تمكن السلطان سليمان القانوني من هزم الصفويين وإجلائهم عن كامل الأراضي العراقية.
تمكن السلطان سليمان القانوني من هزم الصفويين وإجلائهم عن كامل الأراضي العراقية.

تقع العراق بين قوتين إقليميتين عظيمتين، وهما تركيا وإيران. تسببت تلك الحقيقة الجغرافية في اشتعال الصراع بين القوتين بغية الاستحواذ على أراضي الرافدين في العديد من المرات عبر التاريخ. في القرن السادس عشر الميلادي وقعت الحرب بين الدولة الصفوية في إيران والدولة العثمانية في تركيا. وكان العراق شاهدا على فترة دموية من الصدام الذي لا يهدأ. من هم العثمانيون؟ ومن هم الصفويون؟ وما هي أهم محطات الصراع الصفوي العثماني؟ وكيف أثر هذا الصراع في تاريخ العراق؟

 

العثمانيون والصفويون.. من هم؟

 

قامت الدولة العثمانية على يد أرطغل بن سليمان شاه في نهايات القرن الثالث عشر الميلادي. تذكر المصادر التاريخية أن أرطغل كان زعيماً لواحدة من القبائل التركمانية النازحة من وسط آسيا، والتي تبحث عن موطن جديد لها في منطقة الأناضول. أعلن أرطغل خضوعه لسلاطين السلاجقة واستقر بقبيلته في شمال سوريا. وفي عهد ابنه عثمان، تحولت القبيلة الصغيرة إلى إلى دولة مستقرة. وسرعان ما تمددت تلك الدولة، وأثبتت وجودها وسط القوى الإقليمية المجاورة.

صورة أرشيفية لامرأة عربية مع أطفالها في مدينة الأحواز، عاصمة إقليم خوزيتان العربي في إيران
عرب إيران.. التاريخ والثقافة والعلاقة الشائكة مع الحكومة
تمتد الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مساحة 1.6 مليون كيلومتر مربع، ويعيش فيها أكثر من 80 مليون نسمة، وينتمي نصف هذا العدد للعرقية الفارسية، بينم يتوزعا النصف الآخر بين أقليات إثنية متعددة، كالأذرية والتركمانية والبلوشية والكردية والعربية.

في عهد خلفاء عثمان، تمددت الدولة العثمانية في مناطق مختلفة من قارتي آسيا وأوروبا. ولكنها سقطت أمام المغول في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، عندما هُزم السلطان العثماني بايزيد الأول في موقعة أنقرة أمام السلطان المغولي تيمورلنك. عادت قوة العثمانيين مرة أخرى إلى الواجهة في عهد خلفاء بايزيد الأول. وفي سنة 1453م تمكنت الجيوش العثمانية من إسقاط القسطنطينية (إسطنبول حاليا)، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في عهد السلطان محمد الفاتح. وبعدها، صار العثمانيون أقوى حكام الأرض، في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.

على الجهة المقابلة، لم يظهر الصفويون على مسرح الأحداث السياسية في إيران إلا مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي. يذكر المؤرخ عباس إقبال اشتياني في كتابه "تاريخ إيران بعد الإسلام" أن الصفويين ينتسبون إلى الشيخ الصوفي التركماني الأصل صفي الدين إسحاق الأردبيلي الذي اشتهر أمره في مدينة أربيل -الواقعة في كردستان العراق- في القرن الرابع عشر الميلادي. كان الأردبيلي زعيماً لإحدى الطرق الصوفية الشهيرة، وكان الآلاف من الرجال ينضوون تحت قيادته. بعد وفاة صفي الدين، خلفه ابنه صدر الدين موسى في قيادة الطريقة. وفي عهد حفيده المسمى بالسلطان جنيد، تحولت الطريقة إلى ثورة كبرى تمكنت من فرض سيطرتها على مساحات واسعة من الهضبة الإيرانية.  يذكر جعفر المهاجر في كتابه "الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي" أن الشاه إسماعيل الصفوي استطاع أن يؤسس الدولة الصفوية في بدايات القرن السادس عشر الميلادي. واتخذ من مدينة تبريز عاصمة لها. وامتدت مملكته من جبال تورا بورا في أفغانستان، إلى شرقي الأناضول، مروراً بأذربيجان وأرمينيا والهضبة الإيرانية.

