلطة في الكنيسة، وليقيمه راعي رعاة الكنيسة، وأساساً لها، بحسب إنجيل متى (16/13 ـ 19). وأورد المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري في كتابه "تاريخ الكنيسة" نصاً يتحدث عن تمثال رفعته نازفة الدم البانياسية، إذ يقول: "ولدت نازفة الدم، التي أبرأها يسوع، في بانياس. يقولون إن بيتها ما زال يرى في المدينة والنصب التذكارية المدهشة للفضل الذي منحها إياه مخلصنا ما تزال قائمة".
ورغم تلك المكانة، فإن المسيحية انتشرت ببطء بادئ الأمر، في بانياس، بسبب المقاومة الوثنية، واضطهادات الأباطرة، وولاتهم، والحكام المحليين. وبدأت المسيحية تلقى تجاوباً متنامياً، منذ بدايات السلام الروماني، الذي بزغ فجره في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير، بعد أن أطلق الحرية للدين المسيحي، فحظيت المدينة بكرسي أسقفي يمثل منطقة الجولان.
كانت بانياس كرسياً أسقفياً لأبرشية في القرن الرابع، ودخلت ضمن تبعية فينقية الأولى (البحرية) وقاعدتها مدينة ومتروبوليتية صور، الخاضعة لبطريركية أنطاكية، في نهاية القرن الرابع، ومطلع القرن الخامس. واحتلت المرتبة الثانية عشرة، في سلم الأسقفيات التابعة لصور، وتميزت عن هذه الأسقفيات الاثنتي عشرة بأنها كانت الوحيدة، التي لا تقع على البحر. وتظهر العودة إلى سجل إعادة تنظيم إدارة الأبرشيات، في البطريركية الانطاكية، وفي صلاحيات هذه البطريركية في القرن العاشر ( 910 ـ 968م) أن بانياس كانت أيضاً تابعة لميتروبوليتية صور الكبرى، والتي بلغ عدد أسقفياتها ثلاث عشرة أسقفية، احتلت بانياس المرتبة العاشرة في قائمة هذه الأسقفيات. وذلك قبل عملية تهجير المسيحيين الأرثوذوكس منها، بعد سقوط مدينة طرسوس والثغور الشمالية بيد نقفور فوكاس عام 965م، حيث جرى توطين مهجري طرسوس والمصيصة والثغور الشمالية مكان مسيحيي بانياس.
لقد شهدت بانياس جميع التحولات التي مرت بها بلاد الشام عبر تاريخها الطويل، من معقل وثني، إلى مركز مسيحي، لعب دوراً كبيراً في تاريخ المسيحية، إلى ولاية إسلامية، ثم مملكة صليبية قبل استعادتها على يد الأيوبيين. واضمحل شأنها منذ العصر المملوكي إلى أن تحولت إلى قرية متوسطة سقطت في العام 1967 بيد القوات الإسرائيلية.