ربما كان قرار القسطنطينية بالقضاء على فيدرالية الغساسنة في سوريا، واحداً من أكثر القرارات إثارة للجدل في تاريخ الدولة البيزنطية. فبعد أن أُرسل المنذر الغساني إلى صقيلية للإقامة الجبرية، تبين أن الهدف ليس المنذر، المتهم ظلماً بخيانة الروم البيزنطيين، بل الهدف النهائي هو القضاء على هذه الدولة الفيدرالية ذات الطموحات الاستقلالية، وهو ما أثبتته طريقة التعامل مع الملك الغساني الجديد النعمان النجل الأكبر للملك المنذر، إذ سيق هو الآخر إلى صقيلية ليمضي بقية حياته إلى جانب والده في الحصن البيزنطي المقام لهما في مدينة كتانيا.
تمرد عام
بدأت قصة النعمان بعد سوق والده إلى الأسر. ونتيجة لذلك أعلن أبناؤه الأربعة الثورة على القسطنطينية، وبايعوا شقيقهم الأكبر النعمان بن المنذر الغساني، وكان أشد بأساً من والده في ساحة القتال، حسب تعبير يوحنا الآسيوي. يقول: "جمعوا جنودهم وانقضوا على حصن القائد مجنا بعد أن توجه إلى الملك، فنهبوا كل ما وجدوه بالحصن من ذهب وفضة ونحاس وحديد وملابس صوفية وقطنية وغلال وخمر وزيت، كما استولوا على قطعان الماشية كلها من أبقار وثيران وخراف وماعز، وكل ما وقع تحت أيديهم دون أن يقتلوا أحداً أو يحرقوا شيئاً".
ويضيف يوحنا الآسيوي: "ثم هاجم جنودهم القرى المحيطة، وخرجوا منها بغنائم لا حصر لها، ثم لاذوا بالبرية الداخلية وأقاموا معسكراً كبيراً. وتقاسموا الغنائم وهم متحفزون وعلى استعداد للقتال ويراقبون كل ما حولهم. وخرجوا ثانية بعد ذلك ونهبوا البلاد وساقوا الماشية ثم عادوا إلى البرية، حتى اضطرب إقليم الشرق كله الممتد إلى البحر الأبيض. وكان سكان المدن يلوذون بمدنهم ولا يتجاسرون على الظهور أمامهم. وأرسل حكام المدن وقادة الجيوش إليهم يسألونهم: لماذا تفعلون كل هذا؟ فأجابوهم بقولهم: ولماذا اقتاد الملك أبانا كالأسير بعد كل ما قام به من جهود، وحققه من انتصارات وبطولات مدافعاً عنه، ثم قطع الملك المعونات عنا ونحن لا نملك ما نقتات منه، لذا نحن مضطرون للسلب والنهب، وحسبنا أننا لا نقتل الأهلين ولا نحرق المدن".
تدمير بصرى
يتابع يوحنا الآسيوي: "ثم توجه أبناء المنذر وجنودهم إلى مدينة بصرى، فحاصروها وقالوا لقادتها: أعطونا سلاح أبينا ومقتنياته الملكية التي بحوزتكم، فإن لم تفعلوا سنهدم ونحرق ونقتل كل ما نجده في مدينتكم وفي كورها. فلما سمع قائد الجيش كلامهم، وكان رجلاً شهيراً خبيراً بفنون القتال، تملكته الحمية وجمع جنده وخرج لقتالهم بعد أن استهان بهم كأعراب. واصطف جنود العرب في مواجهته وتغلبوا عليه وقتلوه هو وأكثر جنده، فلما رأى أهل المدينة ذلك المشهد اضطربوا وأرسلوا إليهم قائلين: دعكم من القتال ونحن نرد لكم مالكم فخذوه بسلام واتركونا. وهكذا أخرجوا لهم مقتنيات أبيهم فأخذوها وعادوا أدراجهم صوب معسكرهم في البرية، وظلوا زمناً طويلاً ينهبون ويسلبون المدن". وعندما علم الإمبراطور البيزنطي طيباريوس بما فعل أبناء المنذر أرسل القائد مجنا لكي يقيم أحد أخوة المنذر ملكاً عليهم خلفاً لأخيه، وإذا استطاع أن يخدع أبناء المنذر أو يتملقهم فيخضعهم أو يحاربهم ثم يقبض عليهم".
