عرف التاريخ الإسلامي -في الكثير من الفترات- صراعاً مستحكماً بين الفقهاء والصوفية، حيث نظر الفقهاء للدين باعتباره شريعة يجب أن تُنفذ بكل حزم وصرامة، بينما فهم الصوفية الإسلام بشكل روحاني باطني.
في هذا المقال، نستعرض مجموعة من المشاهد المهمة في تاريخ هذا الصراع، وقصص ثلاثة من أبرز الشخصيات الصوفية، الذين قُتلوا بطريقة بشعة على يد الساسة المتعاونين مع الفقهاء.
الحلاّج
ولد الحسين بن منصور الحلاج عام 244 هـ، ونشأ في مدينة واسط العراقية، وصحب الصوفي الشهير أبا القاسم الجنيد وغيره من كبار مشايخ الصوفية. خرج الحلاج بعد فترة من العراق، ويمم وجهه ناحية المشرق، وعمل على نشر الإسلام والتصوف في بلاد الهند وآسيا الوسطى.
اشتهر الحلاج عقب رجوعه إلى العراق، بأشعاره الصوفية، وعُرف بمنهجه الروحي الذي يعتمد على القول بالحلول والاتحاد (بمعنى حلول الله في النفس الإنسانية أو اتحاده بها)، وفي ذلك أنشد قصائده المشهورة، ومنها على سبيل المثال، قوله:
عجبتُ منك ومنِّي... يا مُنيةَ المُتمَنِّي
أدنيتني منك حتَّى... ظننتُ أنَّك أنِّي
وغبتُ في الوجد حتَّى... أفنيتَني بك عنِّي
وقوله:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا... نَحنُ روحانِ حَلَلنا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنَّا عَلى عَهدِ الهَوى... تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ... وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أثارت أفكار الحلاج بغض واستياء معظم فقهاء بغداد وأعلامها، فهاجموه وأنكروا عليه، كما اتهموه بالتصنع والنفاق. من ذلك ما نقله أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"، عن الأديب الشهير أبي بكر الصولي: "قد رأيت الحلاج وجالسته، فرأيت جاهلا يتعاقل، وغبيا يتبالغ، وفاجرًا يتزهَّد، وكان ظاهره أنه ناسكٌ صوفٌّي، فإذا علم أن أهل بلده يرون الاعتزال صار معتزليا، أو يرون الإمام صار إماميا، وأراهم أن عنده علما من إمامتهم، أو رأى أهل السنة صار سنيا، وكان خفيف الحركة مشعبذا، قد عالج الطب، وجرب الكيمياء، وكان مع جهله خبيثا، وكان يتنقل في البلدان".
أيضا، نقل شمس الدين الذهبي، في كتابه "سير أعلام النبلاء"، الكثير من الروايات التي تذم الحلاج وتتهمه بالكذب والتدليس على أتباعه. من ذلك قوله: "من مخاريق الحلاج أنه كان إذا أراد سفرا ومعه من يتنمس عليه ويهوسه، قدم قبل ذلك من أصحابه الذين يكشف لهم الأمر، ثم يمضي إلى الصحراء، فيدفن فيها كعكا، وسكرا، وسويقا، وفاكهة يابسة، ويعلم على مواضعها بحجر، فإذا خرج القوم وتعبوا، قال أصحابه: نريد الساعة كذا وكذا، فينفرد ويري أنه يدعو، ثم يجيء إلى الموضع فيخرج الدفين المطلوب منه...".
في السياق نفسه، أكد الذهبي على أن الحلاج ادّعى الربوبية والألوهية، فقال "كان الحلاج قد ادعى أنه إله، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت... وكان يقول للواحد من أصحابه: أنت نوح، ولآخر: أنت موسى، ولآخر: أنت محمد".
بعد فترة من الجدل والنقاش بين الفقهاء والحلاج، قام قاضي بغداد محمد بن داود بتقديم شكوى للخليفة العباسي المقتدر بالله، واتهم الحسين بن منصور فيها بالزندقة وادعاء الربوبية وممارسة السحر، فقام الخليفة على أثر ذلك بحبس الحلاج لسنين.
وفي 309 هـ، أمر الوزير حامد بن العباس بجلد الحلاج ألف جلدة، ثم أمر بصلبه، وقُطعت يداه ورجلاه، ثم أُحرقت جثته على مرأى أهل بغداد.
شهاب الدين السهروردي
ولد شهاب الدين أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك في مدينة سهرورد شمال غرب إيران عام 549 هـ، ونشأ بمراغة، ثم سافر إلى مدينة حلب السورية.
تحدث ابن خلكان، في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" عن العلوم الكثيرة التي حصلها السهروردي، فقال "كان أوحد أهل زمانه في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية بارعا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء فصيح العبارة، وكان علمه أكثر من عقله".
عُرف السهروردي بتصوفه وحكمته، كما اشتهر عنه ميله إلى الروحانيات والرموز، وفي ذلك ذكر سيد حسن نصر في كتابه "ثلاثة حكماء مسلمين"، أنه "قد استخدم الرموز الزرادشتية، كما استخدم آخرون كجابر بن حيان مثلاً الرموز الهرمسيّة للتعبير عن تعاليمه...".
