كانت مدينة هيبوس، أو سوسيا في المصادر العربية، والتي تقع إلى الشرق من بحيرة طبريا في هضبة الجولان، واحدة من المدن الغامضة التي حار الرحالة وعلماء الآثار طوال قرنين من الزمان في تحديد موقعها، بناء على المعطيات التاريخية الرومانية والبيزنطية التي تتحدث عنها بوصفها مدينة جميلة من مدن الديكابوليس، أي المدن العشرة الشهيرة في التاريخ الروماني.
تصفها المصادر التاريخية بأنها كانت ذات صروح عظيمة، وأسوار حصينة، وكنائس فخمة يفوق عددها حاجة سكان المدينة، ما يعني أنها كانت مكاناً للزيارة والحج خلال الحقبة البيزنطية. وتذكر المصادر الإسلامية عنها أيضا مقاومتها لجيش شرحبيل بن حسنة في العام 634م إلى أن فتحت صلحاً مع باقي مدن الشام.
ويمكن اعتبار هيبوس مدينة نموذجية لدراسة تأثير الزلازل على الحواضر في العصور القديمة، حيث اختفت هذه المدينة تحت ركام أعمدتها وجدران أبنيتها في زلزال عام 749م، أي منذ نحو ما يقارب 1300 عام، إلى أن تم اكتشافها عام 2000. وافتتحت مواسم التنقيب فيها من جانب تحالف أكاديمي عالمي يضم عدة مراكز من بولندا، مثل الأكاديمية البولندية للعلوم والمتحف الوطني في وارسو؛ ومن الولايات المتحدة الأميركية مثل جامعة كونكورديا في مينيسوتا، إضافة إلى مركز أبحاث آثار البحر الأبيض المتوسط في جامعة حيفا. وما زالت فرق التنقيب تعمل بها حتى الآن.
وفي كل يوم يظهر اكتشاف جديد يبين طبيعة الحياة في هذه المدينة الهلنستية لعل آخرها قناع الإله اليوناني بان المصنوع من البرونز بحجم يفوق حجم الوجه الإنساني بكثير.
مدينة الأحصنة
شيدت هيبوس التي يعني اسمها باليونانية الأحصنة، في القرن الثاني قبل الميلاد، في موقع استراتيجي، تتوفر فيه شروط ومقومات الأمن والازدهار. فالموقع محصن طبيعياً، بجروف شديدة الانحدار، في الشمال والغرب والجنوب، ويطل على بحيرة طبريا، التي تتميز بثروتها السمكية، ويتصل شرقاً بسهول الزوية، المعروفة تاريخياً بثرواتها النباتية والحيوانية. ويتحكم الموقع أيضا في عدة طرق تربط مختلف أقاليم بلاد الشام، ويتمتع بمناخ معتدل، ماطر نسبياً.
واسم هيبوس هو المعادل اليوناني لاسمها الآرامي القديم "سوسيا" الذي يعني الأحصنة. وقد أطلق على عموم المنطقة خلال الفترة الهلنستية اسم هيبينة. أما الآن فيسميها الناس قلعة الحصن. ويُعتقد أن المعنى الواحد للتسميات المختلفة يعود إلى ظاهرة جغرافية في المكان، إذ يبدأ الموقع من الزاوية اليمنى كرأس حصان وعنقه، ويلاحظ في الجانب الشرقي للموقع، وجود جرف جبلي، مقوس على شكل سرج الحصان، ويعرف باسم سرج سوسيا، ويشكل حلقة الوصل مع محيطه الشرقي.
تطورت هيبوس لاحقاً، حتى أصبحت إحدى مدن الديكابوليس، (المدن العشرة)، ذات الطبيعة الثقافية الإغريقية، واستمرت في الازدهار، خلال العصرين الروماني والبيزنطي، حيث تحددت هويتها المسيحية ببناء أربع كنائس مميزة. ويرجح أن المدينة اكتسبت قدسيتها بسبب اعتقاد الكثير من المؤمنين بأنها كانت آخر محطة للسيد المسيح في جولته على مدن الديكابوليس.
في كتب الفتوح
ذكرها المؤرخ المسلم البلاذري باسم سوسيا في كتابه "فتوح البلدان"، حيث حدد موقعها ضمن جند الأردن، وبالتالي كانت ضمن المدن والحصون التي فتحها شرحبيل بن حسنة صلحاً وأمن أهلها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكنائسهم ومنازلهم.
أما ابن خرداذبة، أحد أهم جغرافيي مطلع العصر العباسي، فيؤكد أنها كورة، أي إقليم بالمعنى المعاصر، وهي إشارة واضحة إلى أن سوسيا كانت مركزاً لإقليم يأخذ اسمه منها. وقد حافظت هيبوس، أو سوسيا، على مكانتها وطابعها المسيحي في العصر الأموي، إلى أن ضربها زلزال عام 749 ميلادي المدمر والذي أسفر عن تدميرها وخرابها. ويقدر بعضهم أن عدد سكانها بلغ في ذروة ازدهارها نحو 20 ألف نسمة.