الإعداد للمؤامرة
أمر الإمبراطور طيباريوس قضاة المدن والقادة بالذهاب مع القائد مجنا بصحبة جيش جرار، وهكذا خرجوا في استعراض عظيم. وفي البداية أقاموا شقيق المنذر ملكاً، ولكنه مات بعد عشرين يوماً. واختارت قبائل عرب الشام النعمان رئيساً عليها، فكتب مجنا إليه ليأتيه قائلاً: "إذا جئتني أقيمك مكان أبيك".
وبحسب يوحنا الآسيوي أتى النعمان بغلام وألبسه رداءه وأرسله إلى مجنا مع نفر من الجنود، فلما رآه مجنا قال له: هل أنت النعمان؟، فأجابه الغلام: نعم أنا هو النعمان، وقد أتيتك كما أمرت. وعندئذ أمر مجنا جنوده بقوله: هذا هو عدو الملك، كبلوه بالأغلال. فضحك الغلام وقال: لقد انخدعتم مثلما أردتم أن تخادعوا، وحق المسيح لست أنا النعمان. وأراد مجنا أن يقتله، أما الغلام فقال: كان ملكي سيقتلني إن لم أقدم إليك، وكان الموت مصيري لأني جئت إليك، إذا الموت راحة لي. لهذا سجنه مجنا بعد أن عذبه، ثم مات مجنا القاتل الشرير، بحسب تعبير يوحنا الآسيوي.
نفي آخر إلى صقيلية
في السنة الرابعة من حكمه مرض الإمبراطور طيباريوس (582م)، وحين شعر بدنو أجله أقام موريقيوس مكانه، وهو زوج ابنته أغوسطا، وقام بوضع التاج على رأسه بحضور مجلس الشيوخ، وبعد يومين مات. أما النعمان بن المنذر فقد تجاسر بعد ذلك وتوجه إلى الملك موريقيوس، فاستقبله الأخير بالحفاوة وأقسم له أنه إذا حارب الفرس سيعيد أباه من المنفى، وطلب منه الانضمام إلى "القوانين الإيمانية الخلقيدونية"، مذهب الدولة الرسمي، فاعتذر النعمان بقوله: "إن كل قبائل العرب تدين بالمذهب الأرثوذكسي (المونوفيسي)، فإذا تقربت إلى الخلقيدونيين قتلوني. لهذا السبب حسب تعبير يوحنا الآسيوي، زادت نيران البغضاء اشتعالاً بينهما، ولما خرج النعمان من القصر أقسم ألا يعود ثانية إلى أرض الرومان برغبته، ولهذا قبضوا عليه وهو في طريق عودته، وأرسلوه إلى أبيه المنذر في صقيلية.
معرة النعمان
ثمة نقش يوناني على لوح برونزي عثر عليه في معرة النعمان فيه نص تكريمي للنعمان، ربما يشير إلى أنه اعتقل في هذه المدينة هذا نصه ترجمته: "نعمان الأمجد والمقاتل القديس والحاكم". وهذا النص يميط اللثام عن سبب تسمية مدينة المعرة باسمها المعروف "معرة النعمان"، بعد أن ظهرت روايات عديدة تحاول تفسير هذا الاسم.
وبعد ذلك انقسمت مملكة العرب الغساسنة، إلى خمس عشرة زعامة، ودار معظمهم في فلك الفرس، ثم أخذت "الهرطقات" تنتشر بينهم، كما يقول يوحنا الآسيوي، الذي يختم قصة تعاظم مملكة العرب أتباع الروم وانهيارها عند نبأ اعتقال النعمان ونفيه.
