ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن السابع الميلادي. لم يمر وقت طويل حتى توسعت الجيوش العربية في بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد فارس والمغرب الكبير. بعد فترة، عرفت تلك البلاد ظهور حضارة جديدة متميزة، وهي الحضارة العربية الإسلامية التي شارك في تشييدها العديد من الشعوب على اختلاف المذاهب والأعراق. بدورهم، شارك العديد من "أصحاب الهمم" في تشييد وبناء تلك الحضارة. نلقي الضوء في هذا المقال على بعض النماذج المُختارة. والتي لم تمنعها اعاقتها الجسدية من التميز في مجالات الأدب والمعرفة والفنون.
أبو الأسود الدؤلي... واضع علم النحو
أسلم في حياة النبي. ولكنه لم يره. وشارك بجوار علي بن أبي طالب في حروبه، وكان من شيعته المقربين. عُرف الدؤلي بعرجه الشديد والذي كان يؤثر على مشيه. ومات في سنة 69ه.
ترجع شهرة أبي الأسود الدؤلي إلى وضعه قواعد ثابتة في نطق اللغة العربية. وهي القواعد التي ستُعرف فيما بعد بعلم النحو. دخل الكثير من الفرس والعجم إلى الإسلام في فترة التوسعات العربية. وتكلم هؤلاء العربية دون مراعاة لقواعدها الصحيحة. ومن ثم احتاج المجتمع الجديد لمن يضبط الكلام. وكان أبو الأسود من اضطلع بتلك المهمة الصعبة. تذكر الكثير من الروايات أن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب هو الذي كلف الدؤلي بالعمل على الأمر. يذكر شمس الدين الذهبي في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" أن "علي بن أبي طالب أمره بوضع شيء في النحو لما سمع اللحن. أراه أبو الأسود ما وضع، فقال علي: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، فمن ثم سمي النحو نحواً...". تذكر روايات أخرى أن والي الكوفة زياد بن أبيه هو الذي أمر الدؤلي بوضع قواعد علم النحو. من ذلك ما أورده الذهبي في كتابه "جاء أبو الأسود إلى زياد فقال: أرى العرب قد خالطت العجم فتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاماً يقيمون به كلامهم؟ قال: لا، قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون. فقال: ادع لي أبا الأسود. فدعي فقال: ضع للناس الذي نهيتك عنه".
محمد بن سيرين... أشهر مفسري الأحلام
ولد التابعي محمد بن سيرين في سنة 33ه. واشتهر بلقب الأصم لأنه لم يكن يسمع أو كان سمعه ضعيفاً للغاية. حتى كان القاضي عامر الشعبي يقول: "عليكم بذلك الرجل الأصم- يعني ابن سيرين".
أثنى العديد من العلماء على ابن سيرين فوصفوه بأنه "حسن العلم بالفرائض والقضاء والحساب". كما قالوا عنه: "لم يكن كوفياً ولا بصرياً، له مثل ورع محمد بن سيرين" بحسب ما يذكر الذهبي في السيّر. أما أشهر ما عُرف به ابن سيرين فكان تفسيره للأحلام والرؤى. يُنسب إليه كتاب مهم في هذا المجال. كما تمتلئ المصادر التاريخية بقصص تفسيره للأحلام والمنامات الغريبة. حتى أضحى اسمه ملازماً لذلك "الفن" في التقليد الشعبي. ولا يزال الناس حتى اليوم يرجعون لكتابه ليفهموا الدلالات والرمزيات الخاصة بأحلامهم. توفى ابن سيرين في سنة 110ه، ودُفن بالبصرة.
عطاء بن رباح... مفتي الحرم
ولد التابعي عطاء بن رباح في سنة 27ه. ويرجع إلى أصول نوبية. وأخذ العلم عن مجموعة كبيرة من الصحابة ومنهم السيدة عائشة، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب.
