المؤرخ العراقي جواد علي، أحد أشهر وأهم المؤرخين العراقيين والعرب.
المؤرخ العراقي جواد علي، أحد أشهر وأهم المؤرخين العراقيين والعرب.

عرف العراق العديد من المفكرين اللامعين الذين أسهموا بحظ وافر في إثراء الثقافة العربية المعاصرة. يُعدّ جواد علي واحدًا من هؤلاء المفكرين. لعب علي دورًا رائدًا في تطوير البحث التاريخي بما قدمه من كتب ودراسات معمقة. نلقي الضوء في هذا المقال على شخصية جواد علي، ونبيّن أهم ما ورد في أشهر كتبه من آراء وأفكار.

 

من الأعظمية إلى هامبورج

 

ولد المؤرخ العراقي جواد علي سنة 1907م في حي الكاظمية ببغداد. يتصل نسبه بقبيلة العقيلات العربية المشهورة. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في الأعظمية. وتابع دراسته بعدها في دار المعلمين العالية وتخرج منها في سنة 1931م. وعُين بمجرد تخرجه في وظيفة مدرس بإحدى المدارس الثانوية.

رُشح جواد علي لينضم إلى إحدى البعثات العلمية في ألمانيا، وبالفعل سافر إلى مدينة هامبورج وتابع دراسته في جامعتها وحصل على درجة الدكتوراه سنة 1939م. وعمل في تلك الفترة مراسلا لبعض الصحف العراقية، كما تمكن من إتقان اللغة الألمانية التي درسها في أحد المعاهد التعليمية.

رجع جواد علي إلى العراق بعد الحصول على شهادة الدكتوراه. وشارك في أحداث الحرب العراقية البريطانية. واُعتقل لفترة ثم خرج من السجن واُختير ليكون أمينًا لسر لجنة التأليف والترجمة والنشر التي قُدر لها أن تكون نواة للمجمع العلمي العراقي فيما بعد.

في خمسينات القرن العشرين بدأ جواد علي عمله الأكاديمي عندما تولى مهمة التدريس بقسم التاريخ بكلية التربية بجامعة بغداد. وفي 1957م، عمل أستاذا زائرا في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأميركية. ألف جواد علي عددًا كبيرًا من الكتب التاريخية ذائعة الصيت. ونشر ما يقرب من الخمسين دراسة علمية، كما تقلد العديد من المناصب المهمة من مختلف الدول العربية. على سبيل المثال اُختير سكرتيراً للمجمع العلمي العراقي عام 1948م، وانتخب عضوًا لمجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1952م، وعضواً في الجمعية الآثارية الألمانية. ومنحته جامعة بغداد درجة أستاذ متمرّس وهي الدرجة التي تُمنح لأهم المفكرين العراقيين. فضلًا عن كل ما سبق، مُنح علي وسام المعارف اللبناني ووسام المؤرخ العربي.

توفى جواد علي سنة 1987م بعد عمر طويل قضى الشطر الأكبر منه في البحث العلمي التاريخي المتميز. خلف جواد علي مجموعة من الأعمال المهمة. من أشهرها: "تاريخ العرب قبل الإسلام" في ثماني مجلدات، و"المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" في عشرة مجلدات، و"تاريخ الصلاة في الإسلام"، و"المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية".

 

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام

 

يُعدّ كتاب المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام أشهر كتب جواد علي على الإطلاق. تعرض علي في هذا الكتاب لتاريخ العرب قبل الإسلام. فدرّس أحوالهم الاجتماعية، والدينية، والقبلية بشكل مستفيض. وبيّن تهافت الرأي المنتشر الذي يختزل التاريخ العربي القديم في مصطلح الجاهلية. أوضح علي أن العرب عرفوا أشكالًا متباينة من الحضارة قبل الإسلام، وأنهم أسسوا مراكز لنشر تلك الحضارة في كل من اليمن، والعراق، والشام.

