عام 1587 تولّى الوالي العثماني جغالة زاده (سنان باشا) حُكم العراق، ونفذ خلال عهده العديد من الأعمال المعمارية، التي شملت أضرحة ومساجد ومدارس.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لهذه المنشآت، إلا أن التاريخ خلّد ذِكره بأمر آخر، هو تدشينه أول مقهى في تاريخ العراق، ذلك المقهى الذي عُرف لاحقًا بـ"مقهى جغالة زادة".
خان وقهوة
في 1591، أمر الوالي بإنشاء سوق عُرف بـ"خان جغالة"، واشتهر لاحقًا بـ"خان الصاغة"، وأقبل البغداديون على البيع والشراء فيه حتى صار مضرب الأمثال في الازدحام بين البغداديين.
بالقُرب من هذا الخان أنشأ سنان باشا أول مقهى في العراق حمل اسمه، رغم قرار السلطان مراد الثالث بمنع شُرب القهوة وإبطال المقاهي، ولكن يبدو أن هذه الأوامر لم تُطبّق بحذافيرها حتى أن والي بغداد نفسه أشرف على إنشاء المقهى.
يقول راسم الجميلي في كتابه "البغداديون أيام زمان وحتى سنة 1936"، إن السبب وراء إنشاء هذا المقهى، أن جغالة زاده أراد أن يجاري غيره من الوزراء في إسطنبول في تأمين المزيد من الدخل، عبر الانتفاع بإيجار المقاهي.
لاحقاً ستتطوّر الحرب العثمانية على القهوة. في عهد السلطان مراد الرابع (تولّى الخلافة في 1623) أصدر فرمان بتحريم شُرب القهوة وقطع رأس من يشربها، لاقتناع السلطان بأن جلوس الناس في المقاهي وتناولهم مشروبا منبّها كالقهوة، سيدفعهم للتباحث حول أمور الدولة، وربما التخطيط للتدخل فيها وتغيير ما لا يرضونه من سياسات السُلطان.
ولكن، لحُسن حظ الوالي سنان باشا، حقّق المقهى نجاحا كبيرا وسريعا، بعدما تسابق العراقيون على الجلوس فيه واحتساء المشروبات. هذا الإقبال أدّى إلى تزايُد أعداد المقاهي في بغداد فبلغت 184 مقهى عام 1883 و599 مقهى سنة 1934، حسبما أورد كمال لطيف سالم في كتابه "صور بغدادية".
وجاء في كتاب "بغداد" لمحمد مكيّة، أن أقدم إشارة وردتنا عن "مقهى جغالة"، وردت في "كلشن خلفا"، وهو كتاب باللغة التركية وضعه الأديب مرتضى أفندي زاده، الذي عاش في بغداد خلال القرن السابع عشر، كما أشار إليه الضابط البريطاني فيلكس جونس، الذي عاش في العراق بين 1840 و1855.
أما عن الشكل المعماري لـ"خان جغالة" وغيره من مقاهي بغداد الأولى، فإنها امتازت بفضاءات متسعة وخصائص إنشائية تجعلها قادرة على استيعاب الناس الذين يفدون إليها طلبا للراحة والنقاش معا خلال شربهم الشاي أو القهوة.
مصير المقهى الأول
في غياب أي شواهد تاريخية تدلُّ على وجوده، حاول راسم الجميلي في كتابه "البغداديون أيام زمان وحتى سنة 1936"، تحديد المكان الحديث للمقهى، فذكر أنه كان في خان الجمرك مستندا إلى وصف قاله الرحالة جونسون خلال زيارته إلى بغداد في القرن التاسع عشر.
ونقلاً عن جونسون، فإن المقهى كان يقع خلف المدرسة المستنصرية، وله باب يُقابل القادم مما كان يُعرف قديما بـ"سوق الخفافين"، الذي كان يقع فيه جامع الصاغة (جامع الخفافين).
وبحسب الجميلي، فإن أغلب هذه المعالم اندثرت تماما ولم يبقَ منها شيء ذو صِلة بالمقهى الأثري إلا الحديث عن لوح خشبي أزرق اللون متبقٍ من الباب، كُتب عليه باللون الأبيض أبيات شعرية وحتى هذا اللوح لم نعرف عنه إلا أخباره فلم يصلنا سليمًا.
المقهى الثاني
ثاني مقهى عرفه العراق كان مملوكا للوالي حسن باشا، الذي أنشأه عام 1601 قُرب جامع الوزير، وصفه الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا (Pedro Teixeira) خلال زيارته إلى بغداد سنة 1604، فقال: "يُستخدم في المقهى غلمان ملاح، ملابسهم فاخرة لتقديم القهوة وقبض الدراهم، وهناك الموسيقى تُعزف وغيرها من وسائل التسلية واللهو، هذا المقهى قريب من نهر دجلة، وفيه نوافذ ورواقات تطلُّ على النهر فتجعله منتزهاً لطيفاً جداً".
أما الآن، فموضع المقهى الثاني أصبح جزءاً من شارع المأمون.
فراغ وغلمان
في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، أكد علي الوردي، أنه عقب إنشاء "مقهى جغالة" ثم "مقهى حسن باشا"، توالَى تأسيس المقاهي في أنحاء بغداد ومنها امتدّت إلى باقي مُدن العراق.
واعتبر الوردي أن شيوع المقاهي السريع في العراق "أحد مظاهر ضعف الحياة المنزلية، فمعظم الرجال فضّلوا قضاء وقت فراغهم في المقاهي بدلاً من بيوتهم".
وأضاف أن "المقاهي في أول أمرها لا يرتادها إلا المستهترون وطلاب اللهو من الرجال، ومما يذكر أن بعضها كان يستخدم الغلمان الملاح لتقديم القهوة إلى الزبائن وتعزف فيها الموسيقى".
وقال الوردي، إن العراقيين، لفترة طويلة، نظروا للجلوس على المقهى على أنه إحدى عادات سوء الخُلق، لذا فإن رجال الدين كانوا يرفضون الجلوس فيها.