تتعدّد مقامات الولاية الروحية عند الصوفية، ويعتبر مقام "القطب" أعلى مرتبة يصل إليها الصوفي، وهو المقام الذي عَرّفه محيي الدين ابن العربي في كتابه "المنزل القطب ومقاله وحاله"، بأنه: "مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق، عليه مدار العالم، له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق، بالخير والشر على حد واحد، لا يترجح واحد على صاحبه، وهو عنده لا خير ولا شر، ولكن وجود ويظهر كونها خيراً وشراً في المحل القابل بحكم الوضع وبالعرض والعقل عند بعض العقلاء".
يعرف الصوفية أربع شخصيات تاريخية سُميت باسم "الأقطاب الأربعة"، واحد من هؤلاء الأقطاب، الولي العراقي عبد القادر الجيلاني، المدفون في منطقة باب الشيخ من جهة الرصافة في بغداد.
من هو عبد القادر الجيلاني؟ وما هي أشهر الطرق الصوفية المنسوبة إليه حالياً؟ ولماذا تنازعت العراق وإيران حول أصوله؟
القطب الحنبلي صاحب الكرامات الباهرة!
هو عبد القادر بن موسى بن عبد الله، المشهور بعبد القادر الجيلاني، الحنبلي المذهب. ولد في سنة 470 للهجرة ، وتوفي في سنة 561 للهجرة بمدينة بغداد.

مُدح الجيلاني من جانب العديد من علماء السنة عبر القرون، فوصفه ابن تيمية الحراني في "مجموع الفتاوى"، بأنه "من أعظم مشائخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية"، وتحدث عنه شمس الدين الذهبي في كتابه "سيَر أعلام النبلاء"، فقال "إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح ديّن خيّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة".
أما ابن كثير فقد ذكر شيئاً من ترجمته في كتابه "البداية والنهاية"، فقال عنه: "فيه زهد كبير، وله أحوال صالحة ومكاشفات (..)كان من سادات المشايخ الكبار".
تحدثت العديد من المصادر الصوفية عن الكرامات التي وقعت لعبد القادر الجيلاني، ومن ذلك نقل عبد الوهاب الشعراني في كتابه "الطبقات الكبرى" عن أم عبد القادر الجيلاني، قولها: "لمّا وضعت ولدي عبد القادر كان لا يرضع ثديي في نهار رمضان ولقد غم على الناس هلال رمضان، فأتوني وسألوني عنه فقلت لهم إنه لم يلتقم اليوم له ثدياً، ثم اتضح أن ذلك اليوم كان من رمضان واشتهر ببلدنا في ذلك الوقت، أنه ولد للأشراف ولد لا يرضع في نهار رمضان"!

يذكر الشعراني أيضاً أن الجيلاني قضى في شبابه فترة طويلة في صحراء العراق، وهي الفترة التي لم يعرف فيها رفيقاً غير الخضر - العبد الصالح الذي وردت أخبار قصته مع النبي موسى في سورة الكهف-، كما يورد العديد من الأخبار التي تشير إلى سعة علم الجيلاني، منها قوله: "كانت فتواه -أي الجيلاني- تُعرض على العلماء بالعراق، فتعجبهم أشد الإعجاب، فيقولون سبحان من أنعم عليه.
في كلّ ما سبق، تحضر المبالغة في الأوصاف والكرامات، بشكل يؤسس لمكانة الجيلاني في الوجدان الصوفي الجمعي.
"الكسنزانية" وجه "القادرية" المعاصرة
من بين العديد من الطرق الصوفية المنسوبة للقطب الجيلاني داخل العراق وخارجه، وتُعدّ الطريقة الكسنزانية التي ظهرت في إقليم كردستان العراق أواخر القرن التاسع عشر الميلادي أهم وأشهر تلك الطرق على الإطلاق.
تٌنسب الكسنزانية إلى الشيخ عبد الكريم حسين الشاه الكسنزان الحسيني، والاسم مُشتقّ من الكلمة الكردية "الكسنزان" والتي تعني "لا يعلم عنه أحد"، وهو الجواب الذي سمعه الناس عند سؤالهم عن الشيخ بعد صعودة إلى الجبل للخلوة..

تنتشر الطريقة القادرية الكسنزانية -حالياً- بشكل رئيسي في العراق وإيران، كما أوجدت لنفسها موضع قدم في كل من باكستان والأردن والسودان والهند وماليزيا وإندونيسيا.
يُردّد أعضاء الطريقة الكسنزانية الأدعية والتسبيحات والأوراد المنسوبة للقطب الجيلاني، كما أنهم يتميزون بطول شعورهم، يتحدث أحد قيادات الطريقة مبيناً سبب حرص الكسنزانيين على إطالة الشعر، فيقول: "...يُعتبر طوله مقدساً جداً وأسباب اطالته لكون أن النبي محمد كان يطيل شعره، وكذلك أحفاده الحسن والحسين والصحابة (..) هذا الشعر هو نور في القبر بعد وفاتنا".
رئيس تحالف السيادة في ضيافة شيخ الطريقة الكسنزانية
— حزب السيادة (@alseyadaiq) April 12, 2023
زار رئيس #تحالف_السيادة الشيخ #خميس_الخنجر زعيم الطريقة القادرية الكسنزانية الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان، وقد جرى خلال اللقاء استعراض مستجدات الساحة السياسية ومناقشة آليات النهوض بالواقع الاجتماعي والحفاظ على وحدة الكلمة pic.twitter.com/kTvbnDjDRO
إلى جانب ذلك، يعرفون بجملة من الممارسات الغريبة، منها أكل الزجاج وإدخال السكاكين في الجسد، واللعب بالأفاعي والثعابين، وابتلاع أمواس الحلاقة، إضافة إلى الضرب بالمطرقة والخنجر على الرأس، وهي المُمارسات التي يرون فيها شكلاً من الكرامات.
الجيلاني في قلب الخلاف العراقي الإيراني
يستمر الخلاف حول أصول الشيخ عبد القادر الجيلاني، وفيما تتفق المصادر التاريخية على ولادته في مدينة جيلان، يثار الخلاف على موقع تلك المدينة.
سادَ اعتقاد في القرون السابقة أن (جيلان) تلك المدينة الواقعة شمال إيران بحر قزوين، وهو ما ترفضه الآراء الحديثة التي تؤكد أن الشيخ ولد جيلان الواقعة بالقرب من المدائن القديمة، والتي توجد الآن على بعد 40 كيلو متر جنوبي العاصمة العراقية بغداد.

يقدّم كتاب "جغرافية الباز الأشهب" للمؤرخ، جمال الدين فالح الكيلاني، جانباً من سيرة الخلاف السياسي بين البلدين على أصول الجيلاني، ومن ذلك مطالبة الرئيس العراقي الأسبق، أحمد حسن البكر، نهاية ستينيات القرن العشرين، إيران بإعادة رفات الخليفة هارون الرشيد من مدينة مشهد لما يشكله من رمزية لبغداد والحضارة العباسية، وهو الطلب الذي قوبل بالرفض مصحوباً بمطالبة برفات الجيلاني لاعتقادهم بولادته في جيلان الإيرانية.