تمثال لجوديا أمير مملكة لكش المستقلة في أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد.
تمثال لجوديا أمير مملكة لكش المستقلة في أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد.

كشف علماء آثار من جامعتي بنسلفانيا الأميركية وبيزا الإيطالية النقاب عن اكتشاف أثري هام، في مدينة لكش السومرية (موقع "تلول العباء" جنوبي العراق)، يشكل الدليل المادي الأهم على وجود حانة عمومية قبل 4700 عام. ويتكامل هذا الاكتشاف مع اكتشاف آثاري سابق قبل خمس سنوات في موقع "كاني ماسي" في محافظة دهوك (إقليم كردستان العراق) ليلقيا مزيداً من الأضواء على مجتمع بلاد ما بين النهرين، بوصفه واحداً من أقدم المجتمعات الحضرية في العالم.

والاكتشاف الجديد هذا محصلة للموسم التنقيبي الرابع في "مشروع لكش الأثري" (بين 22 تشرين الأول/ أكتوبر و27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضيين)، برئاسة البروفيسورة الأميركية هولي بيتمان القيِّمة على قسم الشرق الأدنى في متحف الآثار والأنثروبولوجيا بجامعة بنسلفانيا، وبمساندة من البروفيسورة الإيطالية سارة بيزيمنتي من جامعة بيزا، وهو مشروع مشترك بين متحف الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة بنسلفانيا، وجامعة كامبريدج، ومجلس الدولة للآثار والتراث في بغداد تم إطلاقه عام 2019 برعاية أممية، واستخدمت فيه تقنيات جديدة مثل التصوير الجوي، والتحليل الجيني للرفات والبقايا العضوية.

 

مئات الأكواب الخزفية

 

ووجد المنقبون في الخندق الثالث من الموقع غرفة فيها مئات الأكواب والأواني الخزفية، في العديد منها المحتوى الأصلي من الطعام والشراب، مع كميات وافرة من عظام الأسماك والحيوانات والمخلفات العضوية التي لا تزال في مكانها.

وفي أحد أركان الغرفة نفسها، عثر المنقبون على وعائن كبيرين مستديرين، وضع أحدهما داخل الآخر مع فراغات معبأة بقطع الفخار؛ توصل الباحثون إلى أنه أول جهاز تبريد من العصر البرونزي لتخزين المشروبات فيه. كما كشفوا عن فرن كبير، وفناء مليء بالمقاعد ومستوعبات طعام خزفية دفعت علماء الآثار للجزم بأن هذه الغرفة كانت حانة عمومية ذات يوم.

تعتمد استراتيجية البروفيسورة بيتمان في التنقيب على سبر المواقع العامة غير النخبوية، وهي استراتيجية جديدة تختلف عما كان الأمر عليه سابقاً حين كانت البعثات الثرية تركز على القصور ومجتمعات النخب الحاكمة، وهذه الاستراتيجية تنبع من اهتمامات بيتمان المتحفية التي تسعى لفهم الطبقات الاجتماعية الوسطى بين الحكام والمستعبدين، بغية الوصول إلى رواية قصة تطور الحضارة الإنسانية في بلاد ما بين النهرين خلال سبعة آلاف عام.

 

أكبر مجتمعات الشرق

 

وتنبع أهمية مدينة لكش من كونها أكبر المواقع الأثرية في الشرق الأوسط، حيث تزيد مساحتها على 600 هكتار، وتم استيطان هذا الموقع منذ سبعة آلاف سنة عام، واستمر ذلك إلى الألفية الثانية قبل الميلاد.

عملة عليها صورة الملك إيسباسينو عثر عليها في دورا اوروبس السورية.
"خاراكس".. مملكة ميسان التي تؤجل الفيضانات والحروب اكتشافها
شغل موقع مدينة "خاراكس" كما تسمى باليونانية، و"كرك سباسينو" كما تسمى بالتدمرية، علماء الآثار منذ القرن التاسع عشر، نظراً لأهمية هذه المدينة في التاريخ الكلاسيكي للعراق وإيران، ولأنها كانت واحدة من أهم المراكز التجارية العالمية خلال أكثر من خمسة قرون.

وتقول البروفيسورة بيتمان إن مدينة لكش بسبب أهميتها السياسية، كونها مملكة كانت تشمل 17 مدينة وما لا يقل عن 40 قرية، وكذلك الاقتصادية والدينية، فهي مركز سكاني مهم، مفتوح على الأراضي الزراعية الخصبة، ويضم محترفات كثيرة لإنتاج مستلزمات الحياة الحضرية.

وعد العراقيون القدماء "النينكار"، وهو شراب البيرة، مشروباً إلهياً، وكانت أكثر المشروبات شعبية في بلاد الرافدين. فبالإضافة لكونها مادة مغذية اعتُبِرت طعاماً عند السكان، استعملت كذلك لدفع أجور العمال في نصوص المحاسبة القديمة التي تصف الجعة بأنها حصص.

 

نينكاسي ربة البيرة

 

لعبت البيرة دوراً مهماً في الرسوم والأختام العائدة للطبقات الشعبية، ووصلت إلى الأدب والميثولوجيا السومرية. يقول عالم الآثار البريطاني جيرمي بلاك في كتابه "آداب سومر القديمة" إن البيرة "كانت أساسية في بلاد ما بين النهرين وما حولها منذ عصور ما قبل التاريخ، إذ كانت عملية التخمير فعالة في قتل البكتيريا والأمراض المنقولة بالماء، وقد سجّل الكتبةُ صناعة البيرة وتحكموا بها وتشهد بذلك أقدم السجلات المدوّنة؛ تلك التي كُتبت في نهايات الألفية الرابعة ق.م. واستهلك السكانُ البيرةَ بمختلف طبقاتهم الاجتماعية وقدّموها للآلهة وللأموات في طقوس إراقة الشراب".

