تعد قصائد "بانت سعاد" و"البردة" و"نهج البردة" أشهر قصائد المديح النبوي.
تعد قصائد "بانت سعاد" و"البردة" و"نهج البردة" أشهر قصائد المديح النبوي.

لمّا كان الشعر هو ديوان العرب، وأقرب الفنون إلى وجدانهم، فإننا سنجد أن تعبير المسلمين عن حبهم للنبي محمد وجد طريقه إلى العشرات من القصائد الشعرية الخالدة. كان شاعر النبي، حسان بن ثابت، من أول من مدح الرسول في قصائده عندما أنشد قائلًا:

وَأَحسَن مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني ... وَأَجمَل مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ

خُلِقتَ مُبَرَّءا مِن كُلِّ عَيبٍ ... كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ

نلقي الضوء في هذا المقال على ثلاث قصائد أنشدها أصحابها في مدح النبي. تمتعت تلك القصائد بقدر عظيم من الذيوع والشهرة عبر التاريخ. واعتاد المسلمون على استحضارها والتغني ببعض أبياتها في ذكرى مولد النبي في كل عام. لكن بعضها لم يخل من الجدل أيضا.

 

بانت سعاد.. قصيدة كعب الخالدة

 

صاحب هذا القصيدة هو كعب بن زهير بن أبي سلمى. تذكر المصادر التاريخية أن كعبًا كان يهجو النبي والمسلمين وأنه كان يساند قريشًا وأتباعها. أرسل له أخوه المسلم يخبره أن النبي أهدر دمه وأن حياته صارت تحت التهديد. عندها، قرر كعب أن يسافر إلى المدينة. أخفى شخصيته عن الجميع وذهب لمقابلة النبي ولمّا وصل عنده كشف عن حقيقته وأنشد قصيدته التي تألفت من ستين بيتًا.

بدأ كعب القصيدة بالغزل في محبوبته على عادة شعراء ذلك الزمان، فقال:

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ... مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ

وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا... إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ

بعدها انتقل كعب لإظهار توبته وندمه على ما سبق منه من أعمال معادية للإسلام، فقال:

أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني ... والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ

وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا ... والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ

بعدها شرع كعب في مدح النبي وأصحابه، فقال:

إنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ

في فِتْيَةٍ مِنْ قُريْشٍ قالَ قائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا

تذكر الروايات التاريخية أن بعض المسلمين أرادوا أن يقتلوا كعبًا. ولكن النبي منعهم من ذلك. وقام بعدها وأهدى بردته -وهي الكساء الذي كان يلبسه- إلى كعب، فخرج عندها الشاعر فرحًا بعدما أعلن إسلامه وآمن على نفسه. تتحدث بعض المصادر التاريخية عن مصير البردة، والرمزية الكبيرة التي استحوذت عليها في الثقافة الإسلامية باعتبارها أداة من أدوات السلطة التي حرص الخلفاء على الحفاظ عليها.

على سبيل المثال، عرض الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان أن يشتري من كعب تلك البردة، ولكنه رفض وقال: "لم أكن لأوثر بثوب رسول الله أحدًا". تذكر بعض الروايات أن معاوية اشترى البردة من ورثة كعب بعد وفاته بعشرة آلاف درهم، وأنها ظلت في خزائن الأمويين حتى سقطت دولتهم سنة 132ه ليستولي عليها العباسيون فيما بعد. توجد بعض الآراء التي تذهب إلى أن البردة نُقلت بعد قرون إلى إسطنبول وأنها هي نفسها المعروضة حاليًا في متحف طوب كابي الشهير. تذهب آراء أخرى إلى أن معاوية كُفن بالبردة عند وفاته.

 

بردة البوصيري.. أشهر المدائح في الشعر الصوفي

تسمى تلك القصيدة بـ"الكواكب الدرية في مدح خير البرية"، وتقع في 160 بيتًا. وصاحبها هو محمد بن سعيد بن حماد البوصيري الذي عاش في القرن الثامن من الهجرة. تذكر الروايات الصوفية أن البوصيري أصيب بالشلل فلم يكن قادرًا على مغادرة منزله، وأنه كان يتغنى بأبيات القصيدة ليل نهار. نام البوصيري ذات ليلة فحلم بنفسه ينشد القصيدة أمام النبي، وأنه -أي النبي- خلع بردته وكسا بها البوصيري بعدما انتهى من القصيدة. قام الشاعر من النوم فوجد نفسه سليمًا معافى. ومن هنا اُشتهرت القصيدة باسم البردة. من أشهر ما جاء فيها، قول البوصيري:

