في 31 أغسطس 1978، شوهد الزعيم الشيعي موسى الصدر للمرة الأخيرة مع رفيقيه محمد يعقوب وعباس بدر الدين أثناء زيارتهما للعاصمة الليبية طرابلس.
ورغم مرور خمسة وأربعين سنة على هذا التاريخ إلا أن قضية اختفائهم ما زالت لغزاً غامضاً لم يُحل.
من هو موسى الصدر؟
ولد موسى الصدر في مدينة قم الإيرانية عام 1928، وتعود أصوله إلى أسرة علوية النسب كانت تسكن في منطقة جبل عامل في لبنان. وهاجر أحد أجداده إلى مدينة النجف العراقية، لتستقر الأسرة لاحقاً في إيران.
سار على نهج آبائه وأجداده، فبدأ دراساته الدينية منذ سن مبكرة. وفي الوقت ذاته التحق بالمدرسة الابتدائية ليحصل بعض العلوم الأكاديمية. وفي المرحلة الجامعية، سافر إلى طهران فدرس في جامعتها العلوم السياسية، وأتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
وبعدها عاد الصدر مرة أخرى إلى مدينة قم المقدسة ليتتلمذ على يد العالم الشيعي الكبير محمد حسين الطباطبائي.
في السنوات الأولى من خمسينيات القرن العشرين، سافر الصدر إلى النجف ليتابع دراساته الدينية على يد كبار علماء الشيعة المعروفين في العراق، بينهم محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي.
وفي 1955 سافر إلى لبنان وقابل الزعيم الديني الذي يتولى مسؤولية قيادة الشيعة هناك، عبد الحسين شرف الدين، وتعرف عن قرب على أوضاع الشيعة في الأراضي اللبنانية.
بعد سقوط النظام الملكي في العراق سنة 1958، عاد الصدر إلى قم، وعمل على كتابة بعض المقالات المختصة بالاقتصاد الإسلامي في إحدى المجلات التابعة لآية الله البروجردي، أكبر المرجعيات الشيعية في إيران آنذاك.
الاستقرار في لبنان
في عام 1959، قبل موسى الصدر بالعرض الذي قُدم إليه من قبل بعض الزعامات الدينية في النجف، حيث كان عبد الحسين شرف الدين توفى عام 1957، وبحث علماء النجف عن شخص قادر على خلافته. ليجدوا بغيتهم في الصدر بسبب اطلاعه على ظروف الشيعية اللبنانيين من جهة، ولأصوله الأسرية التي ترجع إلى منطقة جبل عامل من جهة أخرى.
استقر الصدر في مدينة صور اللبنانية، وعمل على الاهتمام بالمكون الشيعي في كافة أنحاء لبنان، فأسس العشرات من الجمعيات الخيرية، ووسع نشاطات جمعية "البرو الإحسان" التي أسسها شرف الدين، كما عمل على بناء مدرسة جبل عامل المهنية، ومدرسة أخرى للتمريض.
شارك أيضاً في العديد من الفعاليات العالمية، واشتهر باعتباره "صوتاً مسلماً" ينادي بالتقريب بين المذاهب والأديان المختلفة، ويدعو لإنهاء الصراعات الطائفية القائمة في شتى أنحاء العالم.
في عام 1963 شارك الصدر في مراسم تتويج البابا الكاثوليكي بولس السادس بناء على دعوة رسمية، وكان الوحيد الذي دُعي لهذه المناسبة. وأسهمت لقاءاته في الفاتيكان بإطلاق سراح رجل الدين الشيعي الإيراني آية الله الخميني من سجنه.
وفي عام 1969، خطا خطوة مهمة في سبيل توحيد جهود الشيعة في لبنان عندما أنشأ "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى"، واُنتخب رئيساً له. من جهة أخرى. وفي 1974، أسس أفواج المقاومة اللبنانية المعروفة بـ"حركة أمل".
جهود الصدر في لبنان ظهرت على أوضح صورة مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، حيث عمل على تدارك الموقف وإقامة جسور للصلح بين الطوائف المتناحرة، فشكل مع مجموعة من اللبنانيين ما عُرف باسم "لجنة التهدئة الوطنية"، ولما فشلت في وقف الاقتتال الدائر، قام بالاعتصام في مسجد "الصفا" وامتنع عن الطعام والشراب لعدة أيام، لينهي الاعتصام بعد تأليف الحكومة التي أخذ منها وعداً بالعمل على إقامة المصالحة.
كانت الدعوة للتقارب والتآلف هي السمة المسيطرة على معظم الخطابات والمحاضرات التي ألقاها الصدر داخل لبنان وخارجه. قال في إحدا ها: "الوحدة الوطنية نعيشها اليوم في أعمالنا، وفي اجتماعاتنا وفي لقاءاتنا وفي تعاوننا، في مجال الوظيفة الرسمية وغير الرسمية، ولكن هذه الوحدة يجب ألا تعني كما يعتقد البعض، ذوبان الجناح المسلم في الجناح المسيحي، أو ذوبان الجناح المسيحي في الجناح المسلم، ولكن أن يظل المسيحي على مسيحيته مئة بالمئة ويمد يداً مخلصة إلى أخيه المسلم؛ وأن يظل المسلم مسلماً مئة بالمئة ويمد يداً مخلصة إلى أخيه المسيحي، فإن ذلك يكون أجدى وأنفع، وبذلك نعيش الوحدة الوطنية فعلاً لا قولاً...".