صورة التقطت عام 2010، تظهر معبد مرن الهلنستي في قلعة مدينة الحضر القديمة التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2000 عام.
تتعافى من كارثة داعش.. تعرف على مملكة الحضر القديمة
دمر داعش واجهات المعابد، وحطم التماثيل الموجودة في المكان بدعوى أنها "أصنام شركية"، وقام بحفريات عشوائية بحثاً عن دفائن وكنوز، مستعيناً بمهربي آثار محترفين كانوا يحصلون على امتياز تنقيب مما سمي بـ"ديوان الركاز"، الأمر الذي ترك خراباً واسعاً يحتاج مواسم عدة من الترميم والإصلاح.

ومن بين أوضح الأمثلة المعروفة في النصوص السومرية عن البيرة، "ترنيمة نينكاسي" التي تعود إلى حوالي 1800 قبل الميلاد، وتتضمن وصفة بيرة على شكل قصيدة تمتدح آلهة البيرة نينكاسي لنقعها الشعير في جرة، ونشر الهريس على حصائر القصب، من بين أشياء أخرى. ويمكن العثور على مزيد من الإشارات إلى البيرة في ملحمة جلجامش، وهي أقدم عمل أدبي باقٍ من بلاد ما بين النهرين، حيث يشرب أنكيدو المتوحش الذي نشأ في الغابة سبعة أباريق من البيرة، ليصبح محباً للحضارة بما يكفي لأن يصبح رفيق جلجامش.

 

الاستشراب الغازي

 

ومن المنتظر أن يتم تحليل بقايا الأشربة في أوعية الفخار؛ لاكتشاف مادة بيرة الشعير، بعد أن أصبح هذا الأمر متاحاً مع توصل البروفيسورة الفرنسية إليسا بيروتشيني قبل خمس سنوات لاكتشاف تقنية ثورية في عزل المواد العضوية تم تجريبها على مكتشفات في موقع "كاني ماسي"، في محافظة دهوك شمالي العراق.

وحسمت البروفيسورة بيروتشيني يومها أن المواد الملتصقة بطين الأكواب والجرار القديمة في موقع عين نوني، أو كما يسمى بالكردية "كاني ماسي"، الذي يقطنه الآشوريين المعاصرين، هو البيرة المذكورة كثيراً في نصوص بلاد الرافدين منذ العصر البرونزي، والمصورة في اللوحات الجدارية والأختام الطينية بكثرة.

والحفريات في موقع عين نوني هي جزء من استكشاف التوسع الإمبراطوري للبابليين في وادي نهر ديالى. حيث يعمل المنقبون في الموقع على تواريخ من 1415 قبل الميلاد إلى 1290 قبل الميلاد، في أواخر العصر البرونزي، بناء على الأدلة المادية مثل الفخار وممارسات الدفن.

ودرست البروفيسورة بيروتشيني الأبعاد الثقافية لسكان الموقع القدماء من خلال فحص الطعام والشراب الذي تناولوه. وقد سعت للوصول إلى أفضل طريقة لمعرفة هذه الأبعاد عبر تقنية "كروماتوجرافيا الغاز"، أو الاستشراب الغازي، وهي وسيلة في الكيمياء التحليلية لفصل وتحليل تركيبة المواد ذات خاصية التطاير، أي يمكن أن تتبخر من دون أن تتحلل، مثل المواد العضوية، علماً أن الاستشراب الغازي وسيلة تتيح فصل مواد بعضها عن بعض، ثم يتلو ذلك قياس نسب مكونات تلك المواد المفصولة ومعرفة تركيبتها، وذلك يكون غالباً عبر أي نوع من أنواع الكواشف المعروفة.

 

حلم تحقق!

 

كانت تلك هي المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه التقنية بعلم الآثار لفحص مجموعة من المركبات بهدف تحديد شيء مثل البيرة. وقد سمحت لها هذه الطريقة بأن تكون دقيقة للغاية في تحليلها، إذ تطابقت المكونات المتبقية في الأوعية الفخارية مع عينات البيرة الحديثة.

وتقول بيروتشيني عن هذه العملية: "إنها في الواقع رخيصة التكلفة للغاية"، مضيفةً أن "علماء الآثار الآخرين يستطيعون تكرار أسلوبي في تحديد البيرة أو المخلفات الأخرى في البقايا القديمة". 

صورة عن صفحة مايكل دانتي
كنوز نينوى الآشورية بدأت بالظهور.. اكتشاف بوابة تخلد منجزات الملك أدد نيراري
أعلن البروفسور مايكل دانتي مدير برنامج تثبيت التراث العراقي في جامعة بنسلفانيا، أمس على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" أن البعثة المشتركة الأميركية العراقية اكتشفت بلاطة باب عليها كتابة آشورية محفوظة جيداً تعود لقصر الملك الآشوري أدد نيراري الثالث (811 - 783 ق.م) في نمرود

ويعد هذا الاكتشاف نقلة نوعية يمكن أن تشكل منجماً من المعلومات حول الأطعمة والأشربة القديمة من دون تلوث بفعل التقادم، ودخول عناصر من أزمنة أخرى، وهو حلم قديم لعلماء الآثار كما عبرت عن ذلك البروفيسورة مارا هورويتز، مؤسسة ومديرة استوديو ألبيون لعلم الآثار التجريبي في دانبري، كونكتيكت.

وإلى أن تظهر النتائج يمكن أن نتخيل شوارع مدينة لكش وهي تمتلئ بالحانات التي يتجمع فيها أبناء الطبقة الوسطى لتمضية سهراتهم بعد يوم عمل شاق في محترفاتهم.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".