حجر رشيد معروضا أمام الزوار في متحف لندن- أرشيفية
حجر رشيد معروضا أمام الزوار في متحف لندن- أرشيفية

عرفت البلاد العربية ظهور العديد من الحضارات الإنسانية القديمة التي قدمت الكثير من المنجزات  للبشرية، وخلفت وراءها مئات الآلاف من القطع الأثرية المتفاوتة في الشكل والحجم.

وفي العقود السابقة، هُربت الكثير من تلك الآثار إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، لتجد طريقها إلى أكبر متاحف العالم. فما أشهرها؟ وكيف تم تهريبها؟ وهل تمت استعادة أي منها لوطنها الأم؟

 

حجر رشيد

عُثر على الحجر في مدينة رشيد الواقعة شمالي مصر، في 19 يوليو 1799. وتعود قصته لعام 196 قبل الميلاد، عندما أراد الكهنة المصريون الاعتراف بجميل الملك بطليموس الخامس أبيفانس بسبب قراره إعفاء الشعب والمعابد من الديون والضرائب.

في حينه، أصدر الكهنة مرسوماً ينص على وضع تماثيل للملك في المعابد، واعتبروا ذكرى تتويج الملك بمثابة عيد قومي للمصريين جميعاً، ودوّنوا تلك القرارات على قطعة من الحجر البازلتي الأسود -وهو الحجر الذي سيُعرف فيما بعد باسم حجر رشيد- وكتبوا المرسوم بثلاثة خطوط معروفة في مصر في ذلك الوقت.

كان الخط الأول هو الخط الهيروغليفي (النقش المقدس)، وهو الخط المستخدم في الكتابات الدينية القديمة، أما الخط الثاني فكان الديموطيقية (الخط الشعبي)، وهو الخط الشائع في مصر البطلمية، أما الخط الثالث فكان الإغريقي اليوناني الذي استخدمه البطالمة واليونانيون في ذلك العصر.

بعد العثور على الحجر، استولى عليه الفرنسيون أثناء الحملة الفرنسية. ولمّا اتفق الفرنسيون مع الإنجليز على الجلاء من مصر عام 1801، تم الاستيلاء على الحجر -بوصفه أحد غنائم الحرب التي سُلبت من الفرنسيين- وأُرسل إلى لندن.

وفي سنة 1802 أهدى الملك الإنجليزي جورج الثالث الحجر إلى المتحف البريطاني، ليستقر فيه حتى اليوم.

طالبت مصر بعودة الحجر إليها في فترات مختلفة، إلا أن هذا الطلب قوبل بالرفض القاطع بدعوى أن الحجر ملك للمتحف.

 

تمثال رأس نفرتيتي

هو تمثال نصفي للملكة المصرية نفرتيتي زوجة الملك إخناتون من الأسرة الثامنة عشر. ويعود توقيت صناعة هذا التمثال للقرن الرابع عشر قبل الميلاد.

يبلغ طول التمثال 47 سم، ويزن حوالي 20 كيلوجرام، وهو مصنوع من الحجر الجيري المُلون بطبقة من الجص.

عُثر على التمثال في مدينة تل العمارنة القديمة سنة 1912 بواسطة فريق تنقيب ألماني بقيادة عالم المصريات لودفيج بورشاردت، وتم تهريبه وقتها إلى ألمانيا، ليُعرض في عدة متاحف، حتى استقر به المقام في متحف برلين الجديد.

أثارت قضية استعادة التمثال حالة من الجدل المستمر بين مصر وألمانيا منذ عشرينيات القرن الماضي حتى الآن.

 

بوابة عشتار

لا نعرف على وجه التحديد الوقت الذي بُنيت فيه بوابة عشتار للمرة الأولى، ولكن من المعروف أن الملك البابلي الأشهر نبوخذنصر  الثاني قام بإعادة بنائها وتجديدها في سنة 575 ق.م تقريباً.

