يذكر ابن تيمية الحراني في كتابه "مجموع الفتاوى"، أن مدينة البصرة شهدت الولادة المبكرة للتصوف الإسلامي في القرن الثاني الهجري. يقول "وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة. فإنه بعد موت الحسن -يقصد الحسن البصري- وابن سيرين بقليل... ظهر أحمد بن علي الهجيمي... ومن اتبعه من المتصوفة وبنى دويرة للصوفية، هي أول ما بُني في الإسلام وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم الفقرية، وكانوا يجتمعون في دويرة لهم. وصار لهؤلاء من الكلام المحدث طريق يتدينون به مع تمسكهم بغالب الدين...".
وتنتشر الكثير من الطرق الصوفية في العراق حالياً، فيما تُعدّ الطريقة القادرية الكسنزانية من أشهرها.
ما معنى الكسنزانية؟
تُنسب الطريقة القادرية الكسنزانية إلى اثنين من كبار شيوخ الصوفية الذين عرفتهم العراق عبر تاريخها.
الشيخ الأول هو عبد القادر الجيلاني، والمدفون في الحضرة القادرية الواقعة في منطقة باب الشيخ من جهة الرصافة من بغداد. ويُعدّ واحداً من أشهر الصوفية الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية على الإطلاق، وجرى تنصيبه منذ قرون كواحد من الأقطاب الأربعة الكبار عند الصوفية.
أما الشيخ الثاني فهو عبد الكريم حسين الشاه، الذي ينحدر من نسل الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
وظهرت الطريقة الكسنزانية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي في كردستان العراق، باعتبارها إحدى الطرق الصوفية المتفرعة عن الطريقة القادرية. ويذكر محمد بن عبد الكريم الكسنزان الحسيني في "موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان"، أن اسم الكسنزانية يرجع إلى الشيخ عبد الكريم حسين الشاه.
تذكر تقاليد الطريقة أن اسم كسنزاني يرجع بالأصل إلى الكلمة الكردية "الكسنزان" التي تعني "لا يعلم عنه أحد"، وكان السبب في ارتباط تلك التسمية بالشيخ عبد الكريم أن الناس لمّا سألوا عنه أثناء صعوده للجبل للخلوة، فإن الجواب الذي كان يسمعونه دائماً كان "لا يعلم عنه أحد"، لذلك عُرف الشيخ بالكسنزان. وبالتبعية عُرفت طريقته بالكسنزانية تمييزاً لها عن باقي الطرق التي ترجع في أصولها للطريقة القادرية.
معالم الطريقة
تنتشر الطريقة القادرية الكسنزانية -حالياً- بشكل كبير في العراق وإيران، كما أنها أوجدت لنفسها موضع قدم في باكستان والأردن والسودان والهند وماليزيا وإندونيسيا.
في سنة 2020، تولى الشيخ شمس الدين محمد نهرو محمد عبد الكريم الكسنزان الحسيني مشيخة الطريقة الكسنزانية بعد وفاة والده في إحدى مستشفيات الولايات المتحدة الأميركية.
واهتم الشيخ الجديد بالمشاركة في العمل العام، وبالتفاعل مع الأحداث السياسية التي يشهدها العراق. لذلك قام بتأسيس ما يُعرف بـ"تجمع الوحدة الوطنية العراقي" الذي عرف نفسه باعتباره تجمعاً "يؤمن بأن العراق بلد الحضارات والتعايش السلمي مع كافة الشعوب المحبة للأمن والسلام ... ويؤمن بالشورى إيماناً راسخاً للوصول إلى أفضل الصيغ في التعامل وترجيح الآراء وهذه الديمقراطية الحقة... كما يؤمن بضرورة بناء العراق بناءً عصرياً علمياً متطوراً مع الحفاظ على الخصوصية الوطنية لأبناء البلد...".
من جهة أخرى، شرح الشيخ شمس الدين الكسنزاني أهم المعالم المميزة لطريقته فقال: "الطريقة ليست طقساً خاصاً ولا مجموعة طقوس بل هي منهج في الحياة قوامه النصح والإرشاد وحث الناس على التحلي بالأخلاق الحقيقية للإسلام والتحلي بالأخلاق المحمدية التي تدعو إلى المحبة والسلام والتعايش مع الآخرين بشكل حسن. أما عن لون أتباعها، وهل هم من الكرد أم العرب، فالجواب هو ما تراه العين، فمشاهدة أي جمع كسنزاني بشكل عشوائي ومن دون سابق تنظيم، سيرى المطلع أن العربي والتركماني والسني والشيعي في حلة ذكر واحد وفي صف صلاة واحد".
