صورة أرشيفية لأحد شيوخ الدروز في سوريا- تعبيرية
صورة أرشيفية لأحد شيوخ الدروز في سوريا- تعبيرية

تمكنت الجيوش الإسلامية من فرض سيطرتها على مساحات واسعة من بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد فارس في القرن السابع الميلادي، وخضعت تلك المناطق لسلطة الخلافة الإسلامية لقرون طويلة.

اندمج أهل البلاد في المجتمع الإسلامي بتنوعهم العرقي والديني، لكن ذلك لم يكن السمة الغاالبة وليس في جميع البلدان، حيث ظهرت الكثير من الجماعات المناوئة للسلطة والثائرة على أنظمة الحكم، وهذه بعض الأمثلة.

 

العراق

تُعدّ ثورة الزُطّ التي اندلعت في العراق خلال القرن الثالث الهجري، من أشهر الثورات العرقية التي عرفتها المنطقة العربية عبر التاريخ.

يذكر البلاذري في كتابه "فتوح البلدان"، أن بلاد الهند كانت الموطن الأصلي للزُطّ، وكانوا يمتهنون حرفة رعي الجواميس. ولمّا توسع المسلمون في بعض مناطق الهند في عهد الدولة الأموية قام والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي باستقدام جماعات الزُطّ إلى جنوب العراق، وأسكنهم في منطقة البطيحة ليحفظوا الأمن فيها.

ويقول المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري، في كتابه "العصر العباسي الأول"، إن الحجاج استعان بالزُطّ في زراعة منطقة الأهوار.

بمرور الوقت، ازداد عدد الزُطّ في منطقة البطائح، وعانوا من الفقر والتهميش، ونُظر إليهم باعتبارهم طبقة اجتماعية وضيعة يجب عدم الاختلاط بها. وفي مطلع القرن الثالث الهجري، ضاق الزُطَ بالظروف المعيشية الصعبة التي عاشوها، واستغلوا الاضطراب والفوضى الناشبين في الدولة العباسية بسبب اندلاع الحرب الأهلية بين محمد الأمين وعبد الله المأمون، ليقوموا بالهجوم على سفن البضائع القادمة من البصرة، ومحاصرة بغداد.

بعد انتصار المأمون، أرسل حملات عسكرية للقضاء على ثورة الزُطّ، لكنهم كانوا يهربون في كل مرة. وفي سنة 219 هجرية، عزم الخليفة المعتصم بالله أن يقضي بشكل تام على تلك الثورة، فجهز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل بقيادة عجيف بن عنبسة، وتمكن من تبديد شمل الزُطّ، ونقل الآلاف منهم إلى منطقة الثغور في بلاد الشام، فظلوا بها حتى قضى عليهم البيزنطيون في الحروب المتعددة التي اندلعت هناك.

في العراق أيضاً، حدثت ثورة الزنج. وكان العرب جلبوا جماعات الزنج من شرق أفريقيا إلى العراق في القرن الأول من الهجرة، وأسكنوهم في المنطقة المحيطة بنهري دجلة والفرات.

تمثلت وظيفة الزنج في استصلاح الأراضي الزراعية، لا سيما الإقطاعات التي امتلكها رجال الطبقة الأرستقراطية. وعاش الزنج في ظروف معيشية بالغة الصعوبة، حيث عانوا من الفقر والتضييق وقلة الطعام وانتشار الأوبئة والأمراض فضلاً عن ظروف العمل الشاقة.

بدأت اعتراضات الزنج للمرة الأولى في سبعينيات القرن الأول الهجري عندما احتلوا بعض المزارع والضيع، واستولوا على ما فيها من الثمار والمحاصيل، ولكن سرعان ما تم القضاء على تلك الحركة على يد الخلفاء الأمويين الذين تعاقبوا على كرسي الخلافة.