في تلك الفترة، وضعت البوابة على واحد من المداخل الثمانية المعروفة لمدينة بابل القديمة. واعتبرها العديد من المؤرخين واحدة من أهم وأعظم عجائب الدنيا السبع. قبل أن تُستبدل في وقت لاحق بمنارة الإسكندرية.

بحسب ما ورد في موسوعة "تاريخ العالم"، فإن البوابة نُسبت إلى الإلهة عشتار لأنها كُرست لعبادتها، وقام الفنانون العراقيون القدماء بتزيين جدرانها برسم صور عديدة للحيوانات المقدسة، مثل الأسد الذي يرمز لعشتار. والثور الذي يرمز لإله الطقس "أدد"، والتنين الذي يرمز للإله مردوخ، إله بابل القومي وكبير الآلهة.

بعدها، قام الألمان بتفكيك البوابة لمجموعة من القطع. وقاموا بترقيمها ثم جمعوها ووضعوها في صناديق وأرسلوها بحراً إلى ألمانيا. فيما بعد، أعاد الآثاريون الألمان نصب جزء كبير من البوابة. وعرضوها في متحف بيرغامون ببرلين في سنة 1930.

كُسيت البوابة بكاملها بالمرمر الأزرق والرخام الأبيض والقرميد الملون. كما أُضيفت لها الأبواب المُغطاة بالنحاس، وثُبتت فيها أيضاً مغاليق ومفاصل مصنوعة من مادة البرونز، وبلغ ارتفاعها ما يقرب من 30 متراً، وامتدت على طول 48 متراً.

وتقبع البوابة اليوم في متحف "بيرغامون" في العاصمة برلين، ولكنه مغلق أمام الزوار منذ 23 أكتوبر الماضي، وسيبقى كذلك لسنوات بسبب أعمال الصيانة.

 

الأسد الغاضب

يُعدّ هذا التمثال أحد أهم وأشهر الآثار العراقية الموجودة في أوروبا. عثر عليه عالم الآثار أوستن هنري لايارد سنة 1849، خلال عمليات الحفر والتنقيب التي جرت في موقع النمرود بمدينة كالح القديمة.

يصل وزن تمثال الأسد الغاضب 15 طناً. وهو مصنوع من حجر المرمر. ويُعرف أيضاً باسم "تمثال الأسد ذو الحجم الهائل".

يرى العلماء أن نحت التمثال تم في القرن التاسع قبل الميلاد في زمن حكم الملك الأشوري آشور ناصربال الثاني. وكان التمثال موضوعاً أمام بوابة معبد عشتار بهدف الحماية والحراسة.

خرج التمثال من العراق إلى أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وانتهى به المقام معروضاً في القاعة الآشورية في المتحف البريطاني بالعاصمة لندن.

 

تمثال الإله بعل

يُعتبر هذا التمثال واحداً من الآثار السورية الشهيرة المعروضة خارج سوريا، ويعود إلى الحضارة الأوغاريتية التي تأسست في تل شمرا قرب مدينة اللاذقية الحالية على ساحل البحر المتوسط.

صُنع هذا التمثال من البرونز في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويظهر فيه الإله بعل وهو يرفع ذراعه اليمنى، وبعل كان أحد أهم وأكبر الآلهة السورية القديمة، كانت وظيفته الدفاع عن البشر والآلهة.

تم تهريب التمثال مع غيره من الآثار السورية إلى أوروبا في وقت غير محدد، واستقر به الحال في إحدى قاعات متحف اللوفر بفرنسا.

 

مسلة ميشع

يرجع تاريخ مسلة ميشع إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهي واحدة من أهم القطع الآثارية الأردنية على الإطلاق، لا سيما أنها تحمل أقدم إشارة تاريخية للمملكة اليهودية القديمة.

على جدران تلك المسلة، سجل الملك المؤابي ميشع الذيباني أخبار انتصاراته العظيمة على مملكة بني إسرائيل في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، وتتكون المسلة من 34 سطراً منقوشة على الحجر البازلتي الأسود، وتبلغ أبعادها 124 سم ارتفاعاً و71 سم عرضاً وهي مقوسة من الأعلى.