ويؤكد الشيخ أنه "لا توجد طقوس خاصة في الطريقة وإنما هي أوراد وأذكار وإنشاد صوفي، وهذه موجودة في كل الطرق الصوفية وعند كل المحبين لحضرة النبي محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن كان كل المسلمين مأمورين بذكر الله تعالى والتسبيح باسمه، وإن اختلفت الصياغات من شخص لآخر ومن طريقة لأخرى".
من الملاحظات المهمة على الطريقة الكسنزانية أنها تمكنت من الانتشار بشكل كبير في إيران. وعلى الرغم من عدم توافر إحصائيات دقيقة عن أعداد المتبعين، فإن بعض التقارير ذكرت وجود ما يقرب خمسة ملايين متبع لتلك الطريقة في إيران.
في الحقيقة، توجد بعض الشواهد التي تبيّن قوة الوجود الكسنزاني في إيران، منها ما وقع في يوليو سنة 2020 عندما اقتحم آلاف الإيرانيين منفذ "باشماخ" الحدودي الذي يربط إقليم كردستان العراق بالحدود الإيرانية، للمشاركة في تشييع جنازة محمد عبد الكريم الكسنزاني، الشيخ السابق للطريقة.
ولم تتوقف عمليات الاقتحام وقتها إلا بعد أن وجه شيخ الطريقة أمراً لأتباعه في إيران وطلب منهم المكوث في بلادهم لحين صدور إشعار أخر.
الطقوس والممارسات
تروج الطريقة الكسنزانية لنفسها باعتبارها الطريق المثالي للوصول للحقيقة الأبدية والنعيم المقيم. وجاء في تعريف الطريقة لنفسها: "...يا أيها الحائرون في متاهات الحياة وميادينها المجهولة دون تروٍ وتفكر، هلموا يا بني البشر إلى منهج رواد الخلود من مشايخ الطريقة الذين يصلون بكم عن طريق التدرج إلى الحقيقة الأبدية (الخلود) التي حيرت عقول كثير من الفلاسفة والمفكرين في البحث عنها، وتأملوا واتبعوا طريقة العمل الصالح والمثابرة والتقوى فإنكم لا محالة واصلون بعد ذلك إلى أملكم المنشود أي البقاء الذي لا فناء ولا موت بعده فتصبحون حينئذٍ في خلود دائم ونعيم مقيم لدى خالق الكون...".
ويتميز الكثير من أتباع الطريقة الكسنزانية بما يُعرف باسم طقوس "ضرب الدرباشة". ويقصد بها إدخال أدوات حادة كالأسياخ والسيوف في مناطق مختلفة من الجسم، ومضغ وابتلاع أمواس الحلاقة، وتعريض أجزاء الجسم للنار، والتعرض للدغات الأفاعي والعقارب السامة.
تسببت تلك الممارسات في توجيه الكثير من الانتقادات للطريقة الكسنزانية، وتم اتهام أتباعها بممارسة السحر والشعوذة، والاتصال بالجن والأرواح الخفية.
رد الكسنزانيون على هذا الاتهام بقولهم: "...لا نستغرب أن يذهب ذهن أي إنسان إلى تصور أن لخوارق الضرب في الطريقة الكسنزانية علاقة (بالجن وتحضيرهم) لأننا مدركون لأثر الموروث الاجتماعي في إعطاء التفسيرات المبدئية للظواهر الخارقة، ولكن مع البحث والاختبار تتضح الصورة وينجلي الغموض الذي يحيط بها، ووقتها يمكن للإنسان تجاوز عقبة الرجم بالغيب".
وأضافوا أن "مسألة ضرب الدرباشة بأشكالها المتعددة ما هي إلا كرامات لمشايخ للطريقة، منشأها وغايتها الله تعالى".
كذلك يتميز أعضاء الطريقة الكسنزانية بطول شعورهم. ويتحدث أحد قيادات الطريقة مبيناً سبب حرص الكسنزانيين على إطالة الشعر، فيقول: "...يُعتبر طوله مقدساً جداً والسبب أن النبي محمد كان يطيل شعره، وكذلك أحفاده الحسن والحسين والصحابة... هذا الشعر هو نور في القبر بعد وفاتنا".