غلاف كتاب "ملحمة كلكامش" للعالم العراقي طه باقر- تعبيرية
غلاف كتاب "ملحمة كلكامش" للعالم العراقي طه باقر- تعبيرية

عرف العراق العديد من المفكرين اللامعين الذين أسهموا بحظ وافر في إثراء الثقافة العربية المعاصرة، من بينهم الأثري طه باقر، الذي لعب دوراً رائداً في حقل الدراسات الأثرية العراقية بما قدمه من كتب ودراسات معمقة.

في هذا المقال، نلقي الضوء على شخصية باقر، وأهم ما ورد في أشهر كتبه من آراء وأفكار.

 

النشأة والدراسة

ولد طه باقر عام 1912 في مدينة الحلّة بمحافظة بابل وسط العراق. عُرفت عائلته بآل عزام، وهي من الأسر الحليّة المشهورة التي ينتهي نسبها إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

جمع في صغره بين دراسة العلوم الشرعية والعلوم الأكاديمية المدنية، وتلقى على يد أبيه وعمه بعض الدروس في الدين والشريعة والنحو والصرف، كما التحق بالمدارس النظامية وتدرج فيها حتى المدرسة الثانوية في بغداد. في تلك الفترة، عُرف بنبوغه وتفوقه.

في عام 1933 اجتاز باقر المرحلة الثانوية من دراسته، وكان واحداً من بين الأربعة الأوائل على مستوى العراق. رشحه ذلك للانضمام إلى إحدى البعثات على نفقة وزارة المعارف للدراسة في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الأميريكية، وتطلب الالتحاق بتلك البعثة المرور ببعض المحطات التحضيرية في فلسطين ولبنان.

حصل أولاً على شهادة "ماتريكيوليشن" الإنجليزية في مدينة صفد، وبعدها انتقل إلى الجامعة الأميريكية في بيروت لاجتياز مرحلة "السوفومور"، وهي عبارة عن مرحلة دراسية تحضيرية للدراسات التي سيعكف عليها باقر في الولايات المتحدة.

في جامعة شيكاغو، عكف باقر على الدراسة لمدة أربع سنوات، وتحصل على درجة البكالوريوس، ثم درجة الماجيستير عام 1938. درس في تلك المرحلة الأنثروبولوجيا، واللغات القديمة، وعلم الآثار، كما شارك في بعض أعمال التنقيب الأثري التي أجراها طلبة قسم الأنثروبولوجيا في جامعة شيكاغو في بعض المستعمرات القديمة في الولايات المتحدة.

من جهة أخرى، تمكن من إتقان العديد من اللغات القديمة، كالعربيّة والآراميّة والأكديّة والسومريّة، إضافة إلى اللغة الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة.

 

المناصب والتدرج الوظيفي

عاد باقر إلى العراق عام 1938، وتم تعيينه كـ"خبير فني" في مديرية الآثار القديمة العامة،وبعد شهور تم استدعاؤه للالتحاق بالجيش العراقي، وعُين في وظيفة "ضابط احتياط". شارك في تلك الفترة في أحداث ثورة سنة 1941، بحسب ما ذكر الدكتور فوزي رشيد في كتابه "طه باقر… حياته وآثاره".

تم تسريح باقر من الجيش العراقي عقب انتهاء الثورة، وعُين وقتها في وظيفة "أمين المتحف" العراقي، التي بقي فيها حتى عام 1951. في تلك السنة عُين كـ"معاون مدير الآثار العام"، وبعد شهور معدودة تقلد منصب "مدير الآثار العام"، وبقي فيه حتى سنة 1963.

لم يكتف طه باقر بالوظائف السابقة، بل عمل على نشر الوعي الأثري والتاريخي في العراق من خلال أنشطته الصحافية والإعلامية والأكاديمية. على سبيل المثال ترأس  هيئة تحرير مجلة "سومر" في الفترة بين 1958 و1963م، وقام بتدريس مادة "التاريخ القديم والحضارة" في كلية "المعلمين" العالية حتى سنة 1960م، وقام بتأسيس قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة بغداد، ودرّس فيه مادة "التاريخ القديم واللغات القديمة"، كما تولى منصب "نائب رئيس جامعة بغداد" بين  1961 و1963.

لعبت المتغيرات السياسية التي شهدتها العراق عام 1963 دوراً كبيراً في تبديل المسار الوظيفي والعلمي لباقر، حيث تمت الإِطاحة بنظام حكم رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، وتولى عبد السلام عارف منصب رئاسة الجمهورية. اتهم باقر وقتها بأنه كان من ضمن المقربين لقاسم، وسُجن لفترة بعد أن تم عزله من جميع وظائفه.

أمام التهميش الذي تعرض له باقر بعد الخروج من السجن، اضطر إلى مغادرة العراق. فسافر إلى ليبيا عام 1965 وأسس مركز الأبحاث الآثارية فيها، وعمل مستشاراً في مصلحة الآثار الليبية، فضلاً عن توليه منصب أستاذ في الجامعة الليبية.