جندي إيطوري
يبدو أن تركيبة المدينة السكانية كانت متنوعة، ولكن لدينا شاهد أثري مهم يؤكد أن سكان المدينة، أو على الأقل جزء منهم، كانوا من الإيطوريين، وهم شعب عربي – آرامي كان يستوطن لبنان والجليل والجولان، ومذكور بكثافة في المصادر الرومانية.
هذا الدليل هو دبلوما رومانية بمثابة وسام تتضمن منح المواطنة الرومانية للجندي الإيطوري ماركو سبيديو ماركي من مدينة هيبوس، ولزوجته ولذريته من بعده محفورة على رقاقة برونزية، قدمها له الامبراطور الروماني الشهير تراجان (53 -117م) في نهاية خدمته العسكرية في الفوج الإيطوري الثاني، العامل في بانونيا (المجر والنمسا الحاليتين) وغيرها من المواقع مثل مصر وإسبانيا، وأدى المهمات التي كلف بها بشكل مشرف وقد صدرت نسخة منها في روما على أن تعلق على حائط معبد مينيرفا، كما يرد في نص الديبلوما التي عثر عليها في دمشق عام 1968، وهي من الآثار المنقولة من هضبة الجولان على الأرجح، علماً أن الكثير من الإيطوريين حملوا أسماء يونانية، نظراً لأنهم تبنوا الثقافة الهلنستية بشكل كبير.
مدينة هلنستية
كشفت عمليات التنقيب في الموقع عن آثار تؤكد مكانة المدينة، ومدى تطورها، وازدهارها، منها ساحة مركزية، مرصوفة بأحجار بازلتية، وتحيط بها أعمدة، نصبت على قواعد رخامية، وحملت تيجاناً رخامية، وفيها قاعدة، يبدو أنها مخصصة لحمل تمثال لشخصية مميزة، وتعد أول قاعدة من هذا النوع، يتم العثور عليها في الجولان.
وعثر أيضا على مجموعة كبيرة من النقود التي تعود لمختلف العصور الهيلينية والرومانية والبيزنطية والأموية، أقدمها قطعة تم سكها عام 285 قبل الميلاد في صور، وأحدثها قطعة مسكوكة في العهد الأموي في طبريا عام 734 ميلادية.
وتبدو في الموقع آثار شارع رئيسي تتفرع عنه كل شوارع المدينة، وهو ما يعبر عن مكانة سوسيا وتقدمها العمراني، وتم الكشف أيضاً عن البوابة الشرقية للمدينة، وهي بوابة من الصخور البازلتية المنحوتة. وهناك آثار هيكلين وثنيين، يحملان طابع الهندسة المعمارية الهلنستية. الأول يوناني، يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، والثاني روماني، يعود إلى القرن الأول الميلادي. وعثر في الموقع على بقايا أربع كنائس، بنيت في العصر البيزنطي، تقع إحداها في الجزء الشمالي الغربي من المدينة، والأخرى في الجانب الشمالي الشرقي.
الكنيسة الشمالية الغربية
كشفت التنقيبات عن ساحة الصلاة في هذه الكنيسة، كما كشفت في هذه الساحة، عن تابوت رخامي صغير، يضم عظاماً بشرية، قد تعود لقديس لم يعرف اسمه. وكذلك عثر في هذه الساحة على جرة من البرونز، تعود إلى العصر الأموي، مما يؤكد أن الكنيسة واصلت دورها حتى هذا العصر. ويشير بناء الكنيسةِ الشمالية الغربيةِ إلى درجة القداسة العالية التي يحظى بها هذا المكان، حيث أقيمت في مركز المدينة، شمال الساحة العامة، وضمن منطقة الحي الهيليني، إذ أراد بناة الكنيسةَ إقامتها على بقايا معبد وثني. ويظهر مخطط الكنيسة تماماً بشكل واضح على سطح الأرض حتى قبل التنقيب الذي قام به فريق من جامعة وارسو البولندية.
بنيت الكنيسة ورصفت بالحجارة البازلتية المستطيلة بعناية فائقة، وفيها أربعة من الأروقة لكل رواق ستة من الأعمدة التي تعلوها تيجان أيونية. وعلى الأرضية الفسيفسائية في الممر الجنوبي نقشان باللغة اليونانية يخلدان أسماء المتبرعين والمبالغ التي تبرعوا بها، وهم من أهالي المدينة على ما يبدو. واسم أحد المتبرعين كان هيليودورا، والثاني كان اسمه بطرس.
إن التحليل المعماري للكنيسة يظهر أنها بنيت على مراحل مختلفة والفسيفساء رصفت على الأغلب في نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الخامس. أما تجديد الفسيفساء قرب المذبح الرخامي فيبدو أنه تم في القرن السادس الميلادي، حيث بدت مماثلة لفسيفساء الكنيسة الجنوبية الشرقية من المدينة، وهذه الأخيرة مؤرخة في السنة 591 م، وتشبه أيضاً فسيفساء كنيسة الكرسي القريبة منها والتي أَرّختْ في سنة 585م.
