صورة أرشيفية لامرأة عربية مع أطفالها في مدينة الأحواز، عاصمة إقليم خوزيتان العربي في إيران
صورة أرشيفية لامرأة عربية مع أطفالها في مدينة الأحواز، عاصمة إقليم خوزيتان العربي في إيران

تمتد الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مساحة 1.6 مليون كيلومتر مربع، ويعيش فيها أكثر من 80 مليون نسمة، وينتمي نصف هذا العدد للعرقية الفارسية، بينم يتوزعا النصف الآخر بين أقليات إثنية متعددة، كالأذرية والتركمانية والبلوشية والكردية والعربية.

 

الأصل التاريخي للوجود العربي

تذكر العديد من المصادر التاريخية أن القبائل العربية عرفت الهجرة إلى الأراضي الفارسية منذ فترة مبكرة من التاريخ.

بعد الإسلام، تمكن العرب من الانتصار على جيوش الإمبراطورية الفارسية الساسانية، وأدى ذلك لتزايد وتيرة الهجرات العربية إلى الأراضي الإيرانية، على سبيل المثال يتحدث الجغرافي ياقوت الحموي في القرن السابع الهجري في كتابه "معجم البلدان"، عن مدينة قم المقدسة في إيران، فيذكر أن قبائل الأشاعرة اليمنيين هم الذين بنوها وعمروها بعد أن انتقلوا للسكن فيها، مبيناً: "هي مدينة إسلامية مستحدثة لا أثر للأعاجم فيها". 

إذا كانت بعض القبائل العربية هاجرت إلى عمق الأراضي الفارسية، فإن هناك قبائل أخرى اختارت أن تهاجر وتستقر على السواحل الفارسية الغربية المطلة على الخليج العربي/ الفارسي، وعُرف هؤلاء في المصطلح العربي باسم "الحولة"، أي المتحولين من السواحل الغربية للخليج إلى سواحله الشرقية، بينما عُرفوا في إيران باسم "الهولة" -بضم الهاء وكسر الواو وفتح اللام- لأن حرف الحاء لا يُنطق في اللغة الفارسية، فاستُبدل بحرف الهاء.

حالياً، تعيش الأغلبية الغالبة من عرب الهولة في المحافظات الجنوبية في إيران، ولا سيما كل من خوزستان وبوشهر وهرمزغان. وتتمتع تلك المناطق بوفرة في ثرواتها النفطية والمائية، حيث يُستخرج منها ما يزيد عن 80% من النفط الإيراني، و90% من الغاز، كما تمر بها مجموعة من الأنهار التي توفر المياه العذبة.

 

علاقة متوترة مع طهران

تُعدّ قضية العلاقة بين العرب الإيرانيين والدولة، أحد الموضوعات الجدلية التي تُثار كثيراً على الساحة السياسية من حين لآخر. وترتبط بشكل رئي- بالخلاف حول الهوية الجغرافية والثقافية لمنطقة خوزستان.

بحسب وجهة النظر العربية، فإن تلك المنطقة تُعرف باسم الأهواز أو عربستان -أي أرض العرب، وقامت فيها الدولة العربية المشعشعية التي وقفت كحاجز بين الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية لفترة طويلة.

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي سقطت الدولة المشعشعية وقامت الدولة الكعبية على أنقاضها، وفي سنة 1925 تم القضاء على الدولة الكعبية وانتهى الحكم العربي للمنطقة على يد النظام الشاهنشاهي الفارسي.

يذكر أصحاب هذا الرأي، أن أهل الأهواز عانوا كثيراً في ظل الحكم البهلوي، وفرحوا كثيراً بالثورة الإسلامية عام 1979، وظنوا أنها ستعيد إليهم بعض حقوقهم المسلوبة. وساند رجل الدين الأهوازي محمد طاهر الخاقاني الثورة وأيدها، لكنه لم يلق منها إلا التضييق والتهميش عقب انتصارها ووصولها للسلطة.