محمد سيد الكونين والثقليــــن ... والفريقين من عُرْب ومنْ عجــمِ

نبينا الآمرُ الناهي فلا أحــــدٌ ... أبرَّ في قولِ لا منه ولا نعــــمِ

هو الحبيب الذي ترجى شفاعـته ... لكل هولٍ من الأهوال مقتحـــمِ

دعا إلى الله فالمستمسكون بــه ... مستمسكون بحبلٍ غير منفصـــمِ

تعرضت بردة البوصيري للانتقاد من قِبل العديد من علماء ومشايخ السلفية في العصر الحديث -ومن أشهرهم كل من عبد العزيز بن باز، وابن عثيمين، وناصر الدين الألباني- وذلك بسبب ما ورد فيها من جمل وتراكيب لغوية اعتبروها مغالية في مدح النبي. على سبيل المثال رد ابن باز على أحد السائلين الذين أرادوا معرفة الحكم الشرعي في البيت الذي جاء فيه "فإن من جودك الدنيا وضرتها... ومن علومك علم اللوح والقلم"، بقوله: "هذه أبيات منكرة، شرك... لا تجوز، بل هذه من الشرك الأكبر نعوذ بالله، فإن الرسول ليس من جوده الدنيا وضرتها، ضرتها الآخرة، هذا من جود الرب جل وعلا، من ملك الرب جل وعلا، ما يملكه النبي، ولا يعلم ما في اللوح والقلم، ما يعلم الغيب... هذا شرك أكبر، أعوذ بالله، الذي يجير من النار هو الله وحده، لكن اتباع النبي من أسباب السلامة، اتباع النبي من أسباب السلامة من النار. أما النبي فلا يملك الدنيا والآخرة، ولا يجير من النار، بل هو عبد مأمور...".

على الجهة المقابلة، حققت القصيدة انتشارًا غير مسبوق في الدوائر الصوفية منذ نطق البوصيري بها وحتى اللحظة. كان من المعتاد أن ينشدها المنشدون في المساجد والزوايا في أيام الجمعة، وفي المناسبات الدينية كالأعياد ومطالع الشهور القمرية. يقول زكي مبارك في كتابه "المدائح النبوية في الأدب العربي" متحدثًا عن البوصيري وقصيدته: "البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلّقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابًا من السيرة النبوية، وعن البردة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال. وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول".

 

نهج البردة.. عندما أفلت أمير الشعراء من العقاب

 

كتب أمير الشعراء أحمد شوقي تلك القصيدة على نفس القافية التي كُتبت بها قصيدة بردة البوصيري. تألفت نهج البردة من 190 بيتًا، واشتهرت بشكل كبير حتى أنشدتها كوكب الشرق أم كلثوم من تلحين رياض السنباطي سنة 1946م.

يعود تأليف تلك القصيدة لسنة 1909م وتوجد قصة مثيرة خلف تأليفها. عزم الخديوي عباس حلمي على أداء فريضة الحج في تلك السنة، فأمر حاشيته بأن يتجهزوا للسفر معه إلى الحجاز. كان أحمد شوقي هو الشاعر الخاص بالخديوي، وكان من الطبيعي أن ينتقل كواحد من الحاشية إلى ميناء السويس ليركب المركب المتوجه للحجاز بصحبة الخديوي. قبل أن تتحرك السفينة نزل منها أحمد شوقي وعاد للقاهرة ولمّا عرف عباس حلمي بذلك غضب غضبًا شديدًا.

حاول أمير الشعراء أن يصالح الخديوي قُبيل عودته من الحج، فكتب قصيدة نهج البردة وذهب بها إلى شيخ الأزهر سليم البشري لشرحها، ثم أعطى الكتاب للكاتب المعروف محمد المويلحي ليكتب التقديم. كان هدف شوقي من كل هذا أن يُعجب الخديوي من القصيدة والشرح والتقديم وأن يؤدي ذلك للعفو عنه. كتب المويلحي في مقدمة الكتاب مشيدًا بتلك القصيدة: "...إن قصيدة تُصنع في مدح الرسول، وتوضع تذكارًا لحج المليك، ويكون شيخ الإسلام شارحها، وشاعر الأمير قائلها، لهى جديرة بأن تنحني لها الرؤوس إعظامًا وإكبارًا، والله يتقبلها من قائلها قولًا حسنًا، وينفع المسلمين ببركة شارحها نفعًا جمًا...". رجع الخديوي من الحج وأُعجب بالقصيدة لمّا أطلع عليها، ونجحت بذلك خطة أحمد شوقي.

بدأ شوقي القصيدة بالغزل على العادة الدارجة بين الشعراء، فقال:

ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ... أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ

رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَداً... يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ

لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً... يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي

 جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي... جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ

تحول أحمد شوقي بعد ذلك ليبدأ في مدح النبي، فقال:

مُحَمَّدٌ صَفوَةُ الباري وَرَحمَتُهُ... وَبُغيَةُ اللَهِ مِن خَلقٍ وَمِن نَسَمِ

وَصاحِبُ الحَوضِ يَومَ الرُسلِ سائِلَةٌ.. مَتى الوُرودُ وَجِبريلُ الأَمينُ ظَمي

تجدر الإشارة إلى أن نهج البردة لم تكن القصيدة الوحيدة التي تم تأليفها على سمت بردة البوصيري. في الحقيقة نظم الشعراء العشرات من القصائد المشابهة في حب النبي. من أخر تلك القصائد القصيدتان التي أضطلع بتأليفهما كل من الشاعر المصري خالد الشيباني، والشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".