طه حسين
"عميد الأدب العربي" طه حسين عانى من إعاقة بصرية لم تمنعه من إثراء المكتبات العربية بمؤلفاته

ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن السابع الميلادي. لم يمر وقت طويل حتى توسعت الجيوش العربية في بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد فارس والمغرب الكبير. بعد فترة، عرفت تلك البلاد ظهور حضارة جديدة متميزة، وهي الحضارة العربية الإسلامية التي شارك في تشييدها العديد من الشعوب على اختلاف المذاهب والأعراق. بدورهم، شارك العديد من "أصحاب الهمم" في تشييد وبناء تلك الحضارة. نلقي الضوء في هذا المقال على بعض النماذج المُختارة. والتي لم تمنعها اعاقتها الجسدية من التميز في مجالات الأدب والمعرفة والفنون.

 

أبو الأسود الدؤلي... واضع علم النحو

أسلم في حياة النبي. ولكنه لم يره. وشارك بجوار علي بن أبي طالب في حروبه، وكان من شيعته المقربين. عُرف الدؤلي بعرجه الشديد والذي كان يؤثر على مشيه. ومات في سنة 69ه.

ترجع شهرة أبي الأسود الدؤلي إلى وضعه قواعد ثابتة في نطق اللغة العربية. وهي القواعد التي ستُعرف فيما بعد بعلم النحو. دخل الكثير من الفرس والعجم إلى الإسلام في فترة التوسعات العربية. وتكلم هؤلاء العربية دون مراعاة لقواعدها الصحيحة. ومن ثم احتاج المجتمع الجديد لمن يضبط الكلام. وكان أبو الأسود من اضطلع بتلك المهمة الصعبة. تذكر الكثير من الروايات أن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب هو الذي كلف الدؤلي بالعمل على الأمر. يذكر شمس الدين الذهبي في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" أن "علي بن أبي طالب أمره بوضع شيء في النحو لما سمع اللحن. أراه أبو الأسود ما وضع، فقال علي: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، فمن ثم سمي النحو نحواً...". تذكر روايات أخرى أن والي الكوفة زياد بن أبيه هو الذي أمر الدؤلي بوضع قواعد علم النحو. من ذلك ما أورده الذهبي في كتابه "جاء أبو الأسود إلى زياد فقال: أرى العرب قد خالطت العجم فتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاماً يقيمون به كلامهم؟ قال: لا، قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون. فقال: ادع لي أبا الأسود. فدعي فقال: ضع للناس الذي نهيتك عنه".

 

محمد بن سيرين... أشهر مفسري الأحلام

ولد التابعي محمد بن سيرين في سنة 33ه. واشتهر بلقب الأصم لأنه لم يكن يسمع أو كان سمعه ضعيفاً للغاية. حتى كان القاضي عامر الشعبي يقول: "عليكم بذلك الرجل الأصم- يعني ابن سيرين".

أثنى العديد من العلماء على ابن سيرين فوصفوه بأنه "حسن العلم بالفرائض والقضاء والحساب". كما قالوا عنه: "لم يكن كوفياً ولا بصرياً، له مثل ورع محمد بن سيرين" بحسب ما يذكر الذهبي في السيّر. أما أشهر ما عُرف به ابن سيرين فكان تفسيره للأحلام والرؤى. يُنسب إليه كتاب مهم في هذا المجال. كما تمتلئ المصادر التاريخية بقصص تفسيره للأحلام والمنامات الغريبة. حتى أضحى اسمه ملازماً لذلك "الفن" في التقليد الشعبي. ولا يزال الناس حتى اليوم يرجعون لكتابه ليفهموا الدلالات والرمزيات الخاصة بأحلامهم. توفى ابن سيرين في سنة 110ه، ودُفن بالبصرة.

 

عطاء بن رباح... مفتي الحرم

ولد التابعي عطاء بن رباح في سنة 27ه. ويرجع إلى أصول نوبية. وأخذ العلم عن مجموعة كبيرة من الصحابة ومنهم السيدة عائشة، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب.