 

المرحلة الأولى من الصراع: بين الشاه إسماعيل وبايزيد الثاني

 

كان الاختلاف المذهبي أحد العوامل التي أسهمت في ظهور وتعميق العداء بين الصفويين والعثمانيين. اعتنق الصفويون المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري، بينما اعتنق العثمانيون المذهب السني، فقلدوا مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان على الصعيد الفقهي، وانتهجوا النهج الماتريدي -نسبةً للإمام أبي منصور الماتريدي- فيما يخص العقائد. من هنا، لم يكن الصراع بين القوتين صراعاً سياسياً فحسب. بل كان أيضا مذهبياً بالمقام الأول.

من الممكن أن نحدد أربع محطات مميزة في تاريخ الصراع الصفوي العثماني على العراق. بدأت المرحلة الأولى بالتزامن مع تأسيس الدولة الصفوية. عمل الشاه إسماعيل الأول على التوسع في بعض نواحي بلاد الرافدين، وتمكن من دخول بغداد وإسقاط دولة الخروف الأبيض "آق قويونلي" التركمانية. انزعج العثمانيون من ذلك التصرف ولكنهم آثروا اللجوء للحل السلمي. يذكر كمال السيد في كتابه "نشوء وسقوط الدولة الصفوية" أن السلطان العثماني بايزيد الثاني بعث بعض رسله إلى الشاه إسماعيل. واقتنع الطرفان بتهدئة الأمور فيما بينهما. في تلك المرحلة، قام الشاه إسماعيل الصفوي بهدم مرقدي الإمام أبي حنيفة النعمان والقطب الصوفي عبد القادر الجيلاني. وفي المقابل، قام بتجديد عمارة المشهد الكاظمي -المُقام على مرقدي الإمام موسى الكاظم والإمام محمد الجواد- في بغداد، فهدم البناء القديم وبنى الروضة والرواق والصحن، بحسب ما يذكر إبراهيم الموسوي الزنجاني في كتابه "جولة في الأماكن المقدسة".

ضريح عبد القادر الجيلاني داخل الحضرة الجيلانية في بغداد.
الخلاف على أصول الجيلاني بين التاريخي والسياسي.. عراقي أم إيراني؟
أواخر ستينيات القرن العشرين، طالب الرئيس العراقي الأسبق، أحمد حسن البكر، من إيران إعادة رفات الخلفية العباسي هارون الرشيد، رفضت إيران وطالبت باسترجاع رفات الإمام الصوفي عبد القادر الجيلاني، الخلاف بين العراق وإيران على أصول الجيلاني قديم متجدّد، فهل هو عراقي أم إيراني؟
 

المرحلة الثانية: الانتصار العثماني في معركة جالديران

 

تغيرت الأوضاع في سنة 1512م. تمكن الأمير سليم بن بايزيد الثاني من الوصول لعرش الدولة العثمانية. وخطط للتوسع على حساب الصفويين. وبذلك بدأت المرحلة الثانية من الصراع.  يذكر عباس إقبال في كتابه أن السلطان سليم الأول تمكن من جمع جيش كبير مكون من 120 ألف مقاتل مزودين بالمدفعية الحديثة. واخترق منطقة الأناضول ليصل لصحراء جالديران الواقعة جنوبي غرب جبل أرارات. في تلك المنطقة تلاقى الجيش العثماني مع الجيش الصفوي المكون من 60 ألف مقاتل، والذي اعتمد بشكل أساسي على الفروسية وطرق الحرب القديمة. انتصر العثمانيون في جالديران وتمكنوا من دخول العاصمة الصفوية تبريز. أما الشاه إسماعيل الأول فقد اُضطر للانسحاب مع فلول جيشه إلى أذربيجان. يوضح الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ الدولة الصفوية في إيران" النتائج المهمة التي ترتبت على انتصار العثمانيين في جالديران. كانت أبرز تلك النتائج أن الدولة العثمانية سيطرت بشكل كامل على العراق وديار بكر وأجزاء واسعة من الأناضول وبعض المدن الواقعة غربي إيران. بحسب طقوش حاول الشاه إسماعيل أن يتدارك الهزيمة المؤلمة التي تعرض لها في جالديران. وعمل على عقد بعض التحالفات الثنائية مع كل من البرتغال والبندقية وإسبانيا بهدف التصدي للخطر العثماني. فشلت مساعي الشاه إسماعيل وتوفي دون أن ينجح في الثأر لهزيمته المدوية.