الجدير ذكره، أن اكتشاف المسلة وقع على يد أحد الرهبان الألمان العاملين في مدينة القدس سنة 1868، وهي محفوظة حالياً في متحف اللوفر بباريس، وجرت بخصوص استعادتها العديد من المناقشات بين الحكومة الأردنية وإدارة المتحف الفرنسي في السنوات السابقة دون جدوى.

 

واجهة قصر المشتى

يقع قصر المشتى على مسافة 32 كيلومتر جنوبي شرق العاصمة الأردنية عمان، ويرجع تاريخ بنائه إلى عصر الدولة الأموية في القرن الثامن الميلادي، ويُعتقد أن بداية بنائه وقعت في زمن حكم الخليفة الأموي الوليد بن يزيد.

كانت الواجهة القبلية التي يقع بها المدخل هي أهم ما تميز به القصر من الناحية المعمارية الجمالية. نُقشت العديد من الزخارف المحفورة في الحجر الجيري على الواجهة، وتضمنت تلك النقوش أشكالاً متعددة لحيوانات مختلفة كالطيور والأسود. بالإضافة لرسومات لبعض الحيوانات الأسطورية.

تسببت العلاقات السياسية في خروج الواجهة إلى أوروبا. وقع ذلك في سنة 1903، عندما قام السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإهداء زخارف قصر المشتى إلى إمبراطور ألمانيا فيلهلم الثاني، تقديراً للمجهودات الكبيرة التي قام بها القيصر في سبيل بناء خط السكك الحديدية الواصل بين عاصمة الدولة العثمانية في إسطنبول من جهة، ومكة من جهة أخرى.

عندما وصلت الواجهة إلى ألمانيا، تم نقلها لمتحف بيرغامون ببرلين، وتم عرضها في قسم الفنون الإسلامية.

من الجدير بالذكر، أن الحكومة الأردنية طالبت باستعادة الواجهة مرة أخرى في السنوات السابقة، إلا أن كل الجهود المبذولة باءت بالفشل.

 

مومياء الأميرة ريديس

توجد العديد من القطع الآثارية السودانية التي تم تهريبها خارج الحدود البلاد في القرن العشرين، وتُعدّ مومياء الأميرة ريديس واحدة من أهم تلك القطع على الإطلاق.

ظهرت الأميرة ريديس على مسرح الأحداث السياسية في مصر والسودان في القرن السابع قبل الميلاد. في تلك الفترة. قام الكوشيون -السودانيون القدماء- بالسيطرة على مساحات واسعة من مصر وقاموا بتأسيس الأسرة الخامسة والعشرين. 

كانت ريديس ابنة للملك الكوشي كاشتا، وتم تنصيبها كزوجة إلهية للإله أمون، وهو واحد من أرفع المناصب الدينية التي عرفتها حضارة وادي النيل في ذلك العصر.

بعد وفاة كاشتا، احتلت ريديس مركزاً مرموقاً في دولة كل من أخيها بعنخي وابن أخيها طهراقا. نوديت بصاحبه السمو، وعُرفت بلقب "سيدة مصر العليا ومصر السفلى". في الوقت نفسه، تولت حكم مصر نيابةً عن أخيها في بعض الأحيان.

لا نعرف كيفية وصول مومياء الأميرة ريديس إلى أوروبا، ومن المُرجح أن تكون المومياء قد نُهبت وبيعت لبعض تجار الآثار حتى وصلت في نهاية المطاف لمتحف الفاتيكان بروما. 

في سنة 2020م، أطلق ناشطون سودانيون حملة وطنية واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لاستعادة المومياء، واستخدموا هاشتاغ  "أعيدوا مومياء الأميرة ريديس".

لاقى الهاشتاغ تفاعلاً كبيراً على المستوى الشعبي، لكنه لم يُفلح في تشجيع الحكومة السودانية على المطالبة باستعادة المومياء رسميا.