اجتمعت في عطاء مجموعة من الإعاقات الجسدية التي ندر اجتماعها في إنسان واحد. تذكر المصادر التاريخية إنه كان أعور العين، مشلول اليد، أعرج القدم. كما أنه صار كفيفاً لما كبر سنه. رغم كل ذلك تميز عطاء بشكل لافت للنظر في ميادين العلم الديني. وصفه الذهبي في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" بأنه كان واحداً من أهم علماء مكة في زمانه وبأنه "شيخ الإسلام مفتي الحرم".

في سنة 114ه، توفي عطاء بن رباح. ودفن في مكة المكرمة.

لعبة الشطرنج- تعبيرية
روايات حرّمتها وأخرى أسطرتها.. قصة الشطرنج مع خلفاء وشعراء مسلمين
ظهرت لعبة الشطرنج للمرة الأولى في بلاد الهند في فترة غير معلومة على وجه اليقين. وسُميت اللعبة باسم الشطورانجا، وهو اسم أحد تشكيلات المعارك المذكورة في الملحمة الهندية الشهيرة ماهابهاراتا، ويشير إلى أربعة أقسام من الجيش، وهي الأفيال والعربات والفرسان والمشاة.

بشار بن برد... أشعر أهل زمانه

ولد بشار بن برد في سنة 96ه. ويعود إلى أصول فارسية. تمثلت إعاقة بشار في كونه كفيفاً منذ ولادته. عاصر بشار نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، وظل قرابة السبعين عاماً من عمره ينشد الشعر. واشتهر جداً بين شعراء عصره حتى قيل: "إنه لم يكن في زمن بشار بالبصرة غزل ولا مغنية ولا نائحة إلا يروي من شعر بشار فيما هو بصدده".

ثار الجدل حول بشار بن برد بسبب استخفافه بالناس، ولأنه كان سليط اللسان، ويكثر من الهجاء في قصائده. في أواخر حياته اتهمه بعض العلماء بالشعوبية والزندقة. وتسبب ذلك في إعدامه في زمن الخليفة المهدي في سنة 167ه ودُفن جثمانه في البصرة.

 

أبو العلاء المعري... رهين المحبسين

هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي. ولد في سنة 363ه في معرة النعمان من أعمال حلب الواقعة في شمالي سوريا وتوفى في سنة 449ه. أصيب المعري بالعمى في صغره بسبب مرض الجدري، وعُرف بـ"رهين المحبسين"، لكونه قضى أكثر فترات حياته حبيساً في منزله وحبيساً للظلام الذي عاش فيه بسبب عماه. عُرف المعري باعتباره واحداً من كبار الشعراء والفلاسفة. واشتهر بنظرته التشاؤمية التي عبر عنها في الكثير من أشعاره ومؤلفاته.

ألف المعري العديد من الكتب التي أثرت الحضارة العربية الإسلامية. من بينها ديوان "سقط الزند"، و"ديوان اللزوميات"، و"رسالة الغفران" التي اُعتبرت مصدر الإلهام الرئيس للكاتب الإيطالي دانتي إليجري عند تأليفه الكوميديا الإلهية، و"الفصول والغايات"، و"رسائله إلى داعي الدعاة" والتي تبادل فيها النقاش والحجاج مع داعي الدعاة الفاطمي في مصر المؤيد في الدين الشيرازي. بشكل عام، يُعدّ المعري واحداً من أهم المفكرين الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية عبر جميع عصورها.

الزمخشري... المعتزلي ومفسر القرآن

هو أبو القاسم محمود بن محمد الزمخشري الخوارزمي. ولد بزمخشر الواقعة في أسيا الوسطى/ تركمانستان الحالية في سنة 467ه. ورحل في طلب العلم فزار العديد من الدول الإسلامية. ثم أقام في مكة وتوفي بها في سنة 538ه.

تمثلت عاهة الزمخشري في كونه مقطوع الرجل. يذكر ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" سبب قطع رجل الزمخشري فينقل على لسان الزمخشري "كنت في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط في رجله، فأفلت من يدي فأدركته وقد دخل في خرق فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدتي لذلك، وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت رجله، فلما وصلت إلى سن الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي...".