تحدث المفكر العراقي رشيد الخيون عن الأهمية الكبيرة لهذا الكتاب، فقال: "عمل المؤلف فيه لفترة أربعين عامًا، وقد أشار في المقدمة أنه لم يتلقّ أي دعم ولا مساعدة من أي جهة من الجهات، عمله بنفسه من جمع المصادر إلى فحصها فالكتابة فالتصحيح والبحث عن الناشر. وبعد نشره لم تستغن عنه مكتبة من المكتبات العامة والخاصة، وظل الكتاب حيّا بما احتوى من تاريخ زاخر بالثقافة والاجتماع والاقتصاد، واحتوى تاريخ اليمن والشام والعراق والجزيرة العربية".

في السياق نفسه امتدح الباحث السعودي حمد الجاسر الكتاب في العدد 948 من مجلة الرسالة، فقال: "هذه باكورة من بواكير ثمار المجمع العلمي العراقي، وخير بواكير الثِّمار ما سد فاقةً، وجاد في إبان الحاجة إليه. ولقد كانت المكتبة العربية مفتقرة إلى كتاب شامل مفصل لتاريخ الأمة العربية، في الأحقاب التي تقدمت عهد الرسالة، يجلو غامض تاريخها السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، لأن مؤرخي هذه الأمة قد عنوا بتاريخها من ذلك العهد، وما حوله وما بعده، وتركوا الهوة السَّحيقة التي سبقته مجهولة المعالم، خافية الصَّوى، وعرة المسالك، إذا رام سالك التوغل في بيدائها وجدها كمفازة أبي الطَّيب".

قادت الملكة ماوية حربا شرسة ضد الرومان انتهت بتوقيع اتفاقية سلام مع الإمبراطور الروماني فالانس.
ماوية ملكة العرب "السراسين".. من تهديد بيزنطة إلى إنقاذها
لم يكم أمام الإمبراطور الروماني فالانس سوى طلب السلام. وهكذا، بعد أن فرضت ماوية شروط الحرب، فرضت أيضًا شروط السلام، ونجحت في فرض أسقف من أبناء شعبها، ومن مذهبها، ولم يكن أمام الأريوسيين سوى القبول، فعُيِّن موسى حسب الأصول كأول أسقف من العرب وللعرب.

لفت جواد علي النظر في مقدمة كتابه لبعض المشكلات التي تواجه الباحثين في ميادين العمل الأثري والتاريخي في شبه الجزيرة العربية، فقال: "إن الناس هناك ينظرون إلى التماثيل نظرتهم إلى الأصنام والأوثان، وإلى استخراج الآثار والتنقيب عن العاديات نظرتهم إلى بعث الوثنية وإحياء معالم الشرك، وهي من أجل هذا تخشى الرأي العام، وإني على كل حال أرجو أن تزول هذه الأحوال في المستقبل القريب، وأن يدرك عرب الجزيرة أهمية الآثار في الكشف عن تأريخ هذه الأمة العربية القديمة".

لم يكتف المؤرخ العراقي بوضع يده على موطن الإشكال، بل نراه يعمل على تقديم الحلول اللازمة، فيقول مناشدًا الجهات السياسية: "أتمنى على جامعة الدول العربية والدول العربية أن يحققوه، وهو إرسال بعثات من المتخصصين بالآثار وباللهجات والأقلام العربية القديمة إلى مواطن الآثار في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية والمواضع الأخرى من جزيرة العرب للتنقيب عن الآثار، والكشف عن تاريخ الجزيرة المطمور تحت الأتربة والرمال، ونشره نشرًا علميًا، بدلًا من أن يكون اعتمادنا في ذلك على الغربيين. أفلا يكون من العار علينا أن نكون عالة عليهم في كل أمر. حتى في الكشف عن تأريخنا القديم!".

في السياق نفسه، يلفت المؤرخ العراقي النظر إلى الأهمية البالغة لدراسة اللهجات العربية القديمة، فيقول: "وأضيف إلى هذا الرجاء رجاء آخر هو أن تقوم أيضًا بتدوين معجم في اللهجات العربية الجاهلية، تستخرجه من الكتابات التي عُثر عليها، وبتأليف كتب في نحوها وصرفها، وترجمة الكتب الأمهات التي وضعها المؤلفون الأجانب في تاريخ الجاهلية، ترجمة دقيقة تنأى عن المسخ الذي وقع في ترجمة بعض تلك المؤلفات فأشاع الغلط ونشر التخريف".

