أرشيفية لفرانس برس، تُظهر روح الله الخميني في طهران، عام 1979
أرشيفية لفرانس برس، تُظهر روح الله الخميني في طهران، عام 1979

في  عام 1963 أطلق الشاه محمد رضا بهلوي ما عُرف بـ"الثورة البيضاء"، التي أثارت غضب عدد كبير من رجال الدين منهم روح الله الموسوي الخميني الذي عارَض قرارات الشاه بشدة حتى صدر قرارٌ بسجنه.

عقب اعتقال الخميني اجتمع رجال الدين (آيات الله العظمى) في الحوزة برئاسة السيد محمد كاظم الحسيني الشريعتمداري، وقبلوا الرسالة العلمية التي سبق أن تقدّم بها إليهم الخميني بعنوان "تحرير الوسيلة"، لينال درجة آية الله العظمى، وبهذا اكتسب حصانة قانونية بأمر الدستور الذي يحرّم اعتقال الحاصلين على هذه الرتبة العلمية الراقية.

وأجبر الشاه على الإفراج عن الخميني، وقرر نفيه خارج البلاد، ليرحل إلى تركيا ثم العراق، حيث قضى  فيها 13 عاماً مثيرة للجدل.

 

استقبال حافل في العراق

في تلك الفترة، كانت العلاقات بين العراق وإيران متوترة بسبب العداء الشديد بين جمال عبدالناصر -حليف عبدالسلام عارف حاكم بغداد وقتها- وبين الشاه بلهوي، فاعتُبرت استضافة الخميني فرصة مثالية لبغداد حتى تضرب طهران في مقتل.

وفي 1965 وصل الخميني إلى مطار المثنى الدولي في بغداد قادماً من تركيا، وقضى أيامه الثلاثة الأولى ضيفاً على أحد بيوت آل الجمالي في الكاظمية، بعدها توجه إلى كربلاء ومنها إلى النجف حيث اتخذها مسكناً له.

وفقاً للباحث العراقي علي المؤمن في كتابه "سنوات الجمر"، كانت طهران تأمل في أن "يضيع" الخميني بين عددٍ كبير من الأسماء الفقهية الكبيرة بالعراق ويخفت تأثيره بين تيارهم المنادي بالابتعاد عن السياسة والتفرغ لشؤون الدين التقليدية، لكن ما حدث هو العكس تماماً.

أحدث وصول الخميني إلى النجف رجّة ضخمة بعدما استقبله الأهالي بالأعلام واللافتات على مداخل المدينة وأقيمت احتفالات ضخمة في الصحن العلوي احتفاءً به.

تسابق رجال الدين وأغلب مكونات المجتمع على العراقي على الترحيب بالخميني، حتى أن جهاز السافاك (جهاز الأمن الداخلي الشاهاني) قدّر أنه تلقّى 170 ألف برقية خلال أسبوعٍ واحد، بحسبما ذكر تقي نجاري راد في كتابه "السافاك".

ووفقًا لكتاب "المرجعية الدينية العُليا في النجف الأشرف"، حرص عدد كبير من أعلام النجف على زيارة الخميني فور وصوله مثل السيد محسن الطباطبائي الحكيم والسيد موسى السيد (بحر العلوم) والسيد أبو القاسم الخوئي، وغيرهم من الرموز النجفية الرفيعة.

وذكر فالح عبدالجبار في كتابه "العمامة والأفندي"، أن أسرة الشيرازي كانت أول من استقبل الخميني في النجف، كما حرص الخميني على زيارة السيد محمد الشيرازي في مقر إقامته بكربلاء.

وتجلّى دعم الخميني للشيرازيين عام 1970 حينما قُبض على السيد حسن الشيرازي وقضت محكمة الثورة العراقية بإعدامه بدعوى تخابره مع جهات أجنبية، فتدخل وطلب من بغداد العفو عنه واستجيب لطلبه.

لاحقاً سيقع خلافٌ حاد بين الخميني والشيرازيين بسبب رفضهم لنظرية ولاية الفقيه.

ووفقاً لعلي المؤمن، نال الخميني استقبالاً شعبياً كبيراً، حتى أن بعض  لافتات الترحيب كتب عليها "راية الإسلام ترفرف بيد آية الله الخميني".

 

تحت مجهر "السافاك"

بحسب كتاب "الصراع العربي الفارسي" الذي أشرف على تحريره القيادي البعثي نقولا الفرزلي، فإن الشاه استاء بشدة من احتضان العراق للخميني حتى أنه عرض تحسين العلاقات بين البلدين والقيام بزيارة رسمية إلى بغداد مقابل إخراج الخميني من العراق لكن هذا العرض قُوبل بالرفض.

عاش الخميني في هدوء منشغلاً بإعطاء دروسٍ فقهية داخل مسجد "الشيخ الأنصاري"، حتى باتت حوزته واحدة من أضخم حوزات العلم في النجف، رغم أنه كان يلقيها بالفارسية.

في وقت ذاته، لم يرفع "السافاك" أعينه عن الخميني أبداً. ووفق تقرير كُشف عنه النقاب بعد إسقاط الشاه مؤرّخ بـ17 يوليو 1965، كُتب عن الخميني: "نظراً لسفر المذكور إلى العراق وخشية أن المشار إله سيبدأ من جديد في أنشطته، لذا وجب أن تُعدَّ خطة لمراقبته".

قامت هذه الخطة على إخضاع الخميني للرقابة اللصيقة والعمل على منع إيصال الأموال له ومحاولة بث الدعاية السيئة ضده والإيقاع بينه وبين علماء النجف الكبار.