أسهم الزمخشري في إثراء الحضارة العربية الإسلامية. كان عالماً معتزلياً كبيراً. كما كتب العديد من المؤلفات في فنون التفسير واللغة والآداب. من أشهر كتبه "الرائض في علم الفرائض"، و"أطواق الذهب في المواعظ"، و"كتاب النصائح"، وكتاب "الأمكنة والجبال والمياه"، وكتاب "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" وهو أشهر كتبه على الإطلاق ويُعرف اختصاراً باسم "الكشاف".

البوصيري... الصوفي وصاحب البردة

ولد الشاعر الصوفي محمد بن سعيد بن حماد البوصيري في سنة 608ه في قرية النويرة في صعيد مصر. وترجع اصوله إلى قبيلة صنهاجة المغربية. تمثلت الإعاقة البدنية التي تعرض لها البوصيري في إصابته بالشلل النصفي. فكان نصفه السفلي لا يتحرك.

ينقل محمد أحمد درنيقة في كتابه "معجم أعلام شعراء المدح النبوي" عن البوصيري أنه قرر أن يكتب قصيدة في مدح النبي. وبعد ان انتهى منها نام ودعا الله أن يشفيه من المرض. يقول البوصيري: "نمت فرأيت النبي فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدتُ فيّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي..."!

اشتهرت تلك القصيدة باسم بردة البوصيري، وتألفت من 160 بيتاً. وأشهر أبياتها قوله:

مولاي صل وسلم دائمًا أبداً... على حبيبك خير الخلق كلهم

أثّرت تلك القصيدة بشكل كبير على جميع الأشعار والمدائح النبوية التي صُنفت فيما بعد. على سبيل المثال قال زكي مبارك في كتابه المدائح النبوية في الأدب العربي: "البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلّقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبواباً من السيرة النبوية، وعن البردة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال...". توفي البوصيري في سنة 696ه، ودُفن في مدينة الإسكندرية. وضريحه فيها معروف ويزوره العديد من الصوفية للتبرك.

 

المعاصرون ايضاً

حظي "أصحاب الهمم" المعاصرون ايضاً بفرص عدة لإثبات وجودهم، كما لعبوا ادواراً مهمة في إثراء الحضارة العربية الإسلامية في مجالات الفن والأدب والموسيقى والرسم.

ولد المصري -السوري الاصل- مصطفى صادق الرافعي في سنة 1880م واشتهر بمؤلفاته المهمة في مجالات الشعر والأدب والبلاغة. كما كان عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق. عانى الرافعي من الصمم. إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يصبح واحداً من أقطاب الأدب العربي الحديث في القرن العشرين. كذلك، عرف الحقل الأدبي الفكري مبدع أخر من ذوي الهمم، وهو المصري طه حسين. ولد حسين في سنة 1889م في صعيد مصر. وأُصيب بكفاف البصر في صغره. وتابع دراسته الأزهرية. ثم تحصل على شهادة الدكتوراة من السوربون بفرنسا. وأنطلق بعدها في رحلة إبداعية طويلة تسببت اكسبته لقب "عميد الأدب العربي". كتب حسين عشرات الكتب المهمة ومنها كل من "الفتنة الكبرى"، و"الأيام"، و"دعاء الكروان"، و"في الشعر الجاهلي".

في مجال الموسيقى يظهر اسم الملحن المصري عمار الشريعي. ولد الشريعي سنة 1948م. ولم يمنعه كفاف بصره من التألق في التلحين وتأليف المقطوعات الموسيقية الخالدة. من أشهر أعماله تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسلات "ليالي الحلمية"، و"دموع في عيون وقحة"، و"رأفت الهجان"، و"حديث الصباح والمساء". توفى الشريعي في سنة 2012م عن عمر ناهز 64 عاماً.