 

جواد علي وكتاب "المهدي المنتظر"

 

لم يُبد جواد علي اهتمامًا بالانتصار لأصوله المذهبية الشيعية. وأكد في الكثير من المناسبات ضرورة تحري المؤرخ للدقة والموضوعية والحياد، وألا يتأثر بخلفياته العقائدية والمذهبية والعرقية. وفي هذا الإطار، كتب علي كتابه حول المهدي المنتظر وسفرائه الأربعة. كان هذا الكتاب هو الأطروحة التي قدمها لنيل شهادة الدكتوراة سنة 1939م من جامعة هامبورج. لم تترجم هذه الأطروحة للغة العربية في حياته. ونُشرت مترجمة سنة 2005م بعد وفاة مؤلفها بثمانية عشر عاما.

ناقش جواد علي في هذا الكتاب واحدة من أشهر الإشكاليات المعروفة في الوجدان الشيعي الجمعي. تعرض لمسألة الإمامة ولتاريخ الأئمة. وبدأ كتابه بالإشارة لندرة المؤلفات التي صُنفت في هذا المبحث التاريخي المهم، فقال: "ليست هناك حتى اليوم دراسة علمية حديثة شاملة حول الاثني عشرية". تعرض علي لأخطاء أهل السنة في فهم القضية المهدوية عند الشيعة، فقال في مقدمة كتابه: "وقد أساء السنيون تقديس الشيعة، عندما ظنوا أن الشيعة يقصدون اختفاء الإمام في هذا السرداب. ومع مرور الزمن، انتقل سوء الفهم إلى رواية الشيعة أنفسهم".

بعدها، وجه جواد علي سهام النقد للموروث الشيعي التقليدي، محللا بعض العقائد والأفكار المنتشرة فيه. ومنها على سبيل المثال عقيدة الرجعة. وقال موضحًا رأيه في تلك العقيدة: "والرجعة كما نحب أن نؤكد ليست مذهبًا دينيًا، وإنما تقع في نفس المرتبة مع رجعة المسيح أو الدجال عند أهل السنة. فكما أن الاعتقاد برجعة هؤلاء الرجال الثلاثة ليست عقيدة ملزمة عند أهل السنة، كذلك لا يعرف الشيعة عقيدة دينية في الرجعة. ويختلف الأمر في الغيبة في اختفاء الإمام الثاني عشر تماماً. على الشيعي أن يعتقد بغيبة الإمام الثاني عشر، لأن العالم لا يمكن أن يكون بدون إمام...".

عمل المفكر العراقي بعد ذلك على توضيح أهمية فترة الغيبة الصغرى -وهي الفترة الممتدة ما بين وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري سنة 260ه وإعلان الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر سنة 329ه- في صياغة العديد من المعتقدات الشيعية السائدة، فقال: "يعتبر زمن الغيبة الصغرى من وجهة نظري، بداية للتطور المنطقي لعلم الكلام الشيعي، ليصبح نظامًا متكاملًا متميزًا".

اختتم جواد علي كتابه بالتمييز بين ما هو مقدس إلهي غيبي من جهة وما هو تاريخي بشري قابل للنقد من جهة أخرى، فقال: "نريد أن نؤكد مرة أخرى أننا لا نبحث أفكار الغيبة إلا بوصفها ظاهرة تاريخية-عقائدية. وليس عقيدة دينية، فلا ينتمي من الموضوع كله إلى ميدان العقيدة سوى وجود الإمام الثاني عشر المهدي ورجعته. وعلى العكس من ذلك، فإن عمل السفراء والهدف من إقامة دولة شيعية، وكذلك انتظار المنقذ، كل ذلك هو الخطوة الحاسمة والباعث المحرك خلال التاريخ الأرضي لهذه الدائرة الشيعية الخاصة".

لكن، يبدو أن جواد علي كان يعرف الصدمة التي ستحدثها الأفكار الواردة في أطروحته في الفضاء الشيعي العراقي، لذلك آثر ألا تتم ترجمتها في حياته.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".