اهتم العراقيون القدماء في بلاد الرافدين بالدين وعرفوا مجموعة كبيرة من الآلهة والمعبودات. كانت الإلهة العراقية إنانا/ عشتار واحدة من أشهر الآلهة وأكثرهم نفوذاً وقوة. شاعت عبادة عشتار في شتى أنحاء الشرق الأدنى القديم، كما تمكنت من التأثير في منظومة الأفكار الدينية في كل من الحضارتين اليونانية والرومانية.
في العصر الحديث، رمزت عشتار إلى عراقة بلاد الرافدين عندما اختيرت النجمة الثمانية -وهي الرمز القديم لعشتار- لتتوسط العلم العراقي في حقبة عبد الكريم قاسم 1959- 1963م. كذلك تُعدّ بوابة عشتار -المحفوظة في متحف "بيرغامون" في العاصمة الألمانية برلين- أحد أهم الآثار التي تشهد على عظمة البنّائين العراقيين القدماء.
رمز الأنوثة والأم الكبرى
يعتقد كثير من علماء الأنثروبولوجيا أن التاريخ المبكر للجنس البشري قد شهد تفوقاً ملحوظاً للعنصر الأنثوي على العنصر الذكوري. اصطبغت المجتمعات الإنسانية في تلك العصور السحيقة بالصبغة الماتريركية/ الأمومية لقرون طويلة. ومع اكتشاف الزراعة والوصول إلى حالة الاستقرار تبدّل شكل المجتمع ليتسلّم الذكور دفة القيادة، ولتغلب على المجتمعات الصفة البطريركية/ الأبوية.
في العصر الماتريركي، عرف الإنسان القديم عبادة العديد من الآلهة الإناث، وصنع لهن الكثير من التماثيل المختلفة في الشكل والحجم. ويذكر الباحث السوري فراس السواح في كتابه "موسوعة تاريخ الأديان" أن الإلهة إنانا/ عشتار كانت واحدة من أعظم تلك الآلهة.
في العصر السومري، عرف العراق عبادة الإلهة إنانا/ عشتار على نطاق واسع. وكان مركز عبادتها في مدينة أوروك التي تقع على مسافة 30 كيلومتراً تقريباً شرقي السماوة في جنوب العراق. يذكر الباحث الروماني ميرسيا إلياد في كتابه "تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية" أن عشتار كانت أحد أضلاع مثلث الآلهة الكوكبية الذي شاعت عبادته في تلك الأزمنة. كان هذا المثلث يتكون من الإله نانا إله القمر، والإله أوتو إله الشمس، فضلاً عن عشتار ربّة النجم فينوس/ الزهرة.
كانت الصفة المميزة للإلهة عشتار هي التركيب الشديد في شخصيتها وتعددية جوانبها. يشرح السواح: "من الواضح أن أنواعاً مختلفة أصلاً من الآلهة كانت مندمجة فيها... وكان يجري تصورها في العادة فتاة شابة قوية الشكيمة ومتحكمة إلى حد ما، وفي سن الزواج أو بصورة أخرى عروساً صغيرة".
من الملامح المميزة لعبادة إنانا/ عشتار أنها ارتبطت بشكل وثيق بطقوس ما يُعرف باسم "البغاء"/ الجنس المقدس. في كتابه "لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة" يُعرّف فراس السواح "البغاء المقدس" بأنه "ممارسة الجنس بين أطراف لا يجمعهم رابط شخصي، ولا تحركهم دوافع محددة تتعلق بالتوق الفردي لشخص بعينه، أو تتعلق بالإنجاب وتكوين الأسرة، هو ممارسة جنسية مكرسة لمنبع الطاقة الكونية مستسلمة له، منفعلة به، ذائبة فيه، كالأنهار التي تصدر من المحيط وإلى المحيط تعود. وكانت عشتار هي البغيَّ المقدسة الأولى؛ لأنها مركز الطاقة الجنسية الشاملة التي لا ترتبط بموضوعٍ محدد. وليس انغماسها في الفعل الجنسي الدائم إلا تعبيراً، على مستوى الأسطورة، عن نشاط تلك الطاقة الذي لا يهدأ؛ لأن في سكونه همودًا لعالم الحياة".
يرى كثير من الباحثين أن تلك الطقوس كانت تجري في المعبد المكرس لعبادة عشتار في مدينة أوروك. ويستدلّون على ذلك بالنقوش الكثيرة التي وجدت على سقوف هذا المعبد، والتي تظهر فيها أوضاع جنسية متنوعة، بين الرجال والنساء.
كما ورد في النصوص الأثرية المنسوبة إلى عشتار ما يؤيد هذا الاعتقاد. جاء على لسانها "أنا العاهرة الحنون" و"أنا مَن يدفع الرجل إلى المرأة، ويدفع المرأة إلى الرجل".
من المهم هنا أن نفهم أن تلك الطقوس كانت تتم بالاتساق مع نظرة الإنسان القديم إلى الطبيعة والكون. بحسب عالم الأنثروبولوجيا الإسكتلندي جيمس فريزر في كتابه "الغصن الذهبي" فإن المجتمعات القديمة اعتقدت بوجود اتصال مباشر بين الطقوس التي يؤديها البشر وسيرورة الحياة. ومن ثم كان من الطبيعي أن تعمل المجتمعات الزراعية على ممارسة بعض الطقوس الجنسية الاحتفالية كنوع من تنشيط خصوبة التربة والأرض. ومن هنا أخذت عشتار مكانتها في بلاد الرافدين قديماً باعتبارها ربّة الحياة والخصوبة.
