نموذج من قوارب المشحوف- ارفع صوتك
نموذج من قوارب المشحوف- ارفع صوتك

"نستقبل خلال الشهر الواحد طلبا أو طلبين لصناعة قارب المشحوف، فيما كان ينتظر من يريد الحصول عليه شهرين في الماضي بسبب كثرة الإقبال على اقتنائه"، يقول فاضل حسين، أحد صناع المشحوف والزوارق في الأهوار جنوب العراق.

والمشحوف قارب صغير يتراوح طوله بين (6-9) ذراع، وعرضه ذراعان.

ويستخدم للتنقل والصيد في الأهوار والمسطحات المائية، ويعتبر أحد أقدم وسائل النقل المائية حيث صنعها السومريون قبل أكثر من خمسةآلاف عام في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهو يحتفظ بشكله الهلالي منذ ذلك الوقت، وقد توارث سكان الأهوار صناعته أباً عن جد وصولا إلى يومنا هذا.

أتقن حسين صناعة المشحوف منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث علّمه والده الحرفة، ومنذ ذلك الحين، لم يترك هذه الصناعة، إلا أن الإقبال عليها "انخفض حالياً، وأصبح عمله وغيره قليلا جدا، بسبب التغيير المناخي الذي تسبب في انخفاض مناسيب المياه وجفاف المسطحات المائية والأهوار".

يتابع "عملنا مرتبط بالمياه، وإذا عادت المياه كما كانت في الماضي ستنتعش صناعتنا، لكن إذا استمرت الأوضاع هكذا وساءت فعملنا يتجه نحو الانقراض وسنفقد مصدر رزقنا الوحيد في الحياة".

واستخدم السومريون القصب وأغصان الأشجار والقار في صناعة المشاحيف، لكن المواد الداخلة في صناعته تطورت بمرور الزمن، فعندما بدأ حسين بصناعة المشحوف كان والده يستخدم الخشب والمسامير والقار، ثم دخل فيها القطن أيضا، لكن الآن يستخدم حسين ومن تبقى من صناع المشحوف مادة "الفايبر كلاس" والخشب المستورد والخشب المحلي، وما زالت مادة القار حاضرة كمادة رئيسة في صناعة هذا النوع من الزوارق.

يشير حسين أيضاً، إلى أن صناعة المشحوف كانت تستغرق في الماضي وحتى الآن يوما واحدا، أما الزوارق الأخرى فأصبحت صناعتها تستغرق الآن 3 أيام بعد أن كانت تستغرق سابقا نحو 10 أيام، بسبب التطور في مجال الأدوات المستخدمة.

تكون قيادة المشحوف في الأهوار بواسطة نوعين من المجذاف، الأول يطلق عليه اسم "الغرافة"، وهو الذي يستخدمه الملاح عندما يكون المشحوف متجها باتجاه حركة سير الماء، أم إذا كان المشحوف يسير عكس اتجاه الماء أو بين القصب والحشائش أو عند بداية حركته من الضفاف، فيستخدم الملاح مجذاف "المردي"، وهو عبارة عن خشبة طويلة تساعد في الحركة.

ما زال حبيب الاسدي يتذكر استخدامه للمشحوف داخل الأهوار ومرافقته لوالده لأول مرة على متنه في السبعينيات، حيث بدأت علاقته مع هذا النوع من الزوارق التي كانت عائلته وغالبية سكان الأهوار تستخدمه كوسيلة نقل وعيش في آن واحد.

يوضح الأسدي لـ"ارفع صوتك": "هناك عدة أحجام من المشحوف، الكبير منه يستخدم لنقل القصب من منطقة لأخرى داخل الأهوار، ويمكنه حمل أكثر من 50 حزمة قصب كبيرة الحجم، وكان الأكثر استخداما من الصغير، أما الصغير فكان يستخدم للتنقل والذهاب للسوق، فهو الوسيلة الوحيدة للتنقل قديما عندما لم تكن هناك زوارق في الأهوار، وكذلك يستخدم لجرد (حصاد) القصب والحشائش".

ويصف حال المشحوف بأنه "منقرض"، لانخفاض نسبة الطلب عليه من قبل السكان المحليين الذين يتجهون إلى استخدام القوارب الميكانيكية بدلا من اليدوية، لسهولة استخدامها وسرعتها في العمل والتنقل.

"لذلك لم يعد صناع المشحوف يصنعونه مثل الماضي وباتت ورشات صناعته المنتشرة في الأهوار تختفي يوما بعد يوم، ولم يتبق منها إلا القليل"، يضيف الأسدي.

والأهوار مسطحات مائية عذبة تغطي الأراضي المنخفضة جنوب السهل الرسوبي العراقي، وتمتد بين ثلاث محافظات: ميسان وذي قار والبصرة.

أدرجت في لائحة "اليونسكو" للتراث العالمي، وتتعرض هذه المسطحات للتجفيف منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأ النظام السابق بتجفيفها بحجة الحرب مع إيران ومواجهة مسلحي المعارضة العراقية آنذاك.

وبعد سقوط النظام عام 2003، أصبحت الأهوار تواجه مشكلة جديدة تمثلت بالتغير المناخي وانحسار مياها وتعرضها للجفاف الذي ما زال يهدد الحياة فيها.

يقول مدير منظمة الجبايش، رعد حبيب، إن هناك أنواعا مختلفة من المشاحيف، منها المخصص للتنقل وللصيد وآخر لنقل الحيوانات، ومشحوف للضيافة وأيضا للتجارة وغيرها، ولكن لم يتبق منه الآن سوى نوعين واندثرت البقية، وفق تعبيره.

ويبين لـ"ارفع صوتك"، أن "صناعة القوارب إرث حضاري، كون أول قارب صنع من القصب وفي مدينة سومر وذكر في الألواح الموجودة، أن جلجامش صعد على قارب من القصب لصيد الأسماك".

"لذلك ينبغي أن يسهم العالم والمجتمع الدولي في الحفاظ على هذا الإرث الحضاري وأدواته وصناعته واستخداماته، لأنه جزء مهم من التراث العالمي"، يؤكد حبيب.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".