اجتمعت في عطاء مجموعة من الإعاقات الجسدية التي ندر اجتماعها في إنسان واحد. تذكر المصادر التاريخية إنه كان أعور العين، مشلول اليد، أعرج القدم. كما أنه صار كفيفاً لما كبر سنه. رغم كل ذلك تميز عطاء بشكل لافت للنظر في ميادين العلم الديني. وصفه الذهبي في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" بأنه كان واحداً من أهم علماء مكة في زمانه وبأنه "شيخ الإسلام مفتي الحرم".
في سنة 114ه، توفي عطاء بن رباح. ودفن في مكة المكرمة.

بشار بن برد... أشعر أهل زمانه
ولد بشار بن برد في سنة 96ه. ويعود إلى أصول فارسية. تمثلت إعاقة بشار في كونه كفيفاً منذ ولادته. عاصر بشار نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، وظل قرابة السبعين عاماً من عمره ينشد الشعر. واشتهر جداً بين شعراء عصره حتى قيل: "إنه لم يكن في زمن بشار بالبصرة غزل ولا مغنية ولا نائحة إلا يروي من شعر بشار فيما هو بصدده".
ثار الجدل حول بشار بن برد بسبب استخفافه بالناس، ولأنه كان سليط اللسان، ويكثر من الهجاء في قصائده. في أواخر حياته اتهمه بعض العلماء بالشعوبية والزندقة. وتسبب ذلك في إعدامه في زمن الخليفة المهدي في سنة 167ه ودُفن جثمانه في البصرة.
أبو العلاء المعري... رهين المحبسين
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي. ولد في سنة 363ه في معرة النعمان من أعمال حلب الواقعة في شمالي سوريا وتوفى في سنة 449ه. أصيب المعري بالعمى في صغره بسبب مرض الجدري، وعُرف بـ"رهين المحبسين"، لكونه قضى أكثر فترات حياته حبيساً في منزله وحبيساً للظلام الذي عاش فيه بسبب عماه. عُرف المعري باعتباره واحداً من كبار الشعراء والفلاسفة. واشتهر بنظرته التشاؤمية التي عبر عنها في الكثير من أشعاره ومؤلفاته.
ألف المعري العديد من الكتب التي أثرت الحضارة العربية الإسلامية. من بينها ديوان "سقط الزند"، و"ديوان اللزوميات"، و"رسالة الغفران" التي اُعتبرت مصدر الإلهام الرئيس للكاتب الإيطالي دانتي إليجري عند تأليفه الكوميديا الإلهية، و"الفصول والغايات"، و"رسائله إلى داعي الدعاة" والتي تبادل فيها النقاش والحجاج مع داعي الدعاة الفاطمي في مصر المؤيد في الدين الشيرازي. بشكل عام، يُعدّ المعري واحداً من أهم المفكرين الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية عبر جميع عصورها.
الزمخشري... المعتزلي ومفسر القرآن
هو أبو القاسم محمود بن محمد الزمخشري الخوارزمي. ولد بزمخشر الواقعة في أسيا الوسطى/ تركمانستان الحالية في سنة 467ه. ورحل في طلب العلم فزار العديد من الدول الإسلامية. ثم أقام في مكة وتوفي بها في سنة 538ه.
تمثلت عاهة الزمخشري في كونه مقطوع الرجل. يذكر ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" سبب قطع رجل الزمخشري فينقل على لسان الزمخشري "كنت في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط في رجله، فأفلت من يدي فأدركته وقد دخل في خرق فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدتي لذلك، وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت رجله، فلما وصلت إلى سن الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي...".
أسهم الزمخشري في إثراء الحضارة العربية الإسلامية. كان عالماً معتزلياً كبيراً. كما كتب العديد من المؤلفات في فنون التفسير واللغة والآداب. من أشهر كتبه "الرائض في علم الفرائض"، و"أطواق الذهب في المواعظ"، و"كتاب النصائح"، وكتاب "الأمكنة والجبال والمياه"، وكتاب "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" وهو أشهر كتبه على الإطلاق ويُعرف اختصاراً باسم "الكشاف".

