تقع مدينة قم في الجزء الغربي من وسط إيران. وتشغل أهمية كبرى في الأوساط الدينية الشيعية باعتبارها المكان الذي دُفنت فيه السيدة فاطمة، ابنة موسى الكاظم الإمام السابع عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية. نلقي الضوء في هذا المقال على تلك المدينة، لنعرف تاريخها وسيرتها وأسباب قداستها من جهة، ولنتعرف، من جهة أخرى، أكثر على حوزتها العلمية التي شاركت في العديد من الأحداث الاجتماعية والسياسية في تاريخ إيران.
الاسم والتاريخ
تقع مدينة قم على بعد 157 كم جنوبي العاصمة الإيرانية طهران. تختلف الآراء حول توقيت تأسيس المدينة. يذكر البعض أنها بُنيت قديماً على يد طهمورث بن هوشنغ أو قمسواره بن سهراب، وهما من ملوك الفرس الأوائل، فيما يذهب البعض الآخر لكونها مدينة إسلامية محضة اعتمادا على ما ذكره ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان عندما وصفها بأنها "مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها".
يتفق المؤرخون أن قم فُتحت في سنة 21هـ في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على يد أبي موسى الأشعري، وذلك في سياق التوسعات العسكرية العربية في بلاد فارس. لكنهم يختلفون حول سبب تسميتها بذلك الاسم. يذكر البعض إن اسمها الأول كان "كمندان" ثم حُرف فأصبح "كومة"، وبعدها تم تعريبه ليتحول إلى "قم". أيضاً ظهرت بعض التفسيرات الأسطورية للاسم، والتي حاولت أن تضفي قداسة وصبغة إلهية على المدينة. من تلك التفسيرات، ما أورده الشيخ الصدوق في كتابه "علل الشرائع" عن الإمام السادس جعفر الصادق من قول النبي محمد: "لما أسري بي إلى السماء حملني جبرئيل على كتفه الأيمن فنظرت إلى بقعة بأرض الجبل حمراء أحسن لوناً من الزعفران وأطيب ريحاً من المسك، فإذا فيها شيخ على رأسه برنس، فقلت لجبرئيل: ما هذه البقعة الحمراء التي هي أحسن لوناً من الزعفران وأطيب ريحاً من المسك؟ قال: بقعة شيعتك وشيعة وصيك علي. فقلت: من الشيخ صاحب البرنس؟ قال: إبليس. قلت: فما يريد منهم؟ قال: يريد أن يصدهم عن ولاية أمير المؤمنين ويدعوهم إلى الفسق والفجور، فقلت: يا جبرئيل اِهوِ بنا إليهم، فأهوى بنا إليهم أسرع من البرق الخاطف والبصر اللامح. فقلت: قم يا ملعون! فشارك أعداءهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم، فإن شيعتي وشيعة علي ليس لك عليهم سلطان. فسميت تلك المدينة باسم "قم"!
مكانة قم الدينية
تحظى مدينة قم بمكانة مهمة في الوجدان الشيعي الاثني عشري. يرى الشيعة في تلك المدينة واحدة من أكثر المدن قداسة واعتبارية. يرجع السبب في ذلك إلى كونها الأرض التي دُفنت فيها فاطمة بنت موسى الكاظم. تحكي المصادر الشيعية قصة انتقال فاطمة من المدينة إلى قم. يذكر محمد باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" أن الخليفة العباسي المأمون أمر بنقل الإمام الثامن علي الرضا بن موسى الكاظم إلى خراسان ليبايعه بولاية العهد. اشتاقت فاطمة لزيارة أخيها فسافرت إلى خراسان. عندما وصلت إلى مدينة ساوة مرضت فسألت من معها: كم بيني وبين قم؟ أجابوها: عشرة فراسخ -أي خمسة وخمسون كم تقريباً- عندها أمرتهم بالتوجه إلى قم. يصف المجلسي استقبال أهل قم لها، فيقول: "لمّا وصل خبرها إلى قم استقبلها أشراف قم وتقدمهم موسى بن الخزرج، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وجرها إلى منزله، وكانت في داره سبعة عشر يوماً ثم توفيت، فأمر موسى بتغسيلها وتكفينها وصلى عليها ودفنها في أرض كانت له وهي الآن روضتها...".
