ما هي حكاية سوق سيور في العاصمة اللبنانية بيروت؟ من أين أتى اسم "ساقية الجنزير"؟ أين يذهب البيروتي ليصلح "الغرامافون"؟ قهوة الفردوس ما هي؟ وماذا عن الخندق العسكري في "ساحة الشهداء"؟ مجموعة من الأسئلة وسواها يطرحها مشروع "ذكريات بيروت".
ويتوخى المشروع من خلال تسجيلات صوتية أشبه برسائل من "حكواتي-مؤرخ" وألبوم غني من الصور النادرة، الحفاظ على ذاكرة المدينة حية.
طارق كوّى، الحكواتي الذي ينشر تسجيلات صوتية تصل لعشرات اللبنانيين عبر مجموعات في تطبيق "واتساب"، يتحدث لـ"ارفع صوتك" عن مشروعه، الذي يهديه للجيل المخضرم ولشباب المستقبل، وفق تعبيره. وكان لنا هذا الحوار معه.
كيف أبصرت "ذكريات بيروت" النور وماذا تشعر تجاه هذا المشروع؟
بدأت الفكرة عام 1973، حينها كنت منخرطا في دراسة عن النسيج الاجتماعي لمدينة بيروت، وفي ذلك الوقت، كنا نستخدم دفتر الهواتف ونتأكد من تدوين اسم كل شخص مع عنوان سكنه. مثلا، طارق كوّى، شارع السوق الطويلة مع رقم البناية ورقم الهاتف، وهكذا، استطعت تجميع مدونة تضم كل سوق على حدة، وكان ذلك قبل إنشاء "سوليدير"..
وبعد 25 عاما، عدت للتواصل مع الناس مع العلم أن الكثير تغير، فسكان المناطق أصبحوا من أطباء الأسنان والجراحين وما عادوا يزاولون المهن نفسها كما آباءهم الذين عملوا بالخيطان أو الخيش أو القماش.
كانت لدي كل تلك المعلومات عن الأسواق، تضاف إليها ذكرياتي منذ الطفولة حيث كنت أدور في الأسواق. هكذا بدأت العمل على مشاركة كل ما أعرفه عن الأسواق من خلال تسجيلات صوتية شكلت مشروع "ذكريات بيروت".
ابنتي هي أول المستمعين والمشجعين على نشر هذه التسجيلات، لينطلق بعدها المشروع. ولعل أكثر ما أثر في نفسي هو شعوري بالواجب تجاه بيروت وتجاه الجيل الجديد، فنحن كجيل مخضرم تقع على عاتقنا مسؤولية الإضاءة على ما نفخر به وهو أكثر بكثير من مجرد التركيز على السيارات والمنازل الفارهة والأموال والهواتف الذكية الحديثة.
"ذكريات بيروت" ترسم خطا لتطور المدينة فكيف ترى تطورها عبر الزمن؟
في رحلة الحياة، من الطبيعي أن نختبر خلال عملية التطور التقدم وفي أحيان كثيرة الخسارة. ويحتم علينا التطور تغيير أسلوب حياتنا الذي لا يكون ناجحا بالضرورة في معظم الأحيان، ولذلك يحصل الفشل. ولذا نعود بحسرة للماضي ونقول "كانت الأيام أحلى!".
على سبيل المثال، هناك بنايات مرممة في وسط البلد وهناك من يقول اليوم "يا ليتنا تركنا مبان أكثر"، ولكن فلننظر للأمر من منظور مختلف، على اعتبار أن الحرب لم تدمر المباني، لكانوا أزالوا أيضا ثلاثة أرباع المباني ليتم تشييد غيرها في مناطق كما في زقاق البلاط والحمرا والمزرعة والأشرفية، وغيرها.
التطور لا يعني حكما الخيار الصحيح، لكنه يلحظ عوامل مستجدة مثل النمو السكاني والتعليم وتغير منظور الأمور، وفي معظم الأحيان، قد يضحي الأشخاص بأشياء يحبونها من أجل أشياء يعتبرون في حينها أنها الأمثل. ولكن هل هي دائما كذلك؟ لدي الكثير من الشك. ومع ذلك، هذا لا يعني أنني ضد التطور بل على العكس، أنا مع دمج الماضي بالحاضر، ليبقى الأثر المهم والقصص العميقة بالتوازي مع بصمة الحاضر والمستقبل. ومن الأمثلة على ذلك، مبنى "النهار" الذي أضيف إليه طابق بالكامل من الموزاييك أو حتى مبنى مكاتب مجلس النواب، حيث كان Banca de Roma سابقا، والذي يضم معالم من أيام الرومان.
يُقال إن الأماكن حافظة للذاكرة، فماذا عن ذاكرة بيروت المكانية؟
أحاول من خلال هذا المشروع العودة للأماكن الدلالة أو مشاركة قصص الأماكن الموجودة في ذاكرتنا الجماعية. مثلا، أعود في التسجيلات إلى أماكن الدلالة التي تصبح هي نفسها محور الإرشادات المكانية مثلا: "أدر ظهرك لبناية العزارية، سر إلى الشمال أو انزل الدرج (السلالم)".
هذه الأماكن ربما لا يعرفها أولاد اليوم، كسوق الطويلة أو سوق سرسق، مثلاً، لكنهم سمعوا عنها من دردشات أهاليهم أو جدودهم أو جيرانهم أو أصحابهم. هذه الأماكن تحفظ الذاكرة وأنا أحاول بدوري إبقاء هذه الأماكن حية قدر الإمكان من خلال بناء القصة-التاريخ المحيط بها، وهذا ينطبق أيضا على الأماكن التي ما زالت موجودة إلى يومنا هذا وهي كثيرة الحمد لله.