في السياق نفسه، يُعدّ الفنان السعودي راكان كردي من بين النماذج العربية الشابة المعبرة عن القدرة على تحدي الإعاقة. يعاني راكان من ضمور عضلي قيده بكرسي متحرك. لم يمنعه ذلك من ممارسة الرسم سواء اللوحات الشخصية أو اللوحات التعبيرية. باع كردي أكثر من 1000 لوحة، وشارك في العديد من المعارض الفنية المميزة.

مواضيع ذات صلة:

المرجع الديني أبو القاسم الخوئي
المرجع الديني الأعلى السابق أبو القاسم الخوئي - مصدر الصور: مؤسسة الخوئي

في التاسع عشر من نوفمبر 1899م، ولد المرجع الشيعي الأعلى السابق أبو القاسم الخوئي، وتوفى في الثامن من أغسطس 1992م عن عمر ناهز 92 عاماً. عاصر الخوئي العديد من الأحداث المهمة في العراق وإيران، كما تزامنت مرجعيته مع فترة حكم النظام البعثي.

من هو الخوئي؟ وكيف تعامل مع نظام حكم صدام حسين؟ وما هو رأيه في الخميني والثورة الإيرانية ونظرية ولاية الفقيه؟

 

الخوئي طالبا

 

ولد الخوئي في بلدة خوي التابعة لأذربيجان حاليا. يعود نسبه إلى الإمام موسى الكاظم، سابع أئمة الشيعة الإمامية الإثني عشرية.

في بلدة خوي، نشأ أبو القاسم مع والده وإخوانه وأتقن القراءة والكتابة وحفظ القرآن. وعندما هاجر والده إلى مدينة النجف في العراق حيث مرقد الإمام علي وعلماء الشيعة، التحق به الخوئي برفقة أخيه الأكبر سنة 1911م. وكان حينها في الثانية عشر من عمره.

بين النجف وقم.. قصة الحوزات العلمية عبر التاريخ
يشير مصطلح الحوزة في الثقافة الشيعية الإمامية الإثني عشرية إلى المكان الذي تُدرس فيه العلوم الدينية، والذي يجتمع فيه طلاب العلم الديني مع أساتذتهم وشيوخهم. تُعدّ حوزتا النجف في العراق، وقم في إيران أهم الحوزات العلمية على الإطلاق. ما هي المراحل التعليمية المختلفة في الحوزات العلمية؟ وما قصة حوزتي النجف وقم؟ وماذا عن التنافس بين الحوزتين؟

بمجرد وصوله إلى النجف، التحق أبو القاسم بالمدارس الدينية المنتشرة في المدينة والمعروفة باسم "الحوزة العلمية". وتدرج في المراحل التعليمية الثلاثة في الحوزات الشيعية، وهي المقدمات، والسطوح، والبحث الخارج.

في النجف، درس الخوئي على يد كبار علماء الحوزة، مثل آية الله الشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة، وآية الله الشيخ مهدي المازندراني، وآية الله الشيخ ضياء الدين العراقي، وآية الله الشيخ محمد حسين الغروي، وآية الله الشيخ محمد حسين النائيني.

 

الخوئي مرجعا

 

حصل أبو القاسم الخوئي على الإجازة في الاجتهاد سنة 1935. واشتغل بعدها مدرسا في الحوزة. في الوقت ذاته، ألف العديد من الكتب في ميادين التفسير والفقه والأصول وعلم الرجال. من أشهر مؤلفاته: "البيان في تفسير القرآن"، و"معجم رجال الحديث"، و"التنقيح في شرح العروة الوثقى".

في سنة 1946م، أصبح الخوئي واحداً من مراجع التقليد المعروفين في النجف وذلك عقب وفاة المرجع أبي الحسن الأصفهاني. وفي سنة 1970م، خلف المرجع الأعلى محسن الحكيم.

اهتم الخوئي بالأعمال الخيرية داخل العراق وخارجه. واستعان بالأموال التي توافرت عنده من الأخماس -نوع من الفرائض المالية الدينية التي يدفعها قسم كبير من الشيعة لمراجع التقليد لتمويل الفقراء والمحتاجين وتموّل الحوزة العلمية مؤسساتها منها- لإقامة عدد كبير من المشروعات.