الكنيسة الشمالية الشرقية
تقع الكنيسة الشمالية الشرقية على مسافة 50 متراً إلى الشرق من الكنيسةِ الشمالية الغربية. وبدأ التنقيب فيها عام 2002 من قبل جامعة كونكورديا في ولاية مينيسوتا الأميركية برئاسة الدكتور مارك شولر. وهي مثل جارتها الغربية كانت مرئية على سطح الأرض قبل التنقيب. تتجه الكنيسة الشمالية الشرقية شرق غرب، كما هو الحال في الكنيسة الشمالية الغربية، ويظهر المخطط العام للكنيسة أنها مربعة الشكل 12 × 12 متراً، بنيت من البازلت المنحوت، أما كسوتها الداخلية فقد صنعت من الرخام، يقسمها صفان من الأعمدة أربعة في كلّ صف.
وما يلفت النظر في هذه الكنيسة أنها الوحيدة، من الكنائس العائدة للفترة البيزنطية في الجولان خصوصاً وبلاد الشام عموماً، التي تحوي منصة حجرية خارجية. وقد عثر قرب مذبحها على قبرين، وهو أمر مفاجئ، لأن وجود مدفن في الكنيسة أمر نادر جداً، وربما يعبر وجود القبور، بهذا القرب من المذبح، عن مكانة الأشخاص المدفونين فيها.
الكنيسة الملكية
وجدت في جنوب شرق المدينة كنيسة من الطراز الملكي، يفصل صفان من الأعمدة الداخلية الجناحين الجانبيين من ساحة الكنيسة، ويلاحظ هنا أن جزءاً من الكنيسة على شكل نصف دائري. إن كنائس هيبوس عموماً تشبه الكنائس البيزنطية الأخرى في الجولان، ولكنها تتميز عنها بمنصة رخامية داخلية نصف دائرية.
وقد أظهرت التنقيبات أن المدينة عانت في البداية من مشكلة نقص الماء، واعتمدت على أحواض تخزين، في توفير الماء اللازم، فقد عثر في الجزء الغربي من المدينة على بركة كبيرة، وأخرى صغيرة، مجصصة، ويعتقد بعضهم أن النافورة المعقدة التصميم، كانت في هذا المكان. وقد حلت المدينة مشكلة الماء لاحقاً، بتقنية تنم عن معرفة دقيقة بطبوغرافية الأرض، والقدرة على توظيف المواد المحلية، في نقل الماء، فقد جلب الماء إلى المدينة، من أعالي وادي العال، وعلى امتداد 25 كم، عن طريق نحت قناة في الصخور، في بعض الأجزاء، وتركيب حجارة بازلتية مجوفة، قابلة للوصل، في أجزاء أخرى، ورفعت الحجارة المجوفة على أعمدة، في بعض الأماكن المقعرة. وفتحت فتحات دائرة في القناة، من أجل التهوية، وتخفيف الضغط على الماء الجاري، وتسهيل عملية تنظيف القناة، ويلاحظ أن القناة كانت تمتد داخل المدينة، تحت الأرصفة المرصوفة، وتملأ أحواض التخزين.
أعمدة وأرضيات فسيفسائية
في الموقع أيضا بقايا خندق مائي وسور، تقع خارجه تلال تضم كهف دفن من العصر الروماني، ويشار إلى أن المدينة تطل غرباً على تل، نحتت الرياح والمياه فيه تشكيلات لافتة للنظر، وأوحت بتسميته بتل خلية النحل، وتل الدمى أو اللعب.
وتنتشر في الموقع أعمدة غرانيتية، ملقاة على الأرض، وفق زوايا متماثلة، سقطت نتيجة الزلزال المدمر الذي قضى على الحياة فيها، وهناك بقايا أرضية من المرمر والفسيفساء، ومبان عامة كبيرة، شيدت بأحجار البازلت المحلية، وبحجارة جيرية، أحضرت من مناطق بعيدة، وقد زينت المباني بأنواع مختلفة من الرخام، جلبت من مناطق مختلفة، في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت المدينة تزخر بتماثيل الأسود.
وتوضح البقايا في الموقع أن المدينة بنيت وفق مخطط هندسي جيد، ويؤكد استخدام الرخام والغرانيت المستوردين، أن المدينة شهدت ازدهاراً اقتصادياً، وعلاقات تجارية متشعبة مع المراكز الحضارية التي عاصرتها، كما تؤكد عملية نقل الماء من مسافات بعيدة تطوراً علمياً، ولاسيما في مجال الطبوغرافية والهندسة المائية، وكذلك تؤكد كثرة المعالم الروحية و الثقافية في الموقع المكانة الثقافية التي احتلتها هذه المدينة.