من جامع النوري في الموصل خلال أول أيام رمضان 2023
من جامع النوري في الموصل خلال أول أيام رمضان 2023

رغم مرور نحو ست سنوات على تحرير مدينة الموصل شمال العراق من تنظيم داعش، لا تزال الآثار الإسلامية التي دمرها مقاتلوه طيّ النسيان، ولم تصدر حتى اللحظة إحصائية رسمية بالمواقع التي اختفت عن الوجود خلال عامي 2014 و2015، ولكن إعادة افتتاح  جامع شيخ مشايخ قبيلة شمر البدوية عجيل الياور (1882- 1940)، الجمعة، في ثاني أيام رمضان، أعاد هذا الملف للضوء.

وتولت عائلة الشيخ الياور تمويل إعادة بناء الجامع وتأهيله على نفقتها الشخصية، دون الالتزام بالقواعد العلمية للترميم، على اعتبار أن هذا الصرح ليس قديماً إلى هذه الدرجة، فقد بني على ضريح الشيخ الياور بعيد موته يوم 12 نوفمبر 1940.

في المقابل، أبدى العديد من المراقبين مخاوفهم من أن يتم التعامل مع باقي المعالم الإسلامية المدمرة بالعقلية نفسها.

 

من هو الشيخ الياور؟

توفي الياور، وهو شيخ بدوي واسع النفوذ كان يلقب بـ"ملك العراق غير المتوّج"، بينما كان يقود سيارته الخاصة قرب قصره في ناحية الشرقاط.

ولمع اسمه بعد ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق، ويعتبره البعض القائد الفعلي لها، حيث نجح بالتعاون مع عدد من الضباط العراقيين الذين كانوا مع قوات الأمير ثم الملك فيصل الأول في احتلال قلعة تلعفر يوم 4 يونيو 1920. 

وبعد عام خلف والده الشيخ عبد العزيز الياور في رئاسة قبيلة شمر المليونية، وانتخب عام 1924 عضوا في المجلس التأسيسي العراقي عن لواء الموصل، وشارك في وضع القانون الأساسي للمملكة العراقية.

وبعد علاقة ملتبسة مع الإنجليز، دعته الحكومة البريطانية عام 1937 بصفته الشخصية لحضور احتفالات تتويج الملك جورج السادس والد الملكة اليزابيث الثانية، وزار الشيخ عجيل بريطانيا مرة ثانية عام 1939، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، على أمل أن يضمنوا ولاء قبيلة شمر في حال نشبت الحرب مع ألمانيا، حيث شاعت أنباء عن انحيازه للألمان مع من انحازوا من زعماء الحركة القومية العربية آنذاك، على رأسهم رشيد عالي الكيلاني (1892 - 1965). وقد دعي في لندن لحضور المناورات عسكرية وبحرية خلافاً للأعراف الدبلوماسية.

 

الآثار التي دمرها داعش

بدأت عمليات التدمير والإزالة للآثار الإسلامية في الموصل بحسب البروفيسور عامر الجميلي الأستاذ في جامعة الموصل، برباط المتصوف أبو الفتح الأزدي الموصلي بتاريخ 16 يونيو 2014، وهو ينتمي للعصر العباسي الأول، أي بعد أسبوع واحد من احتلال المدينة من قبل تنظيم داعش.

بعدها بأربعة أيام (20 يونيو 2014)، تم تدمير ضريح وقبة مؤرخ الموصل عز الدين ابن الاثير الشيباني الموصلي، صاحب كتاب "الكامل في التاريخ" و"أسد الغابة في معرفة الصحابة".

وبتاريخ 23 يوليو 2014، تم تهديم جامع النبي دانيال الذي يعود للفترة المغولية، ومسجد الشيخ أبو العلا الذي يعود إلى الفترة العثمانية، والمدرسة الحمدانية وهي المدرسة المعروفة عند عامة أهل الموصل بمشهد الإمام يحيى بن القاسم بن الحسن بن الامام علي بن أبي طالب، وتعود للفترة الحمدانية.