وذكر فوزي رشيد في كتابه، أن باقر عاد إلى العراق مرة أخرى عام 1970، وطلب منه مجلس قيادة الثورة في تلك السنة -بشكل رسمي- العودة إلى وطنه، لتتم إعادة تعيينه كأستاذ في قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة بغداد.

وفي عام 1971 عُين عضواً عاملاً في المجمع العلمي العراقي، حتى عام 1977، حين عُين في عضوية مركز إحياء التراث العلمي العربي.

ظل باقر محافظاً على إسهامه العلمي في حقل الدراسات الآثارية والتاريخية في العراق حتى الفترة الأخيرة من حياته.

وفي الثامن والعشرين من فبراير سنة 1984 توفي عن عمر ناهز اثنين وسبعين عاماً.

 

الإسهام العلمي والمعرفي

قام طه باقر بالتنقيب في العديد من المواقع الأثرية الموجودة في شتى أنحاء العراق، مثل واسط، وعكركوف، وتل حرمل، وأور، ودوكان. وألف العديد من الكتب المهمة التي أسهمت في زيادة الاهتمام والوعي بعلم الآثار في العراق.

من أبرزها: "ملحمة جلجامش"، و"طرق البحث العلمي في التاريخ والآثار"، و"من تراثنا اللغوي القديم"، و"تاريخ العراق القديم"، و"تاريخ إيران القديم"، و"موجز تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة"، و"مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة"، و"عصور ما قبل التاريخ"، و"مقدمة في أدب العراق القديم".

كذلك قام باقر بترجمة بعض الكتب المهمة إلى اللغة العربية، منها "بحث في التاريخ" للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي، و"ألواح سومر" لصموئيل نوح كريمر، فضلاً عن بعض فصول كتاب "تاريخ العلم" لجورج سارتون.

يُعدّ اكتشاف باقر للألواح الطينية التي دونت عليها قوانين أشنونا القديمة أحد أهم مكتشفاته الأثرية على الإطلاق. ففي عام 1945 عثر على تلك الألواح أثناء تنقيبه في منطقة تل حرمل، وقام بترجمة نصوصها إلى اللغة العربية ليميط اللثام عن أقدم المدونات القانونية التي عرفها الإنسان القديم.

أوضح باقر أهمية تلك القوانين بقوله: "قانون مملكة أشنونا في التل المذكور أقدم مدونة قانونية في العراق القديم، حيث كان قانون حمورابي إلى زمن قريب أقدم شريعة في تاريخ البشر، حيث بدل هذا الرأي فيكون بذلك قانون أشنونا أقدم شريعة كشفها البحث حتى الآن"، وذلك وفق ما ذكر كل من مصطفى جواد وأحمد سوسة في كتابهما "دليل خارطة بغداد المفصّل".

كما قام أيضا بترجمة ملحمة جلجامش الشهيرة، التي تُعدّ أعظم الملاحم التي دونها العراقيون في العصور القديمة.

أُغرم باقر بتلك الملحمة العظيمة التي تحدثت عن معاني الموت والحياة والصداقة والخلود. وفي عام 1962، نشر ترجمته لتلك الملحمة وقال في مقدمتها: "لعلني لا أبالغ إذا قلت إنه لو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين من منجزاتها وعلومها ومتونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة أن تتبوأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة".

وأُعيد نشر تلك الترجمة في العديد من الطبعات، كما تمت ترجمتها للكثير من اللغات الأجنبية فيما بعد.

في عام 1976، نشر العالم العراقي كتابه المهم "مقدمة في تاريخ الأدب العراقي القديم"، وسلط فيه الضوء على الفنون والآداب التي عرفتها بلاد الرافدين منذ آلاف السنين. يقول باقر في ذلك الكتاب: "...أصل الشعر كان من الغناء والإنشاد الشعبي، ومما يقوي هذا الرأي أن الكلمة التي تُطلق على الشعر في أدب حضارة وادي الرافدين وهي كلمة (شيرو) البابلية و(سير) أو (شِر) (sir) السومرية التي ظهرت في نظام الكتابة السومرية منذ أول ظهور الكتابة، وتعني في أصلها الغناء والإنشاد والترنيم…".

في السياق نفسه، نشر باقر كتابه "من تراثنا اللغوي القديم" عام 1980، وأثبت فيه أن العشرات من مفردات اللغة العربية المستخدمة حالياً ذات أصل سومري أو أكدي أو أشوري. على سبيل المثال قال  إن اسم بغداد "يعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد كما ورد في النصوص المسمارية على صيغتين هما: بگدادو وبگدادا…".

كُرم باقر في العديد من المحافل الأكاديمية العربية والدولية في السنوات السابقة، أبرزها منحه درع اتحاد الآثاريين العرب في القاهرة عام 2002، وإقامة تمثال له في العراق، من قبل المتحف الوطني العراقي، ديسمبر عام 2017، اعترافاً بفضله وإسهامه العميق في علم الآثار العراقي.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".