إنانا وعشتار وعشتروت: مضمون واحد وأسماء متعددة
لم تقتصر عبادة عشتار على مكان بعينه أو منطقة محددة بل شاعت عبادتها في العديد من أنحاء العالم القديم. كانت في بلاد سومر تُعرف باسم إنانا، أما في بابل فعُرفت بعشتار. وكذلك سُميت بعشتروت عند الفينيقيين، وعُرفت في بلاد كنعان باسم عناة. من المثير للاهتمام، أن تأثير عشتار تمكن من تجاوز الحيز المكاني لترتبط وتتماهى ببعض الآلهة المعبودة شمالي البحر المتوسط مثل أفروديت عند اليونان، وفينوس عند الرومان.
من الأدلة التي توضح قوة تأثير عشتار في الشرق الأدنى القديم أنها ذُكرت -تصريحاً وتلميحاً- في بعض النصوص المقدسة في الأديان الإبراهيمية. على سبيل المثال ورد ذكر عشتار عدة مرات في سفر الملوك الأول في سياق توجيه اللوم لبني إسرائيل لعبادتهم بعض الآلهة الوثنية. أُشير إليها أيضاً في سفر إرميا تحت اسم ملكة السماوات "الأَبْنَاءُ يَلْتَقِطُونَ حَطَبًا، وَالآبَاءُ يُوقِدُونَ النَّارَ، وَالنِّسَاءُ يَعْجِنَّ الْعَجِينَ، لِيَصْنَعْنَ كَعْكًا لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ، وَلِسَكْبِ سَكَائِبَ لآلِهَةٍ أُخْرَى لِكَيْ يُغِيظُونِي".
من جهة أخرى يرى بعض الباحثين أن العهد الجديد أشار إلى عشتار في سفر الرؤيا عندما وصفها بأنها "الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة. التي زنى معها ملوك الأرض وسكر سكان الأرض من خمر زناها…". وكذلك ورد في تفسير الطبري ما يدل على أن المسلمين الأوائل عرفوا عشتار بوصفها إحدى الآلهة الوثنية التي كان لها حضور بين العرب في الجاهلية. مما يوضح ذلك ما رُوى عن الصحابي عبد الله بن عمر أنه كان يقول كلما رأى شروق كوكب الزهرة: "طلعت الحميراء فلا مرحباً ولا أهلاً"، فعقّب أحدهم بقوله: "سبحان الله، نجم مسخر سميع مطيع"، فأجابه ابن عمر: "ما قلت إلا ما سمعت عن رسول الله،" وذلك بحسب ما ورد في تفسير ابن جرير الطبري.
عشتار وتموز: من أقدم قصص الحب
تُعد قصة عشتار وتموز واحدة من أشهر القصص التي خلدت سيرة الإلهة العراقية على مر القرون. تذكر القصة أن الراعي تموز عشق الإلهة عشتار وطلب أن يتزوجها. وافقت عشتار واختارت تموز من بين الكثير من الذكور الذين تقدموا لخطبتها وعاشا معاً في بيتهما الجميل المسمى "بيت الحياة". في أحد الأيام أرادت عشتار أن تنزل تحت الأرض لتزور أختها أريشكيجال ملكة العالم السفلي، وربما رغبت أن تحكم هذا العالم أيضاً. بحسب الأسطورة تمكنت أريشكيجال من القبض على عشتار وقتلتها، وتذكر النصوص القديمة المصاعب التي تعرض لها العالم حينها: "لما نزلت السيدة عشتار إلى الأرض التي لا يعود منها من يدخلها لم يعل الثور البقرة، ولم يقرب الحمار الأتان. والفتاة في الطريق لم يقترب منها رجل؛ ونام الرجل في حجرته، ونامت الفتاة وحدها. وأخذ السكان يتناقصون، وارتاعت الآلهة حين رأت نقص ما ترسله إليها الأرض من القرابين...". تدخلت الآلهة عندها لتحل ذلك الموقف الصعب فأقنعت أريشكيجال بأن تترك أختها لتصعد إلى الأرض مقابل أن ترسل عشتار بديلاً لها. وصعدت عشتار وبحثت عن البديل، ولمّا وصلت إلى "بيت الحياة" وجدت زوجها تموز يعيش سعيداً ولا يبدو على ملامحه الحزن لفقدها. قررت عشتار عندها أن يكون هو البديل، واقتادته الشياطين لمملكة العالم السفلي. بعد فترة، ندمت عشتار على قرارها وبكت كثيراً حزناً على فراق حبيبها. وفي النهاية اجتمعت الآلهة وقررت أن يمكث تموز ستة شهور في العالم السفلي، وأن يصعد بعدها إلى الدنيا لمدة ستة شهور أخرى لتحل محله أخته جشتي- نانا. تُعدّ تلك القصة واحدة من أعظم القصص الأسطورية التي خلدتها النصوص العراقية القديمة، ويصفها المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" بأنها "قصة رائعة خليقة بالإعجاب، ترمز في صورة جميلة ممتعة إلى موت التربة وعودتها إلى الحياة في كل عام، وإلى ما للحب من قدرة دونها كل قدرة".