 

اليد البرونزية

تُعتبر قطعة "اليد البرونزية" واحدة من القطع الآثارية اليمنية المهمة التي تُعرض الآن في القارة الأوروبية، ويعود تاريخ صناعتها إلى القرن الثاني أو القرن الثالث الميلاديين.

هي عبارة عن يد يمنى من البرونز مستوحاة من يد بشرية مصنوعة بحجم اليد الطبيعية، عُثر عليها في أطلال مدينة شبام سخيم المندثرة -شبام الغراس حالياً- سنة 1983.

نُقشت على اليد ستة أسطر من الكتابة اليمنية القديمة بخط المسند، ويبلغ ارتفاعها 18.50 سم وعرضها 11 سم، أما وزنها فيصل إلى 980 غم تقريباً. نُهبت تلك القطعة من اليمن قبل عقود، وتنقلت بين أيدي عدد من تجار الآثار الأوروبيين، حتى استقر بها المقام في المتحف البريطاني بلندن.

 

مدفع بابا مرزوق

في سنة 1542، صُنع المدفع المعروف باسم "بابا مرزوق" في مصنع الأسلحة "دار النحاس" في الجزائر العاصمة بأمر من الحاكم العثماني آنذاك باي حسن آغا.

ارتبط هذا المدفع بتاريخ الجهاد البحري للجزائر ضد الأوروبيين ما بين القرنين الـ 16 والـ 19 الميلاديين. وصُنع من البرونز، بطول 7 أمتار ووزنه 12 طناً، وبلغ مداه مسافة تتجاوز 5 كيلومترات.

ظل هذا المدفع لقرون منتصباً على ساحل الجزائر، وشارك في العديد من المعارك البحرية حامية الوطيس، لكن في سنة 1830 تغير الوضع بعدما تمكن الفرنسيون من احتلال الجزائر ليقوموا بعدها بفك المدفع ونقله إلى فرنسا، وهناك، تم نقله إلى ميناء بريست في أقصى غرب فرنسا ليطل على بحر المانش. 

طالب الجزائريون كثيراً باستعادة المدفع بسبب ارتباطه بالعديد من لحظات الفخر والمجد الحربي في ذاكرتهم الجمعية. على سبيل المثال، قيل إن: الجزائريين قاموا بوضع القنصل الفرنسي في سنة 1663 على فوهة المدفع ثم قصفوه في وجه الأسطول الفرنسي المهاجم للجزائر في تلك الفترة.

من هنا يمكن تفهم أسباب الجدل المحتدم بين الجزائر وفرنسا حول قضية استعادة المدفع. في أكتوبر 2015، أعلنت وزيرة الثقافة والاتصال الفرنسية سابقاً، فلور بليران، عقب اجتماعها المُغلق برئيس الحكومة الجزائرية وقتها، عبد الملك سلال، أن "مدفع بابا مرزوق التاريخي يُعدّ من أبرز مطالب السلطات الجزائرية، وتم تحديد ورقة (خارطة) طريق تقضي بإرجاعه".

رغم ذلك لا يزال المدفع حتى الآن منتصباً في بريست دون أن يعود لموطنه الأصلي.

مواضيع ذات صلة:

مارتن لوثر كينغ في خطابه الأشهر "لدي حلم"، أمام جماهير غفيرة من الأميركيين في العاصمة واشنطن- تعبيرية
مارتن لوثر كينغ في خطابه الأشهر "لدي حلم"، أمام جماهير غفيرة من الأميركيين في العاصمة واشنطن- تعبيرية

"إذا كان بينكم من امتلك عبداً خلال حياته، فليرفع يده رجاءً"، بهذه الكلمات يبدأ الناشط والمحامي الأميركي المتخصص بقضايا العنصرية جيفري روبنسون محاضرته عن تاريخ العبودية والعنصرية في الولايات المتحدة في إحدى قاعات مسارح مدينة نيويورك.