عادت اعتراضات الزنج إلى الواجهة بشكل أكثر عنفاً في منتصف القرن الثالث الهجري، وحينها تمكن علي بن محمد، وهو فارسي يدعي النسب العلوي، أن يقود جماعات الزنج للثورة.

يذكر ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، أن "علي بن محمد استمال الزنج بالوعود والأماني التي قدمها لهم، فقال إنه يريد أن يرفع أقدارهم ويُملّكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور...".

بعد شهور قليلة، فرض الزنج سيطرتهم على المنطقة الجنوبية الشرقية من العراق، واستولوا على البصرة، كما استغلوا ضعف الخلافة العباسية فوسعوا نفوذهم في المنطقة الواقعة بين الأهواز وواسط.

في سنة 270 هـ، وضع العباسيون حداً لتلك الثورة، حيث تمكن ولي العهد أبو أحمد الموفق بالله من حشد جيش كبير العدد، وتغلب على قوات الزنج وقتل علي بن محمد في المعركة، ليُسدل الستار بذلك على الثورة التي طالبت بتحقيق العدالة الاجتماعية.

نبقى في العراق، حيث ثورة الأيزيديين في سنجار، الذين تعرضوا للعديد من المحن والمصائب. وعلى الرغم من طباعهم التي تميل للتسامح والهدوء، اضطر أصحاب الديانة الأيزيدية -أحياناً- لإعلان الثورة ضد السلطات التي تحكمهم، كما حدث سنة 1893 ميلادية.

كان العثمانيون يعفون الأيزيديين من الخدمة العسكرية في جيوشهم بسبب اختلافهم الديني، وبحسب القوانين المتبعة، كان الأيزيدي الذي يصل لسن التجنيد يدفع مبلغاً مالياً محدداً للسلطة العثمانية مقابل هذا الإعفاء.

يذكر الكاتب الأيزيدي أمين فرحان جيجو، في كتابه "القومية الأيزيدية"، أن وجهة النظر العثمانية اختلفت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، الذي اعتقد أنه من الواجب "هداية الأيزيديين للإسلام"، ولحثهم على ذلك استصدر فرماناً يلزم أصحاب الديانة الأيزيدية بالانخراط في السلك العسكري.

وأُوفد نقيب ديار بكر الحاج مسعود بك، إلى منطقة سنجار في شمالي العراق، في 1890، لإقناع أهلها بتنفيذ الأمر السلطاني. وعندما فشلت مهمة النقيب تم تكليف القائد العسكري الفريق عمر وهبي بإنفاذ الأمر بالقوة، فتحرك الفريق على رأس جيش كبير للمناطق التي يعيش فيها الأيزيديون العراقيون في كل من الشيخان وبعشيقه وبحزاني.

في البداية، قام العثمانيون بمداهمة السكان الأيزيديين، وخربوا العديد من القرى، كما قتلوا المئات من الرجال والنساء والشيوخ. وحوّل وهبي المزارات الأيزيدية المقدسة إلى مساجد ومدارس دينية إسلامية.

أمام هذا الضغط، أعلن الأيزيديون الثورة على الحكم العثماني، فتجمع المئات منهم في جبال سنجار الوعرة، وقاموا بالهجوم على بعض التحصينات العسكرية العثمانية. وكبدوا جيش عمر وهبي العديد من الخسائر البشرية والمادية.

يذكر جيجو أن الثوار اجتمعوا في قرية بكران بقيادة الزعيمين سفوك مطو باشا المسقوري الجوانبي ومحما عبدو الهبابي، واستعدوا للقتال ضد قوات الفريق عمر وهبي. تقدمت عندها القوات العثمانية باتجاه بكران، ودارت بين الفريقين معركة كبيرة في 15 أبريل 1893، انتصر فيها الأيزيديون واضطر وهبي للانسحاب بالبقية الباقية من قواته.

لم يهنأ الأيزيديون طويلاً بهذا الانتصار، إذ سرعان ما توالت الحملات العثمانية على أراضيهم، فاضطروا للخضوع ثانية لسلطة الخليفة العثماني.