لغز الاختفاء
في عام 1978 وجه الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي دعوة لموسى الصدر للمشاركة في احتفالات "الفاتح من سبتمبر". ليسافر في نهاية أغسطس مع رفيقيه محمد يعقوب وعباس بدر الدين، تلبيةً للدعوة.
تمت استضافتهم في فندق "الشاطئ" بمدينة طرابلس من قِبل الحكومة الليبية. وفي يوم 31 أغسطس شوهد الصدر للمرة الأخيرة مع رفيقيه قبل أن تنقطع أخبارهم بشكل كامل دون أن يخلفوا أي أثر.
نفى نظام القذافي اختفاء الرجال الثلاثة أثناء وجودهم على أراضيه، وأكد أنهم غادروا إلى إيطاليا على متن إحدى الطائرات المتجهة للعاصمة روما. من جهتها، نفت الحكومة الإيطالية وصول الصدر إلى أراضيها.
وبحسب المذكرة النهائية للمدعي العام الإيطالي الصادرة سنة 2015، فإن التحقيقات توصلت إلى أن "الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين لم يصلوا ليل 31 أغسطس 1978 إلى مطار روما، وأن جريمة الخطف وقعت في ليبيا إبان حكم القذافي".
أثار اختفاء الصدر ومرافقيه الكثير من الجدل والنقاش في السنوات السابقة، وظهرت العديد من الروايات المفسرة لهذا الاختفاء الغامض. على سبيل المثال أكد وزير الداخلية الليبي الأسبق عبد الفتاح يونس، أن "الصدر ورفيقيه قتلا بعد وصولهما إلى ليبيا بأيام على يد صبري البنا، المشهور بأبي نضال، وهو مؤسس وقائد (حركة فتح المجلس الثوري)، والثلاثة دفنوا في حديقة منزل البنا في طرابلس".
وقال رئيس وزراء ليبيا الأسبق عبد السلام جلود في مذكراته، إن "معمر القذافي طلب من أجهزة الأمن أن تختار شخصاً بحجم وطول الإمام موسى الصدر، ليتقمص شخصيته ويلبس ملابسه ليغادر إلى روما"، الأمر الذي يُفهم منه تورط الأجهزة الأمنية الليبية في عملية إخفاء الصدر.
أشارت أصابع أخرى إلى أن إخفاء الصدر وقع بمعرفة بعض الأجهزة الأمنية الإيرانية التابعة للحكومة الإسلامية. في سنة 2018 قال جلال الدين فارسي مستشار المرشد الإيراني السابق الخميني، إن موسى الصدر كان "يجب أن يُقتل" بسبب تصريحات له حول توحد الأديان والمذاهب.
وأوضح فارسي أن الصدر كانت "لديه روابط قوية بشاه إيران وقال يجب أن نتوحد مع المسيحيين ويجب أن يذهب الشيخ إلى الكنيسة والقس يجب أن يحضر إلى المسجد. صدر هذا الكلام منه وكان يستوجب الوقوف ضده".
عُرف فارسي بعلاقاته الوطيدة مع حكومة القذافي، ولهذا حامت بعض الشكوك حول اشتراكه في جريمة قتل الصدر.
بشكل عام، أثار اختفاؤه عاصفة من الاتهامات المتبادلة بين الكثير من القوى الإقليمية، كما أثر هذا الاختفاء بالسلب على العلاقات اللبنانية الليبية لسنين طويلة. وفي سنة 2002 غاب القذافي عن القمة العربية التي عُقدت في بيروت بعد تردد أنباء عن تلقيه تهديدات من جماعات شيعية لبنانية تنحي باللائمة على ليبيا في اختفاء الصدر.
وبعدها بسنة واحدة، أغلقت ليبيا سفارتها في بيروت بدعوى أن الضغط اللبناني عليها لكي تكشف عن مصير الصدر "يشكل إهانة لها". ووصلت الأزمة بين البلدين إلى أوجها في أغسطس 2008 عندما أصدرت السلطات اللبنانية لائحة اتهام ضد معمر القذافي تتعلق باختفاء موسى الصدر "وصدر أمر الاعتقال القذافي بموجب نص قانوني يتيح للقضاء اتخاذ مثل هذا الإجراء بحق المشتبه بهم الذين يرفضون الاستجابة لاستدعاء رسمي إلى التحقيق".
في سبتمبر 2021، دخلت العراق على خط النقاش الدائر حول قضية اختفاء موسى الصدر، حين أعلن زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر عن تشكيل لجنة للكشف عن مصيره.
وقال عبر حسابه في منصة "إكس" (تويتر سابقاً): "تم تشكيل لجنة مهامها الكشف عن مصير القائد المغيب، السيد موسى الصدر".
في الرابع من أغسطس الحالي، وقع تطور مهم أسهم في إحياء النقاش حول تلك القضية من جديد، حين عرض النائب العام الليبي على السلطات اللبنانية التعاون المشترك في قضية اختفاء الصدر داعياً إلى "موافاة النيابة العامة الليبية بطلب مساعدة قانونية يتضمن تقدير السلطات القضائية اللبنانية للإجراءات التي من شأنها الإسهام في استجلاء حقيقة تغييب موسى الصدر ورفيقيه".