ينتظر روبنسون لبرهة ليرى ما إذا كان أحد في الصالة سيرفع يده، ثم يكمل "ليس هناك يد واحدة ارتفعت في هذه القاعة. العبودية ليست خطأنا، لم نرتكبها، لم نتسبب بها. لسنا مسؤولين عن حدوثها، لكنها تاريخنا المشترك. وعندما نحاول أن نحوّر التاريخ أو أن نبالغ في شأنه، نكون في حالة إنكار لمن نحن عليه حقاً، ونعيق إمكانياتنا لتخطي الموضوع والسير قدماً كمجتمع وكأمّة".

قامت شبكة "نيتفلكس" بتحويل محاضرة روبنسون إلى فيلم وثائقي بعنوان "من نحن؟"، يبحث في جذور العنصرية الأميركية، ويضيء على جوانب مظلمة من تاريخ العبودية في الولايات المتحدة.

في الثاني من ديسمبر من كل عام، يحتفل العالم باليوم الدولي لإلغاء الرقّ، الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة اتفاقية الأمم المتحدة لقمع الاتجار بالأشخاص واستغلال بغاء الغير في عام 1949.

بحسب الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة، فإن "الرق تطوّر وتجلى بأساليب مختلفة عبر التاريخ. وفي وقتنا هذا، ما زالت بعض أشكال الرق التقليدية القديمة قائمة على نحو ما كانت عليه في الماضي، وتحول بعض منها إلى أشكال جديدة".

وتوثق التقارير الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية "استمرار وجود الأشكال القديمة من الرق المجسدة في المعتقدات والأعراف التقليدية".

ونتجت هذه الأشكال من الرق، بحسب الأمم المتحدة، عن "التمييز القائم منذ عهد طويل ضد أكثر الفئات استضعافا في المجتمعات مثل: أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم من طبقة اجتماعية دنيا، والأقليات القبلية والسكان الأصليين".

 

العبودية في أميركا

قطعت الولايات المتحدة أشواطاً طويلة في الانتقال من العبودية إلى الحرية والديمقراطية، ولا يزال الكفاح مستمراً في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1865، حيث كانت العبودية أحد أسباب اندلاعها، وإعلان سبع ولايات انفصالها مشكّلة الولايات الكونفدرالية، ثم انضمام أربع ولايات أخرى إليها بعد وصول أبراهام لينكولن إلى رئاسة البلاد ليتضمن برنامجه بند إلغاء العبودية، الأمر الذي رفضته الولايات الانفصالية.

وتعود جذور العبودية في أميركا إلى سنة 1619، حينما رست سفينة هولندية على متنها عشرين شخصاً جُلبوا من أفريقيا خلافاً لإرادتهم، إلى المستعمرات البريطانية في ولاية فرجينيا كعبيد.

وفي سنة 1636، جرى إطلاق أول سفينة عبودية أميركية تحت اسم "الرغبة The Desire"، تلاها إنشاء ثلاث سفن أخرى مخصصة لجلب العبيد من أفريقيا حملت أسماء "الثورة"، و"الأمل"، و"الازدهار".

هذه الأسماء، بحسب جيفري روبنسون، تشير إلى "الطريقة التي كان ينظر فيها التفوق العرقي الأبيض إلى العبودية في تلك الفترة".

ويشرح في محاضرته كيف أن العبودية كانت حاضرة في جميع أدبيات ذلك الزمن، وكانت مشرّعة عبر القوانين التي تُسنّ لإدارة العبودية وتعزيزها. وللدلالة على مدى انتشار العبودية بشكل "عادي" في تلك الفترة، فإن ثمانية من أصل أول 12 رئيساً للولايات المتحدة، كانوا مالكين لعبيد.

في سنة 1662، سنّت ولاية فرجينيا قانوناً يعتبر أبناء الأمهات المستعبدات، عبيداً أيضاً. وهدف القانون، بحسب روبنسون "تفادي أن يقوم الأطفال الذين يولدون نتيجة اغتصاب الأسياد البيض للنساء المستعبدات الأفارقة بالمطالبة بالنسب. حتى لو ولدوا بعيون زرقاء أو نمش، هذا لا يجعل منهم بشراً أحراراً بحسب ذلك القانون، بل يولدون عبيداً ويبقون عبيداً".