 

مصر 

عاش المسيحيون البشموريون في منطقه شمال الدلتا في مصر في القرون التي أعقبت سيطرة المسلمين على البلاد. تذكر سناء المصري في كتابها "هوامش الفتح العربي لمصر"، أنهم -أي البشموريين- عُرفوا بالثورة ضد الحكام الأجانب قبل خضوع مصر للسلطة العربية، حيث ثاروا  على الحكم الروماني في سنة 172 ميلادية.

رفع البشموريون راية الثورة ضد دولة الخلافة الإسلامية لأكثر من مرة في عصر الدولة الأموية. وفي سنة 216 هـ اندلعت ثورتهم الكبرى ضد العباسيين بسبب زيادة الجزية المفروضة عليهم.

تذكر المصادر التاريخية أن الثوار استغلوا طبيعة الأرض الموحلة التي تحيط بهم في إعاقة تقدم الجيوش العربية، وتمكنوا من الانتصار على تلك الجيوش في بعض المعارك المهمة.

تصدى الخليفة المأمون لتلك الثورة وقدم بنفسه إلى مصر للقضاء عليها قبل أن يستفحل خطرها. يذكر عبد العزيز جمال الدين في كتابه "ثورات المصريين حتى عصر المقريزي"، أن المأمون استدعى البابا يوساب بطريرك الكنيسة القبطية المصرية، وأقنعه أن يتخلى عن تقديم الدعم الروحي والمعنوي للثوار.

لم يمر وقت طويل حتى ضعفت الروح المعنوية للبشموريين وهزموا أمام القوات العربية، واُقتيد الآلاف منهم إلى العراق حيث تم تسكينهم في منطقة الأهواز والدجيل، وأجبروا على العمل في استصلاح الأراضي.

 

سوريا

تمكن والي مصر محمد علي باشا من فرض سيطرته على مساحات واسعة من بلاد الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، خلفه في ما بعد ابنه  إبراهيم باشا، الذي قام بتجنيد الرجال استعدادا لمتابعة حروبه ضد الدولة العثمانية.

في البداية، لم يهتم إبراهيم باشا بتجنيد الدروز الموحدين باعتبارهم أقلية دينية، ليغير رأيه لاحقا بإصدار قرار بتجنيد الدروز في الجيش المصري بسبب حاجته للمزيد من القوات المقاتلة.

رفض زعماء الدروز في حوران الامتثال لهذا الأمر، وحاولوا إقناع والي الشام بدفع بدلية من القمح نظير إعفائهم من التجنيد. لم يقبل الباشا بذلك المقترح، وأهان بعض شيوخ الدروز الذين فاوضوه، وعلى أثره اجتمع زعماء الدروز في السويداء. وقرروا إعلان الثورة ضد الوالي.

بدأت المواجهة بين الجانبين في أواخر سنة 1837م، وحقق الثوار نجاحاً باهراً في أول الأمر وتمكنوا من تشتيت القوات المصرية النظامية بعدما استدرجوها إلى بعض النواحي الجبلية الوعرة.

أمام تلك الهزائم، اضطر إبراهيم باشا لحشد جيش كبير قوامه عشرين ألف جندي، وقاده بنفسه لقتال الثوار، وتمكن في نهاية المطاف من الانتصار عليهم، فاضطروا إلى التسليم وطلب الصلح.

في يوليو 1838م انتهت أحداث تلك الثورة بعد تسعة شهور من القتال المتواصل، وعُقد اتفاق بين إبراهيم باشا وزعماء الدروز، تم بموجبه إعفاؤهم من التجنيد مقابل تسليم جميع أسلحتهم والإفراج عن الأسرى المصريين لديهم.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

عازف في فرقة مغربية تقليدية خلال الاحتفال بذكرى المولد النبوي في مدينة سلا (غرب).
كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".