أسس مؤسسة الخوئي الخيرية التي عملت على تشييد المدارس الدينية والمساجد والمؤسسات التكافلية في العديد من الدول والمناطق، كباكستان، وإيران، وبنجلاديش، والهند، ولبنان، ودول شرق إفريقيا، والولايات المتحد الأميركية.

وتخرج العشرات من كبار علماء الشيعة في العراق وإيران ولبنان اليوم على يد الخوئي. منهم علي البهشتي، وعلي السيستاني (المرجع الأعلى حالياً)، ومحمد إسحاق الفياض، وميرزا جواد التبريزي، وحسين وحيد الخراساني، ومحمد حسين فضل الله، ومحمد باقر الصدر.

 

علاقته مع حزب البعث

 

تزامنت مرجعية الخوئي الدينية مع تصاعد نفوذ حزب البعث العراقي ووصوله إلى السلطة نهاية ستينيات القرن الماضي. وكان من الطبيعي أن تشهد تلك الفترة تضارباً وصداماً بين الجهتين، وهو الأمر الذي أسهم في ابتعاد المرجعية الدينية عن أمور السياسة والحكم في العراق من جهة، ومحاولتها الاكتفاء بالحفاظ على الدور العلمي للحوزة من جهة أخرى.

حاول الخوئي أن يعقد علاقات متوازنة مع النظام البعثي. فعندما سُئل في سنة 1971م "هل رأيتم من حكومة البعث في العراق ما ينافي الدين أو الإنسانية بالنسبة إلى شخصكم الكريم أو إلى الحوزة العلمية أو إلى الإيرانيين؟" أجاب: "لم أر من الحكومة الموقرة إلا خيراً. أما بالنسبة إلى الحوزة العلمية والإيرانيين فقد سمعت من بعض الثقات أن الحكومة تعاملهم معاملة حسنة"، بحسب ما يذكر محمد حسن الكشميري في كتابه "جولة في دهاليز مظلمة".

وكذلك، نجده يسارع إلى إرسال برقية تأييد إلى الرئيس العراقي -وقتها- أحمد حسن البكر، وذلك عندما قام النظام بالإعلان عن تأميم النفط العراقي سنة 1972. جاء في تلك البرقية: "إن الدفاع عن مواطن المسلمين وثروات أرضهم، وفي مقدمتها حماية نفطهم، من أهم الواجبات الشرعية وأخطرها وأن الوقوف عند هذا الحق بصلابة وإيمان ضد الأعداء من أفضل الرعاية لمصالح المسلمين وأمانيهم".

في بعض الأحيان، استغل الخوئي منزلته في المجتمع العراقي في عقد بعض المهادنات مع النظام البعثي. على سبيل المثال، يذكر محمد جواد جاسم الجزائري في كتابه "السيد أبو القاسم الخوئي: رؤاه ومواقفه السياسية" أن الخوئي سافر إلى إنجلترا لإجراء عملية جراحية في سنة 1972م، وفي نفس الوقت قام النظام البعثي بحملة عنيفة ضد رجال الدين في النجف قاصداً تهجيرهم وتخريب الحوزة العلمية.

وبحسب الجزائري، فإن مبعوثاً من قِبل الشاه الإيراني زار الخوئي وطلب منه القدوم إلى إيران. وبعدها، زاره مبعوث عراقي وطلب منه الرجوع إلى العراق. وافق الخوئي على الرجوع للنجف بعدما تحصل على وعد بإيقاف جميع الأعمال ضد الحوزة.

تكرر هذا الموقف بعد خمس سنوات بالتزامن مع وقوع انتفاضة سنة 1977. فعندما حدثت هذه الانتفاضة قام الخوئي بإرسال وفد لمقابلة أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية، لغرض إطلاق سراح المعتقلين أو تخفيف الحكم عنهم. ونجح الوفد في مهمته بعدما ألغيت بعض أحكام الإعدام.