وشهد عام 1968 صراعاً مريراً بين حكومة العراق البعثية وبين الشاه بسبب دعم الأخير للأكراد، لترحب بغداد باستضافة جميع معارضي الشاه على أراضيها من ضمنهم خاصّة رجال الخميني، حتى أن ابنه مصطفى كان حلقة الاتصال الرئيسة بينه وبين سياسيي بغداد. وخُصّص برنامج إذاعي حمل اسم "النهضة الروحية"، قدّمه الفقيه الشيعي محمود دعائي الذي رافق الخميني طيلة فترة إقامته في النجف.

وفي النجف أظهر الخميني انخراطاً كبيراً للقضايا العربية وتعرّض في خطبه لأحوال العراق وفلسطين وغيرها من الدول، الأمر الذي زاد من شعبيته في أنحاء العالم الإسلامي في ظِل أجواء الإحباط التي سادت الأمة عقب "نكسة يونيو" (حرب ١٩٦٧)، إلا أن قضية الخميني الكبرى ظلّت الهجوم على الشاه.

في 1971 أقام الشاه حفلات ضخمة في ذكرى مرور 2500 عامٍ على نشأة المملكة الفارسية، ندّد بها الخميني عبر بيانات عديدة. وبعدها بسنوات ثلاث، أسّس الشاه حزباً وحيداً في البلاد حرّم الخميني الانتماء إليه.

وحين صوّت البرلمان البهلوي على تغيير التاريخ الهجري إلى التاريخ الشاهنشاهي أصدر الخميني بياناً شديد اللهجة عارَض فيه هذه الخطوة.

ومن أشد الخطابات التي انتقد فيها الخميني واحدٌ وصف فيه الشاه بأنه "خادم أمريكا"، فردّت عليه الدعاية البهلوية بمقال وصفت الخميني بأنه "هندي أسس علاقات مع دوائر الاستعمار البريطاني"، ما أثار حفيظة عدد ضخم من المتظاهرين في مدينة قم، ليخرجوا إلى الشوارع وهم يحرقون نُسخاً من الجريدة ثم دخلوا في مصادمات مع الأمن أسفرت عن عشرات القتلى.

من جانبهم، بذل رجال "السافاك" جهوداً كبيرة لمراقبة زوار الخميني لضمان عدم نقل الأموال أو الرسائل من الخميني إلى العراق، لكن أنصار الخميني في العراق تغلّبوا على هذه الجهود إذ كانوا يبلغون رفاقهم في إيران تلفونياً بأي بيان أو خطبة له، وخلال يومٍ واحد كانت تنتشر في إيران بأسرها.

في النجف، تلقّى الخميني مفاجأة غير سارة بإعلان وفاة ابنه مصطفى متأثراً بذبحة صدرية مباغتة. اشتبه الخميني دائماً في أن لـ"السافاك" يدٍ فيها، ووصفه بـ"الشهيد". وأقام أنصاره مجالس عزاء له في طهران.

بحسب كتاب "الخميني في الميزان" للمفكر الإيراني موسى الموسوي، فإن الخميني طلب من السُلطات العراقية السماح له بدفن ابنه داخل ضريح الإمام علي فوافقت بغداد.

 

معاهدة الجزائر 

عام 1975، وقّع الرئيس العراقي صدام حسين وشاه إيران معاهدة الجزائر التي ألزمت العراق بالتوقف عن مساندة الخميني ورجاله مقابل توقف إيران عن دعم الأكراد.  

في كتابه "الخميني في فرنسا"، كشف هوشنك نهاوندي أنه قبل أيام من مغادرة الخميني، عقد مجلس الوزراء جلسة حضرها جعفر شريف إمامي رئيس الحكومة الذي كشف أن الخميني غادر النجف متوجهاً إلى الكويت التي رفضت استضافته، توقع إمامي  أن يغادر الخميني إلى ليبيا وهو اختيار تمنّاه لأنه سيصعّب من تواصل الخميني مع أتباعه.

وأضاف أن أمير خسرو أفشار وزير خارجية إيران وقتها أكد أنه من الممكن أن يلجأ الخوميني إلى باريس وهو الرأي الذي رفضه رئيس الحكومة الإيراني بشدة وقتها.

بناءً على هذه الفرضية ألمحت طهران إلى بغداد بأن وجود الخميني على أراضيها يتناقض مع العلاقات الودية التي يعتزم البلدان إقامتها بعد اتفاقية الجزائر، التقط العراق الرسالة وناقش "مجلس قيادة الثورة" الأمر وانتهى بقرار الموافقة على التخلُّص من الخميني.

المثير في الأمر أن طهران غيّرت رأيها في اللحظات الأخيرة وبعثت برسالة إلى بغداد تطالبها بعدم السماح للخميني بالرحيل وأن تكتفي بمحاصرة نشاطه ومراقبته، لكن العراق رفض الاستجابة للطلب الإيراني.

وقال هوما كاتوزيان في كتابه "الفُرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة"، إن ذهاب الخميني إلى باريس أدى "دوراً عظيماً في رفع المعنويات الثورية وتحويل آية الله الخميني إلى قائد للثورة ومرشدٍ ذي شخصية طاغية".

وبحسب كاتوزيان، عندما وصل الخميني إلى باريس أصبح محطَّ اهتمام الصحافة الغربية ومزاراً لآلاف الإيرانيين في أوروبا ومُنح لقب "الإمام" وهو لقب استثنائي ليس من المعتاد أن يُمنح لزعيم شيعي ليس من الأئمة الاثني عشر.

وبفضل هذه المكانة والحرية، امتلك الخميني أريحية كاملة لممارسة أنشطته الدعائية ضد الشاه التي لم تنتهِ إلا بإسقاط الدولة البهلوية.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

عازف في فرقة مغربية تقليدية خلال الاحتفال بذكرى المولد النبوي في مدينة سلا (غرب).
كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".