وثمة قصيدة للنابغة الذبياني حول غياب النعمان نلمح صدى لوعة وأملا بعودته، التي ستعيد للغساسنة مجدهم الذي فقدوه. يقول النابغة:
وَإِن يَرجِعِ النُعمانُ نَفرَح وَنَبتَهِج وَيَأتِ مَعَدّاً مُلكُها وَرَبيعُها
وَيَرجِع إِلى غَسّانَ مُلكٌ وَسُؤدُدٌ وَتِلكَ المُنى لَو أَنَّنا نَستَطيعُها
وَإِن يَهلِكِ النُعمانُ تُعرَ مَطِيَّهُ وَيُلقَ إِلى جَنبِ الفِناءِ قُطوعُها
وَتَنحَط حَصانٌ آخِرَ اللَيلِ نَحطَةً تَقَضقَضُ مِنها أَو تَكادُ ضُلوعُها
عَلى إِثرِ خَيرِ الناسِ إِن كانَ هالِكاً وَإِن كانَ في جَنبِ الفَتاةِ ضَجيعُها
وكان من نتيجة ذلك أن الفرس الساسانيين سيطروا عسكرياً على الشرق، ووقع الامبراطور موريقيوس على استسلامه للقوة الفارسية، وعقده صلحاً غير متكافئ مع خصوم مملكته التقليديين، وقد عادت الحرب لتندلع مجدداً بعد مقتله على يد الإمبراطور فوكاس، حيث وصلت الأمور إلى مرحلة احتلال القوات الفارسية كامل بلاد الشام (613-614م) في أيام كسرى برويز (590 - 628 م) الذي هاجم الإمبراطورية البيزنطية واستولى على مصر وفلسطين، وقطع بذلك عنها شرايين التجارة العالمية المهمة. وكان ذلك نتيجة الموقف المحايد للغساسنة من الحرب.
مصائر غريبة
بعد أن توقف يوحنا الآسيوي عن التأريخ للغساسنة بعد اعتقال ونفي المنذر وابنه النعمان إلى جزيرة صقلية، لا نجد في المصادر التاريخية شيئاً عن أحوال عرب الروم الغساسنة، باستثناء بعض الوثائق الكنسية التي تشير إحداها، وهي رسالة لبطريرك أنطاكية الأرثوذكسي (المونوفيسي) بطرس بن بولس القالينيقي المعروف ببطرس الثالث (581-591) حول خلافه مع بابا الإسكندرية دوميان، وإلى اجتماعهما في جابية الجولان بحضور عدد كبير من رجال الإكليروس، وقيام الحاكم العربي الغساني (أحد أشقاء النعمان)، بدور الوساطة بينهما في سنة 587م، حسب تاريخ الرسالة، وهو ما يؤكد استمرار الغساسنة في لعب دور محوري في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية (المونوفيسية).
ولكن، مع ظهور التهديدات الإسلامية القادمة من الجزيرة العربية، استعانت الإمبراطورية البيزنطية بالغساسنة الملتحقين بكنيستها للوقوف في وجه المد القادم من الجنوب، فحاولت إعادة إنتاج مملكة الغساسنة الموحدة عبر الاعتراف بملكها الجديد جبلة ابن الأيهم، والذي شارك في معركة اليرموك الحاسمة. ولكن قوته العسكرية لم تكن لتتفوق على قوة خالد بن الوليد، فانهزم مع أتباعه، هو وجيوش الفيدراليات البيزنطية الأخرى، وتوجه للاستقرار في قبادوقيا وسط الأناضول، التي أقطعه الإمبراطور هرقل أراض فيها. وبحسب المؤرخين السريان وغير السريان، فإن الامبراطور البيزنطي نقفور الأول المعاصر لهارون الرشيد هو حفيده، ولذلك وصفه هارون الرشيد في الرسالة الشهيرة بـ "كلب الروم"، في دلالة على وصمه بخيانة أبناء جلدته العرب. أما حفيد الملك النعمان الغساني، حسان بن النعمان، فقد اعتنق الإسلام وقاد على رأس جيش من الغساسنة المسلمين فتوح إفريقيا في عهد عبد الملك بن مروان، وقد شكا فيما بعد سوء المعاملة، فاعتزل القيادة، وأمضى بقية حياته في بلاد الروم، وهي إشارة قد تعني عودته إلى مسيحيته.
لقد مثلت قصة صعود وسقوط مملكة الغساسنة واحدة من أكثر القصص درامية في التاريخ، إذ دفع ملوكها ثمن الخلافات العقائدية الدموية خلال الفترة البيزنطية، وعادوا ليدفعوا الثمن نتيجة وقوفهم مع البيزنطيين ضد العرب المسلمين، وثم دفعوا ثمن وقوفهم مع المسلمين ضد البيزنطيين، في زمن لم يكن للتسامح الديني أي اعتبار.