يرى المواطنون الإيرانيون العرب أن السلطة الإيرانية الحالية تتعمد تهميشهم وتجاهل مصالحهم منذ سنوات، وظهر هذا التجاهل بشكل واضح في العديد من الأمور، منها محاولة العمل على طمس الهوية الثقافية العربية لأهالي المنطقة، ودفعهم للاندماج القسري في الثقافة الفارسية السائدة.

كما ظهر هذا التجاهل في عدم الاهتمام برفع المستويات التعليمية في المنطقة، والتقاعس عن تنفيذ أي مشاريع تنموية حقيقية، وفي تعسّف طهران مع أهالي الإقليم في مشاريع تغيير مسارات الأنهار وتحويلها إلى المحافظات الفارسية الموجود في عمق الدولة الإيرانية.

بحسب مختصين، تسببت تلك المشاريع في تناقص منسوب المياه بشكل كبير في المنطقة، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الملوحة في التربة، بالتالي تلف الكثير من المنتجات الزراعية، وتناقص منسوب مياه الشرب، وتلوث الأنهار، وانتشار الأمراض والعدوى بين السكان.

أدى كل ذلك لهجرة الكثير من العرب من منطقة خوزستان وانتقالهم للعيش في أقاليم أخرى.

في السياق نفسه، يرى بعض الناشطين العرب أن طهران تتعمد تقليل عدد عرب خوزستان في جميع الإحصائيات السكانية التي تمت في السنوات السابقة، وبناء على ذلك يتم تهميش ما يقرب من 11 مليون عربي يسكنون في المحافظات الجنوبية الغربية لإيران، وتكتفي بعض المصادر الرسمية بتحديد عدد العرب بما يقارب الـ 2% من التعداد الكلي للمواطنين الإيرانيين (أي ما يزيد قليلاً عن 1.5 مليون نسمة).

يحاول العرب الإيرانيون رفع مطالبتهم وشكاواهم عبر وسائل الإعلام، على سبيل المثال أشار خطيب الجمعة لأهل السنة في زاهدان، مولوي عبد الحميد في إحدى خطبه الشهر الماضي، إلى تلك المشكلات بقوله: "العديد من القوميات التي تقطن المنطقة ليس لديها هويات. بينما هم ينتمون إلى هذا الوطن وهذه التربة. فهم وآباؤهم ولدوا هنا في هذه الأرض. والعديد منهم حاربوا من أجل هذه الأرض"، ودعا السلطات الإيرانية إلى حل مشاكل الأقليات المظلومة.

أيضاً، في سنة 2013 شكل الآلاف من أهالي خوزستان سلسلة بشرية على ساحل نهر الكارون للاحتجاج على تغيير مسار النهر، "وقدم آلاف الشباب والشابات يحملون لافتات باللغات العربية والفارسية والإنجليزية تعبر عن امتعاضهم واحتجاجهم على الكوارث البيئية الناتجة عن نقل مياه الكارون وتلوث مياه الشرب".

في بعض الأحيان، تحولت المطالبات السلمية إلى مظاهرات واحتجاجات أخذت أشكالاً عنيفة، ففي سبتمبر 2018، أطلق مسلحون النار على عرض عسكري في خوزستان فسقط بعض القتلى من صفوف الحرس الثوري الإيراني، وفي 2022 قامت السلطات الإيرانية بقطع الإنترنت عن الإقليم خوفاً من استخدامه في تسهيل حركة الاحتجاجات.

على الجانب الآخر، تؤكد الحكومة الإيرانية وقوفها على مسافة واحدة من جميع الأقليات الإثنية الموجودة في إيران، وعلى حرص طهران على مراعاة التنوع الثقافي الموجود في البلاد.

وترفض الاعتراف بتهميش العرب واللغة العربية، مستندة في ذلك إلى المادة السادسة عشر من الفصل الثاني من الدستور الإيراني، التي أكدت على أهمية واعتبارية اللغة العربية، وأنها اللغة الرسمية الثانية في البلاد بعد اللغة الفارسية.