 

المرحلة الثالثة: بين طهماسب وسليمان القانوني

 

بدأت المرحلة الثالثة من الصراع الصفوي العثماني مع وصول كل من السلطان العثماني سليمان القانوني والشاه الصفوي طهماسب إلى كرسيي السلطة في الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية على الترتيب.

استغل الصفويون انشغال العثمانيين بالحرب على جبهة البلقان ضد دول أوروبا الشرقية. وتمكن طهماسب من استعادة سيطرته الكاملة على إيران وجزء كبير من الأراضي العراقية. ولكن في سنة 1533م وقع تغير مهم في مجرى الأحداث عندما وقع العثمانيون اتفاقاً مع أسرة الهابسبورج التي تحكم عددا من الدول الأوروبية. بهذا الاتفاق، تهيأت الظروف للسلطان سليمان القانوني ليحشد قواته على الجبهة الإيرانية. وقاد بعدها ثلاث حملات كبرى ضد الصفويين، وذلك في سنوات 1534م، و1548م، و1555م، وحقق العثمانيون الانتصار فيها جميعاً. رغم ذلك لم يثبت الحكم العثماني في العراق لفترة طويلة. يذكر عباس إقبال في كتابه سابق الذكر أن الصفويين كانوا يتراجعون إلى إيران وينتظرون انسحاب القوات العثمانية من المدن التي سيطرت عليها. وبعدها، يحشد طهماسب قواته مرة أخرى ويستعيد سيطرته على الأراضي العراقية بعد أن يتخلص من الحاميات العثمانية قليلة العدد.

في تلك المرحلة حاول كل من الجانبين أن يستغل الخلافات الأسرية الضاربة في المعسكر المقابل. على سبيل المثال في سنة 1546م، ساعد السلطان سليمان القانوني القاص ميرزا في ثورته ضد أخيه طهماسب. بالمقابل، قام الشاه الصفوي في سنة 1558م، بدعم الأمير بايزيد في خلافه مع أبيه سليمان القانوني. يذكر طقوش في كتابه أن تلك المخططات لم تنجح في تغيير موازين القوى بين الجانبين. واضطر الطرفان في نهاية المطاف لعقد الاتفاق في أماسيا في سنة 1555م. وبموجب هذا الاتفاق تم ترسيم الحدود بين الدولتين في العراق وكردستان. كما شمل الاتفاق بعض البنود المتعلقة بالشؤون التجارية، ونص على تأمين طريق الحج للحجاج الإيرانيين. وفي تلك المرحلة من الصراع، قام السلطان سليمان القانوني بإعادة بناء مرقدي أبي حنيفة النعمان والجيلاني، كما تابع أعمال البناء والتوسعة في المشهد الكاظمي. وفي السياق نفسه زار مدينتي كربلاء والنجف، واهتم بعمارة مراقد الأئمة. وكذلك أمر بتعميق مجرى نهر الحسينية في كربلاء وتوسيعه بحيث صارت مياه الفرات تصل الى كربلاء بشكل منتظم.

 

المرحلة الرابعة: معاهدة زهاب

 

وقعت المرحلة الرابعة -والأخيرة- من الصراع الصفوي العثماني على العراق بعد رحيل كل من طهماسب والقانوني. اعتلى العرش في الدولتين مجموعة من الحكام الضعاف، وسادت حالة من الارتباك في البيتين الصفوي والعثماني. بالتزامن مع تلك الأوضاع المضطربة تمكن الشاه عباس الأول من تحقيق الانتصار على العثمانيين في عدد من المعارك، ووقع معهم عدد من المعاهدات في سنوات 1612م، و1618م. وفي مايو من سنة 1639م، تم توقيع معاهدة زهاب أو معاهدة قصر شيرين في شرقي كركوك. كتبت تلك المعاهدة كلمة النهاية للصراع الدائر بين الصفويين والعثمانيين. يذكر كمال السيد في كتابه أنه وموجب تلك الاتفاقية تم ترسيم الحدود بين كل من إيران والعراق وتركيا. وأضحت تلك الترسيمات مرجعاً مهماً للفصل في تحديد مناطق سيادة القوتين الصفوية والعثمانية، وتحظى تلك المعاهدة بقدر كبير من الأهمية إلى الآن.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".