في اليوم التالي، دمر داعش المدرسة النظامية، نسبة للوزير نظام الملك، وهي معروفة عند العوام بمقام الإمام محمد بن الحنفية أو علي الأصغر، وتعود للفترة السلجوقية.وفي اليوم الذي تلاه تم تدمير مشهد الإمام عون الدين بن الحسين، ويعود هو الآخر للفترة الأتابكية. 

وكان اليوم الثاني من سبتمبر 2014، الأكثر وحشية على صعيد التدمير، إذ تم هدم داعش المدرسة الزينية ثم الكمالية، وهي معروفة عند عامة أهل الموصل بمسجد شيخ الشط، وتعود للقرن السادس الهجري من الفترة الأتابكية.

كما تم تفجير المدرسة العزية، المنسوبة لعز الدين مسعود بن قطب الدين مودود، ومقام الإمام الباهر بن الإمام زين العابدين، وهو يعود للفترة الأتابكية، والمدرسة النورية نسبة للسلطان نور الدين زنكي، ومسجد الصاغرجي، وهو من الفترة العثمانية، بالإضافة لمسجد عيسى دده الكيلاني والمقبرة المجاورة له من الفترة الأليخانية. 

وفجر داعش تفجير مسجد الشيخ السطان أويس الجلائري، من الفترة الجلائرية-المملوكية بتاريخ 30 ديسمبر 2014، ومسجد المتصوف محمد الرضواني من الفترة العثمانية وكذلك مسجد الشيخ عجيل الياور ومسجد العامرية في اليوم نفسه. 

وخلال عام 2015 تم تدمير مسجد العباس من الفترة الأليخانية بتاريخ 5 فبراير، وكذلك مسجد الشيخ محمد الأباريقي من الفترة العثمانية بتاريخ 20 فبراير. ومقام الإمام إبراهيم من الفترة الأتابكية بتاريخ 11 مارس 2015.

ومما يؤسَف له، غياب التوثيق على هذا الصعيد. ويُحسب للمؤرخ والآثاري السوري- الفرنسي نقولا سيوفي، أنه كان أول من وضع سجلاً للكتابات العربية الإسلامية المنتشرة في مشيدات الموصل التاريخية أثناء عمله قنصلاً للحكومة الفرنسية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ويمثل المرجع الوحيد، علماً أن الكثير من الأحداث السياسية توالت على العراق منذ ذلك الوقت، وهدمت معظم المسيدات والآثار التي جاء سيوفي على ذكرها.

 

مخاوف من الترميم

يأمل المهتمون بآثار الموصل أن تشجع إعادة إعمار مسجد الشيخ الياور، ذات الطابع العائلي، السلطات العراقية المسؤولة، كي ترصد ميزانيات تعيد للموصل طابعها التاريخي الذي تميزت به منذ أكثر من ألف عام، حيث انحصر الاهتمام خلال السنوات الماضية بالمواقع الآشورية القديمة التي طالها التخريب والتدمير والسرقة، رغم الأهمية البالغة لذلك.

وإن كان الترميم الذي رأيناه للمسجد لا يبشر بخير، رغم أن المشرف عليه مهندس معماري كبير ومعروف هو أحمد يوسف العمري الموصلي، بسبب عدم إعادته إلى طرازه القديم ذي القباب المميزة والمئذنة الفريدة، فإن ما ينتظر من عمليات ترميم المعالم التراثية الأخرى هو أن تلتزم بشروط الترميم العلمية، بحيث تعاد الأبنية إلى سابق عهدها بقدر الإمكان، وهي مهمة كبيرة، نظراً لأن تدمير داعش لهذه المعالم كان كاملاً، وتلته عمليات تجريف واسعة النطاق حاولت أن تمحو أي أثر لهذه المباني. 

واللافت أن الحكومة العراقية لم تصدر حتى الآن أي بيان يتضمن إحصائية للمعالم التي دمرتها قوات داعش في الموصل، وما عرضناه في هذا التقرير، مبنٍ على إحصائية أعدها الدكتور عامر الجميلي.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".