ارتفعت منزلة قم منذ ذلك الوقت. وعرفها الشيعة باسم "عش آل محمد". وجرى الاهتمام بعمارة مرقد فاطمة عبر القرون حتى أضحى مزاراً دينياً يقصده الملايين من الشيعة في كل عام. في السياق نفسه، تواترت الأحاديث المنسوبة للأئمة والتي أكدت على أهمية تلك الزيارة. على سبيل المثال، يروي المجلسي في بحار الأنوار عن الإمام علي الرضا أنه قال في فضل زيارة فاطمة المعصومة: "منْ زارها عارفاً بحقها، فله الْجَنَّة"، كما نقل النوري الطبرسي في كتابه "مستدرك الوسائل" عن الإمام جعفر الصادق قوله: "إنّ لله حرماً وهو مكّة، وإنّ للرسول حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم، وستُدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنّة".
لم يكن مرقد فاطمة المعصومة هو البقعة المقدسة الوحيدة في مدينة قم. يوجد أيضاً مسجد جمكران الذي بُني في نهايات القرن الرابع الهجري. بُني المسجد على مساحة واسعة واهتم الصفويون بعمارته في القرن السادس عشر الميلادي حتى أضحى واحداً من أهم الآثار الإسلامية في عموم البلاد.
حوزة قم
عُرفت قم تاريخيا بكونها أحد المراكز العلمية المهمة عند الشيعة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، كما نُسب إليها العديد من العلماء المعتبرين الذين أثروا المكتبة الشيعية بمؤلفاتهم ومصنفاتهم على مر السنين. من أهم هؤلاء العلماء كل من علي بن بابويه المعروف بالصدوق الأول، وابنه محمد بن علي بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق، وابن قولويه القمي صاحب كتاب "كامل الزيارات"، وعلي بن إبراهيم بن هاشم القمي صاحب "تفسير القمي". تراجعت مكانة قم العلمية في العصر السلجوقي، ولكنها استردت مكانتها العلمية مرة أخرى في العصر الصفوي في القرن السادس عشر الميلادي. عمل الصفويون على نشر التشيع في كافة أنحاء إيران. واهتموا كثيراً بمدينة قم وبما فيها من مزارات ومراقد مقدسة.
في الربع الأول من القرن العشرين، تم تأسيس حوزة قم العلمية على يد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي. سافر الشيخ لقم زائراً سنة 1923م مع مجموعة من طلبة العلم. استقر الزائرون في المدينة وأحيوا مكانتها العلمية القديمة بعدما شرعوا في تدريس العلوم الدينية والشرعية. لم تقتصر أنشطة الحوزة على الناحية العلمية فحسب. شارك علماء قم بشكل مؤثر في الأحداث الاجتماعية والسياسية التي شهدتها إيران. على سبيل المثال، اندلعت الشرارة الأولى للمظاهرات المعترضة على حكم الشاه في إيران من المدرسة الفيضية في حوزة قم فيما عُرف بعد ذلك باسم مظاهرات 15 خرداد/ 5 يونيو. وألقى الخميني في الثالث من يونيو عام 1963م من تلك المدرسة خطاباً معترضاً على الممارسات التحديثية التي قام بها الشاه محمد رضا بهلوي. ندد الخميني بمظاهر "التحديث والتغريب"، وعقد في خطابه مقارنة بين الخليفة الأموي يزيد بن معاوية والشاه. بعد يومين، قامت قوات الأمن باعتقال الخميني لتندلع المظاهرات في عموم المدن الإيرانية.
لعبت الظروف العصيبة التي مرت بها العراق خلال فترة حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين دوراً مؤثراً في ازدياد أهمية حوزة قم. تعرض الشيعة العراقيون لحملات التضييق والاضطهاد. وتسبب ذلك في نزوح العديد من الأساتذة والطلبة إلى قم. حالياً، يتلقى عشرات الطلاب الشيعة تعليمهم الديني في حوزة قم العلمية. يتوزع هؤلاء على ما يقرب من 200 مؤسسة ومدرسة. من أهمها كل من جامعة الزهراء، وجامعة الصدوق، وجامعة المفيد، وجامعة المصطفى العالمية. أيضاً، تُعدّ قم مركزاً للعديد من المرجعيات الدينية الشيعية المهمة داخل إيران، من أهم هؤلاء المراجع كل من ناصر مكارم الشيرازي، وحسين وحيد الخراساني، وصادق الحسيني الشيرازي، وجعفر السبحاني، وصادق الحسيني الروحاني.