ورد في تلك المادة: "بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هي العربية، وأن الأدب الفارسي ممتزج معها بشكل كامل، لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية".

أيضاً، يستشهد الجانب الإيراني بالعديد من الشخصيات العربية التي تمكنت من الوصول لأعلى المراتب في الدولة، مثل الأدميرال علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي حظي بمكانة مهمة في النظام السياسي الإيراني في السنوات السابقة، وعُرف بقربه من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي.

مؤخراً، لعب شامخاني دوراً مهماً في المحادثات التي خاضتها طهران مع الدول العربية الخليجية، حيث مثّل طهران في محادثات بكين التي أسفرت الإعلان عن قرب استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، كما أدار مجموعة من المباحثات رفيعة المستوى في الإمارات.

 

الهوية الثقافية والمذهبية لعرب إيران

يتميز عرب خوزستان بهوية ثقافية تميزهم عن باقي مناطق إيران. تتحدث الدكتورة هبة أحمد ياسين في دراستها "الأزياء التقليدية للرجال في إيران"، عن الأزياء الشائعة بين أهالي خوزستان، فتذكر أن لباسهم يتشابه إلى حد بعيد مع الأزياء التقليدية في شبه الجزيرة العربية، إذ يتألف ملبس الرجل الأحوازي من الدشداشة أو الثوب الأبيض والبشت المصنوع من الصوف أو القطن، وتتعدد ألوانه بين الأسود والمستردة والبني ولون وبر الجمل الطبيعي.

على صعيد الاحتفالات الشعبية، يعرف المجتمع الأحوازي بعض الأعياد والمناسبات غير المألوفة في عموم المحافظات الإيرانية، ويُعدّ احتفال قرقيعان أهم تلك الأعياد على الإطلاق. 

يحين موعد هذا الاحتفال في منتصف شهر رمضان بعد الإفطار، ويقال إن أصل تلك المناسبة يعود لذكرى مولد الإمام الحسن بن علي في السنة الثالثة من الهجرة.

بحسب التقاليد المتوارثة فإن المسلمين كانوا يذهبون إلى منزل علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء ويقولون "قرّة عين، قرّة عين" ليباركوا لهم المولود، ومن تلك الكلمات اُشتقت كلمة قرقيعان.

مما يُذكر أن احتفال قرقيعان لا يزال قائماً في العديد من المناطق الخليجية، الأمر الذي يؤكد على الصلات الوثيقة التي تربط بين عرب الأحواز وعرب شبه الجزيرة العربي، وما يدعم تلك الصلات أن عرب الأحواز يتحدثون باللهجة العربية الأحوازية، وهي شبيهة -إلى حد بعيد- باللهجات العربية المستخدمة في جنوبي العراق.

فيما يخص المطبخ الأحوازي، فإنه يتشابه كثيراً مع المطبخ العربي الخليجي، إذ يصنع الأحوازيون بعض الأطباق الخاصة المرتبطة بعدد من المناسبات الدينية. ففي شهر رمضان مثلاً يهتم عرب الأحواز بطبخ السمبوسة، والكبة، والتشريبة. كما يعدّون طبق "اللقيمات" وهو "نوع من الحلوى تشبه الكوسة والبامية التي تُقدم مع القهوة المرة".

فيما يخص المذهب الديني، تعتنق أغلبية عرب الأحواز المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري. وتمارسو الطقوس الشيعية الخاصة بمراسم عاشوراء وغيرها من المناسبات المرتبطة بمواليد ووفيات الأئمة. رغم ذلك تحدثت بعض التقارير عن تحول بعض العائلات الأحوازية الشيعية إلى مذهب أهل السنة والجماعة في الفترة الأخيرة، وهو ما تم تفسيره بأنهم -أي الأحوازيين- "باتوا يحاولون التنصل من مذهبهم نكاية بالحكومة الشيعية".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".