فرجينيا أقرت بعد ذلك قانوناً آخر يمنع العبيد من أن يصيروا أحراراً عبر اعتناق المسيحية، ويعتبر القانون أن المسيحية بمثابة "هبة من المالك إلى العبد، ولا تغيّر في طبيعة العلاقة بينهما". في 1669، أصدرت الولاية قانوناً آخر، يجيز قتل الشخص المستعبد إذا حاول مقاومة سيّده.

وفي عام 1739 اندلعت ثورة قادها "العبيد" في مدينة ستونو بولاية ساوث كارولاينا، وكانت عنيفة لدرجة أن بعض البيض قطعت رؤوسهم، بحسب روبنسون. وبعد هذه الثورة أصدرت الولاية مجموعة قوانين لـ"ضبط العبيد ومنعهم من التمرّد"، تنصّ على "ضرورة أن يبقى العبد مقيّداً وخاضعاً".

في تلك الفترة التي امتدت من عام 1619 حتى تمرير الكونغرس في 31 يناير 1865، التعديل الدستوري الثالث عشر الذي نصّ أنه "لا يسمح بالرق والتشغيل القسري إلا في حال كان بحكم قضائي، في الولايات المتحدة وفي أي مكان خاضع لسلطتها"، كانت ممارسة العبودية جزءاً من تركيبة المجتمع الأميركي، وكان العبيد جزءا من آلية الإنتاج الزراعي والصناعي، يعملون في إنتاج القطن والتبغ والحبوب، وكان هناك أسواق لبيع وشراء العبيد، كما أن شركات التأمين تبيع بوالص لتأمين حياة العبيد في حال وفاتهم، يحصل المالك بموجبها على مال التأمين.

وكانت المصارف أيضاً تقدم قروضاً لشراء العبيد بالتقسيط. وتقام أسواق العبودية في المدن الرئيسية داخل الولايات. في ولاية ساوث كارولاينا مثلاً، لا يزال متحف سوق العبودية القديم في شارلستون شاهداً على تلك الحقبة.

يقول المدير التنفيذي للمتحف ايستا كلارك خلال مقابلة ضمن الفيلم الوثائقي "من نحن؟"، إن "السوق كان يفتح لستة أيام في الأسبوع، يباع فيه عبيد من أعمار حديثي الولادة حتى سبعين سنة".

ويوضح أن العبيد لم يكونوا يمتلكون أسماء عائلات، بل يعرفون فقط بأسمائهم الأولى، وهذه الأسماء تتغير مع تغير المالك. وفي المتحف نماذج عن أصفاد معدنية كانت تستخدم لتكبيل المستعبدين بالسلاسل، بعضها صمّم ليلائم أطفالاً في عمر ثلاث أو أربع سنوات.

 

"إعلان تحرير العبيد"

بعد فترة قصيرة من تنصيب لينكولن في 1861 اندلعت الحرب الأهلية، وانضمت أربع ولايات جنوبية أخرى إلى الكونفدرالية، فيما استمرت أربع ولايات مؤيدة للعبودية شمال الجنوب الأميركي في الاتحاد.

استجاب لينكولن إلى دعوات مناهضي الرق لتحرير جميع العبيد الأميركيين بعد انطلاق الحرب الأهلية. وفي ظل استمرار الحرب، بدأت الحكومة التي سيطر عليها الجمهوريون آنذاك، تدرك المزايا الإستراتيجية لتحرير الرق المتمثلة في إضعاف الكونفدرالية من خلال تجريدها من جزء مهم من العمالة التي تعتمد عليها.