في الثمانينات، ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، حاول صدام حسين إرغام الخوئي على إصدار بيان لدعم النظام العراقي ومهاجمة الحكومة الإيرانية. يذكر الجزائري أن الخوئي رفض هذا الطلب. الأمر الذي أغضب صدام حسين وقتها، وحدا بالسلطات العراقية إلى التحرش بالخوئي وبعدد كبير من مساعديه في أوقات متفرقة.

على سبيل المثال، قامت السلطة بالاعتداء على منزل أكبر أبناء الخوئي -جمال الدين- في محاولة لقتله في سنة 1979م، حسب ما يذكر موقع مركز الخوئي نفسه على الإنترنت. اضطر جمال الدين إثر تلك المحاولة لمغادرة العراق إلى سوريا. وفي سنة 1980، قامت السلطات بتفجير سيارة الخوئي وهو في طريقه لأداء صلاة الظهر. وكذلك تم إعدام المرجع محمد تقي الجلالي، معاون الخوئي الخاص سنة 1982. وصلت تلك التحرشات إلى ذروتها في سنة 1984م، عندما قامت السلطات العراقية باعتقال مجموعات كبيرة من رجال الدين وتلاميذ الخوئي في الحوزة العلمية وأعدمت مجموعة منهم، وفي مقدمتهم المرجع محمد باقر الصدر (مارس 1935 - أبريل 1980).

 

الخوئي والخميني والثورة

 

عُرف عن الخوئي انتقاده الصريح للمحاولات التحديثية التي دعا إليها الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي في ستينيات القرن الماضي، فيما اشتهر وقتها باسم "الثورة البيضاء". في هذا السياق، أرسل الخوئي العديد من الرسائل الداعمة للمظاهرات التي قام بها طلبة المدراس الدينية في إيران في 1963م، كما كان من الداعمين لقائد الثورة الإسلامية في إيران روح الله الخميني، الذي قاد الاحتجاجات ضد الشاه في تلك الفترة.

بعد صدور قرار نفي الخميني إلى العراق، انعقدت علاقات وطيدة بين الرجلين. في كتابه "جرعة من البحر" أشار آية الله شبيري زنجاني إلى العلاقات التي ربطت الخوئي بالخميني أثناء إقامة الأخير في مدينة النجف. ذكر الزنجاني أن المرجعين كانا كثيري التردد على بعضهما البعض، كما اعتادا تبادل الهدايا.

في سنة 1979م، اندلعت الثورة الإيرانية على يد الخميني. لاقت الثورة في بدايتها دعما من الخوئي الذي كان يشغل منصب المرجع الأعلى في النجف في تلك الفترة. رغم ذلك، لم يتمكن الخوئي من التصريح بهذا الدعم على نحو ظاهر بسبب التضييق المفروض عليه من قِبل السلطات العراقية خلال فترة حكم حزب البعث. رغم هذا التوافق بين الخوئي والخميني، إلا أن نظرية ولاية الفقيه التي دعا إليها الخميني كانت واحدة من أهم الخلافات بينهما.

 اعتقد الخميني أنه من الواجب إقامة دولة شيعية يقودها رجل الدين (الفقيه) في زمن الغيبة، أي غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري. أوضح الخميني هذا الرأي في كتابه "الحكومة الإسلامية"، قائلا: "إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين".

اعترض الكثير من علماء النجف على هذا الطرح، وعلى رأسهم المرجع الأعلى أبو القاسم الخوئي. رفض الخوئي الإقرار بولاية الفقيه على الصورة التي دعا إليها الخميني. في كتابه "التنقيح في شرح العروة الوثقى" فرّق الخوئي بين الولاية المطلقة الممنوحة للنبي والأئمة من جهة، والولاية التي يجوز للفقهاء أن يدَّعوها في زمن الغيبة من جهة أخرى.

يقول الخوئي إن "الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل، وإنما هي مختصة بالنبي والأئمة، بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجية فتواه، وليس له التصرف في مال القصّر أو غيره مما هو من شؤون الولاية إلاّ في الأمر الحِسبي".

ومن هنا، فإن ولاية الفقيه المُطلقة التي دعا إليها الخميني ليست أمراً فقهياً صحيحاً بحسب وجهة نظر الخوئي.