البوصيري... الصوفي وصاحب البردة
ولد الشاعر الصوفي محمد بن سعيد بن حماد البوصيري في سنة 608ه في قرية النويرة في صعيد مصر. وترجع اصوله إلى قبيلة صنهاجة المغربية. تمثلت الإعاقة البدنية التي تعرض لها البوصيري في إصابته بالشلل النصفي. فكان نصفه السفلي لا يتحرك.
ينقل محمد أحمد درنيقة في كتابه "معجم أعلام شعراء المدح النبوي" عن البوصيري أنه قرر أن يكتب قصيدة في مدح النبي. وبعد ان انتهى منها نام ودعا الله أن يشفيه من المرض. يقول البوصيري: "نمت فرأيت النبي فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدتُ فيّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي..."!
اشتهرت تلك القصيدة باسم بردة البوصيري، وتألفت من 160 بيتاً. وأشهر أبياتها قوله:
مولاي صل وسلم دائمًا أبداً... على حبيبك خير الخلق كلهم
أثّرت تلك القصيدة بشكل كبير على جميع الأشعار والمدائح النبوية التي صُنفت فيما بعد. على سبيل المثال قال زكي مبارك في كتابه المدائح النبوية في الأدب العربي: "البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلّقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبواباً من السيرة النبوية، وعن البردة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال...". توفي البوصيري في سنة 696ه، ودُفن في مدينة الإسكندرية. وضريحه فيها معروف ويزوره العديد من الصوفية للتبرك.
المعاصرون ايضاً
حظي "أصحاب الهمم" المعاصرون ايضاً بفرص عدة لإثبات وجودهم، كما لعبوا ادواراً مهمة في إثراء الحضارة العربية الإسلامية في مجالات الفن والأدب والموسيقى والرسم.
ولد المصري -السوري الاصل- مصطفى صادق الرافعي في سنة 1880م واشتهر بمؤلفاته المهمة في مجالات الشعر والأدب والبلاغة. كما كان عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق. عانى الرافعي من الصمم. إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يصبح واحداً من أقطاب الأدب العربي الحديث في القرن العشرين. كذلك، عرف الحقل الأدبي الفكري مبدع أخر من ذوي الهمم، وهو المصري طه حسين. ولد حسين في سنة 1889م في صعيد مصر. وأُصيب بكفاف البصر في صغره. وتابع دراسته الأزهرية. ثم تحصل على شهادة الدكتوراة من السوربون بفرنسا. وأنطلق بعدها في رحلة إبداعية طويلة تسببت اكسبته لقب "عميد الأدب العربي". كتب حسين عشرات الكتب المهمة ومنها كل من "الفتنة الكبرى"، و"الأيام"، و"دعاء الكروان"، و"في الشعر الجاهلي".
في مجال الموسيقى يظهر اسم الملحن المصري عمار الشريعي. ولد الشريعي سنة 1948م. ولم يمنعه كفاف بصره من التألق في التلحين وتأليف المقطوعات الموسيقية الخالدة. من أشهر أعماله تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسلات "ليالي الحلمية"، و"دموع في عيون وقحة"، و"رأفت الهجان"، و"حديث الصباح والمساء". توفى الشريعي في سنة 2012م عن عمر ناهز 64 عاماً.
في السياق نفسه، يُعدّ الفنان السعودي راكان كردي من بين النماذج العربية الشابة المعبرة عن القدرة على تحدي الإعاقة. يعاني راكان من ضمور عضلي قيده بكرسي متحرك. لم يمنعه ذلك من ممارسة الرسم سواء اللوحات الشخصية أو اللوحات التعبيرية. باع كردي أكثر من 1000 لوحة، وشارك في العديد من المعارض الفنية المميزة.