وبانسحاب 11 ولاية من الاتحاد، تقلص عدد المشرعين المؤيدين للعبودية في الكونغرس. في عام 1862 ألغى الكونغرس القوانين الخاصة بمعاقبة العبيد الفارين، وجرم العبودية في المناطق التابعة للولايات المتحدة والواقعة خارج حدودها الجغرافية، وسمح للينكولن بتجنيد العبيد المحررين في الجيش.

في الأول من يناير 1863، أصدر لينكولن إعلانا بإلغاء الرق، ودعا الجيش إلى تحرير جميع العبيد في الولايات التي لا تزال متمردة وأعلن أن أولئك العبيد الذين قدر عددهم بثلاثة ملايين أصبحوا أحرارا "الآن ومستقبلا وإلى الأبد".

بذلك نجح لينكولن في تحويل الحرب الأهلية من حرب ضد انفصال ولايات عن البلاد إلى "حرب من أجل ولادة جديدة للحرية"، مثلما قال في خطاب "غيتسبيرغ" عام 1863.

أشكال أخرى للعبودية

لم تنته العبودية بشكل حاسم وكامل بعد ذلك التاريخ، إذ استمرت في مراحل مختلفة لاحقاً، كما حصل جرّاء ما عُرف بـ"قوانين جيم كرو"، التي كرّست ممارسات عنصرية في الولايات الجنوبية خصوصاً، تمنع الاختلاط بين البيض والسود، في فصل عنصري صريح وصل حدّ منع السود من ارتياد الحانات التي يرتادها البيض أو الشرب من الماء الذي يشربونه.

ومارست هذه القوانين أبشع أنواع التهميش والإقصاء بحق الأميركيين الأفارقة واستمرت منذ 1876 وبقيت سارية في بعض الولايات حتى ستينيات القرن الماضي.

في عام 1965 كان إقرار قانون الحق في التصويت، بتوقيع من الرئيس الأميركي ليندون جونسون، نهاية مرحلة طويلة من إقصاء الأميركيين الأفارقة من حق التصويت خصوصاً في الولايات الجنوبية، ووضع قيوداً وعقوبات على الولايات التي تحاول تغيير قوانين حقوق التصويت.

إقرار هذا القانون كان نتاج نضالات طويلة خاضها السود وعلى رأسهم في تلك الحقبة الناشط السياسي مارتن لوثر كينغ، الذي ألقى عام 1963 خطابه الشهير "لدي حلم".

وبالفعل تحقق بعض من حلم كينغ مع إقرار قانون حق التصويت، لكنه ما لبث أن اغتيل في الرابع من أبريلن 1968 على يد أحد المتعصبين البيض.

كان لقانون حق التصويت الأثر الأبرز في زيادة تمثيل الأميركيين الأفارقة في مجلسيّ الشيوخ والنواب وفي إدارات الدولة ووزاراتها، وشهدت أميركا في الانتخابات الرئاسية لعام 2008 حدثاً تاريخياً تمثّل في انتخاب باراك أوباما، كأول رئيس أميركي أسود يصل إلى البيت الأبيض واستمر في المنصب لولايتين.

ولا تزال الولايات المتحدة تحرص من خلال قوانينها ومؤسساتها ومجتمعها المدني على محاربة العنصرية، التي يرى كثير من الأميركيين السود أنها لا تزال تُمارَس ضدهم، وتتمظهر خصوصاً في ممارسات الشرطة بحق السود، أبرزها ما حدث مع جورج فلويد، الذي حرّك مقتله على يد شرطي أبيض احتجاجات ضخمة في مختلف الولايات، فصارت قضيته قضية رأي عام، وحكمت المحكمة على قاتله الذي اعترف بجريمته بـ22 سنة ونصف في سجن مينيسوتا.

وفي عام 2014 أثيرت في أميركا قضية التعويضات والديون المالية المترتبة على الخزانة الأميركية لتغطية 250 عاماً من العبودية التي عانى منها السود، حيث يعتبر المطالبون بتسوية مالية لـ"أحفاد العبيد" أنها يمكن ان تعالج ما يعتبرونه "عدم المساواة العرقية" التي لا تزال حاضرة حتى اليوم في أميركا.