وظهرت تلك الرمزيات في مؤلفات السهروردي المشهورة، منها على سبيل المثال "حكمة الإشراق" و"هياكل النور". كما اتضحت فلسفته الصوفية الباطنية في الكثير من الأشعار المنسوبة إليه، مثل:
إليك إشاراتي وأنت الذي أهوى... وأنت حديثي بين أهل الهوى يروى
وأنت مراد العاشقين بأسرهم... فطوبى لقلب ذاب فيك من البلوى
محبّوك تاهوا في الهوى وتولّهوا... وكل امرئ يصبو نحو الذي يهوى
ولمّا وردنا ماء مدين نستقي... على ظمأ منا إلى منهل النّجوى
اصطدم السهروردي بالفقهاء الشاميين في حلب، وفي ذلك يقول ابن خلكان: "وكان يُتهم بانحلال العقيدة والتعطيل ويعتقد مذهب الحكماء المتقدمين، واشتهر ذلك عنه، فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه...".
يحكي ابن أبي أصيبعة، في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" الظروف التي أحاطت بهذا الصدام، وكيف تطورت الأحداث حتى انتهت بمقتل السهروردي، فيقول: "...وناظر -أي السهروردي- بها -أي حلب- الفقهاء ولم يجاره أحد فكثر تشنيعهم عليه فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير بان له فضل عظيم وعلم باهر وحسن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه وصار مكينا عنده مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضرة بكفره وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك...".
بحسب ما يذكره ابن أبي أصيبعة، فإن صلاح الدين أيد رأي الفقهاء، وأرسل إلى ابنه برسالة جاء فيها "هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله ولا سبيل أنه يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه".
لمّا عرف شهاب الدين بأنه لا مفر من الموت، اختار أن يبقى في مكان وحده، وأن يُمنع عنه الطعام والشراب حتى يموت. وفي سنة 586 هـ قُتل، وكان لا يزال في السادسة والثلاثين من عمره.
عماد الدين النسيمي
ولد عماد الدين النسيمي في مدينة شماخي في أذربيجان عام 771 هـ. درس في شبابه الفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك، كما أتقن العربية والفارسية فضلًا عن الأذربيجانية.
تتلمذ النسيمي على يد فضل الله نعيمي الاسترآبادي مؤسس المذهب الحروفي -وهو مذهب صوفي باطني يبالغ في رمزياته الغامضة- وتزوج من ابنته فيما بعد، ليصبح واحداً من أشهر دعاة الحروفية في بلاد أذربيجان.
تغيرت الظروف بعد مقتل الاسترآبادي على يد ميران شاه بن تيمورلنك سلطان الدولة التيمورية في فارس، ذلك أن النسيمي قد رحل من أذربيجان، وسافر إلى الأناضول، وبعدها استقر في مدينة حلب. وبدأ بعدها في الدعوة للمذهب الحروفي على نطاق واسع.
وفي تلك الفترة أنشد قصائده الشهيرة التي تفوح منها رائحة القول بالحلول والاتحاد. ومن ذلك:
كل الموجودات أنا، وكل المرايا لا تحتويني
قد أكون اليوم نسيمياً، وقد أكون هاشمياً، وقد أكون قُرشياً
أنا الذي تتجلّى آياتي فيَّ، وكل آياتي لا تسعني
الكون والمكان هي آيتي
وذاتُكَ هي بدايتي
وأنت بهذه العلامة اعرفني، ولكن اعلم أنّ كلّ العلامات لا تسعني
أنا سرّ الكنوز، أنا المحيط، وكلّ الموجود أنا
وإنّ كلّ الكون الأعظم هو ذاتي واسمي
وكلّ هذا الكون لا يسعني
في سنة 820 هـ، تسببت علاقات النسيمي القوية بأمراء التركمان في الأناضول، بإثارة غضب السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي.
من جهة أخرى، فإن أشعار الشاعر الأذربيجاني أثارت الفقهاء المحافظين ضده. من هنا، لم يكن من الغريب أن نجد النسيمي يُساق إلى الحبس والمحاكمة. وقد قيل إن أحد الفقهاء الكارهين له، أهداه نعلاً ووضع فيه بعض آيات القرآن الكريم، ثم وشى به عند الحاكم، فلما قُبض على النسيمي وتم تفتيشه، عُثر على الآيات واتُهم بالكفر والزندقة.
وقيل إن الفقهاء اتفقوا على إعدامه، وإن مفتي حلب أكد على نجاسته حتى قال: "لو وقعت نقطة من دمه على جارحة من جوارحي لقطعتها".
يذكر الأديب السوري ممدوح عدوان المشهد الدموي لمحاكمة النسيمي في كتابه "حيونة الإنسان"، وكيف قام الجلادون بسلخ جلد الشاعر الصوفي بينما كان لا يزال حيا، وأنهم أعدموه بعدها أمام العامة، ثم قاموا بقطع أطرافه وأرسلوا بها إلى الأمراء التركمان الذين عُرفوا بتأثرهم بأفكار النسيمي.