وفي بيروت كلها، بوسطها وتفرعاتها، هناك أماكن دلالة يسمح وجودها بحفظ ذاكرة الأماكن.
كيف تروي قصة هذه الأماكن البيروتية عبر الزمن؟
أحاول أن أقصّ ماضي كل بقعة بيروتية كما لو كنت أتوجه لصديق، ولذلك أعتمد أسلوبا دافئا مع المستمعين لأنني على يقين بأن متابعي هذا المشروع هم في الأصل عشاق بيروت.
أروي القصة كما لو كنت جالسا قبالة المستمع على طاولة نحتسي فنجان قهوة ونسافر عبر الزمن. أروي عن تلك الساحات التي تبدلت معالمها وحتى أسماؤها، كساحة المدافع التي كانت ساحة فخر الدين أو بساتين فخر الدين قبل أن تصبح شهيرة بساحة الشهداء أو معمل جلول أو قهوة القزاز التي تعني الكثير للبنانيين؛ لأن ذكرها وذكراها محفوران في الذاكرة الجماعية، ولأننا سمعنا أسماءها بينما يمضي بنا قطار العمر حتى ولو لم تتسن لنا زيارتها.
كيف أثر انفجار مرفأ بيروت المروع على ما تبقى من ذاكرة الأماكن؟
لا شك بأن انفجار المرفأ في الرابع من آب (أغسطس) مثّل ضربة كبيرة للشواهد على ذاكرة المدينة، وشوه الكثير من الأشياء، خصوصا في منطقة الجميزة والمرفأ. في إحدى الحلقات، تكلمت عن محطات القطار، حيث دمر الانفجار ما تبقى من محطة مار ميخايل وعجّل هذا الحدث الأليم بتدمير مناطق أخرى ربما كانت لتبقى حية ولتستمر كشاهد للجيل الصاعد.
طالما احتضنت بيروت طوائف مختلفة (من مسيحيين ومسلمين ويهود) كيف يظهر ذلك من خلال ذاكرة الأماكن؟
لطالما انتمى وسط مدينة بيروت للجميع. حارب كثر فيه وحوله ولكن أحدا لم يتمكن من الاستحواذ عليه، بالتالي، بقي دون صبغة طائفية أو مذهبية.
أهم الكنائس والجوامع في لبنان موجودة في وسط المدينة، مثل كاتدرائية سان جورج للروم الأرثوذكس أو مسجد الأمير منصور العساف، أو الجامع العمري الكبير، أو الكاتدرائية الكابوشية للقديس لويس، أو كنيس بيروت اليهودي. بيروت مهد لجميع الطوائف والكل مسؤول عن الحفاظ عليها وعلى تراثها، ويشهد التاريخ أن أهم الأحداث التي حصلت نظمت في أهم كنائس وجوامع المدينة.
وسط كل هذه المتغيرات، ما هي الثوابت التي تحفظ لبيروت هويتها؟
بعض الأشياء لا تتلاشى مع الزمن كالنشيد الوطني والعلم وسواها. في ما يتعلق بمعالم بيروت، لا بد من محاولة الحفاظ على الشوارع والمباني التي تحفظ هوية بيروت مع الحرص على أن تكون الأماكن صالحة وغير مهددة بالسقوط وقد تتحول لمرتع للقوارض.
هناك أسواق تم الحفاظ عليها وأخرى تغيرت وتطورت حول المدينة. ما يهم هو أن تحترم الحداثة هوية المدينة، وهناك أمكان لا تزال موجودة كما في أول شارع المعرض، القناطر مثل شارع الريفولي وبنايات بغلافات خارجية تحترم الماضي والحاضر، ولكن اللافت مثلا في كركون الدروز وزقاق البلاط حيث القصور الرائعة، بناء ناطحات سحاب تقطع الضوء عن المباني القديمة. ألم يكن أجدى مثلا الاكتفاء بطوابق معدودة تسمح بتأمين السكن مع احترام خصوصيات الأماكن؟
هل يرمز هذا الالتفات للماضي إلى الشعور بالخيبة من الحاضر والمستقبل؟
في بعض الأحيان، نشعر بغض النظر عن السياسة، بأن المسؤولين الذين يفترض بهم الالتفات لهذا الموضوع غائبون، كأن تكون رؤى البلديات محدودة. وبالعودة للتاريخ، لعبت بلدية بيروت في عهد فخري بك دورا أساسيا في تجميل ساحة الشهداء مثلا. هذا يطرح علامات استفهام حول مدى كفاءة الأشخاص المفوضين بحماية هذا الإرث.
اليوم، تضج بيروت في كل شارع وفي كل زاروب بتاريخ غني، ولكن مع الأسف، يظهر أن الاحترام والاهتمام بها غائب، ما يضاعف من خيبة الحاضر.
لم تكن هذه أحلامنا. كنا نطمح أن نكون جزءا من بيروت التي تتسع أحلامنا. أما عن المستقبل، نخشى أنه إذا شابه الأيام الحالية، سيصعب علينا النهوض، ليس من منطق ثورجي وإنما من منطق أن في يدنا نِعم تحيط بنا ولا نقدرها. الحاضر سيء وإذا بقي المستقبل بيد الأشخاص عينهم، فعلى الدنيا السلام.