تذكر المصادر الإسلامية الكثير من القصص حول الأطباق الشهيرة التي حفلت بها موائد الخلفاء العباسيين في كل من بغداد وسامراء والموصل.
يحكي ابن طيفور في كتابه "كتاب بغداد" عن أحد ندماء الخليفة المأمون، أنه تناول مع الخليفة طعام الغداء ذات يوم فقال واصفاً تعدد الأطباق "فظننتُ أنه وُضع على المائدة أكثر من ثلاثمئة لون، فكلما وُضع لون نظر المأمون إليه فقال (هذا يصلح لكذا وهذا نافع لكذا!!".
في هذا المقال، قصص لأشهر الأطباق العراقية المتوارثة جيلاً بعد جيل، تبين ارتباط بعضها بالعوامل البيئية والجغرافية والسياسية، وكيف أضحى البعض الآخر جزءاً لا يتجزأ من الطقوس والشعائر المعروفة في بعض الاحتفالات والمناسبات الدينية.
المسكوف
تُعدّ أكلة سمك المسكوف الطبق الرئيسي والوطني في الكثير من أنحاء العراق. بحسب التقاليد العراقية فإن سمك المسكوف من بين الأطعمة التاريخية التي تناولها البابليون والسومريون على ضفاف نهري دجلة والفرات منذ آلاف السنين.
يتم إعداد طبق المسكوف من الأسماك النهرية المعروفة في العراق مثل البني أو القطان أو الشبوط، وتوجد طريقة خاصة لإعداده، حيث يقوم الطهاة في البداية باختيار السمكة التي تنال إعجاب الزبون، ثم يقومون بشقها من جهة الظهر على طول السمكة لغاية رأسها، وبعدها يقومون بتنظيفها جيداً بالملح، ثم يُضاف إليها خلطة مخصوصة مكونة من حامض الليمون مع بعض الخل والكركم والتمر الهندي، ويُشــق في جلد السمكة فتحتان أو ثلاث لمكان تعليق الأوتاد، يتم وضع السمكة بعدها داخل فرن التنور وتوضع أمام النار.
في المُعتاد، يُقدم طبق المسكوف مع السلطات والمخلل وصلصة "العنبة العراقية" وخبز التنور الحار، وجرت العادة على أن يتم تناول السمكة بالأيدي دون استخدام الملاعق، كما اعتاد العراقيون على شرب الشاي بعد الانتهاء من التهام الوجبة.
يُعدّ شارع أبو نواس المطل على نهر دجلة في بغداد، من أهم المناطق التي تنتشر فيها مطاعم سمك المسكوف منذ عشرات السنين، ومن الشائع تناول تلك الوجبة في يوم الجمعة من كل أسبوع بشكل خاص.
في سنة 2015م، توصلت بعثة أثرية إيطالية تنقب في منطقة بالقرب من أور السومرية إلى اكتشاف أقدم طبق "سمك مسكوف" في التاريخ بموقع يدعى "تل أبو طبيرة".
ورغم شهرة وأهمية طبق المسكوف عند الأغلبية الغالبة من العراقيين إلا أنه وبحسب شهادات خبراء بيئيين وصيادين وبائعي أسماك، فإن هذا الطبق بدأ يتأثر سلبياً بشكل ملحوظ بالتغير المناخي وبتراجع الثروة السمكية في البلاد.

الباجة
ينتشر طبق الباجة في الخليج بشكل عام، وفي العراق على وجه الخصوص. ويتشابه هذا الطبق مع أكلة "الكوارع والممبار" المعروفة في مصر، وطبق "كَلِّه باجِه" المعروف في إيران.
يُقال إن أصل طبق الباجة العراقية يعود إلى المطبخ العثماني، وإن سلاطين العثمانيين كانوا يفضلون تناول ذلك الطبق في موائدهم في أول الأمر، ثم انتشرت تلك الأكلة بين العامة، وشاع تقديمها في الأوساط الشعبية والمتوسطة.
يتكون الطبق من اللحم ورأس وعظام وأطراف الخروف أو الأبقار، ويشيع تقديمه في الشتاء على وجه الخصوص، بسبب أنه يعطي الجسم الشعور بالحرارة والدفء.
يتم طهي الباجة عن طريق تجهيز الكوارع -أقدام الخروف أو البقرة- وتنظيفها جيداً، ثم وضعها على النار الهادئة لمدة ثلاث ساعات تقريباً، وبعدها يُضاف إليها البصل والثوم والبهارات والملح.
تقدم ساخنة بجانب طبق من الجرجير والخس والليمون كفاتح للشهية، يبدأ الإقبال على تناول طبق الباجة في المطاعم العراقية منذ ساعات الصباح الأولى وحتى ساعات متأخرة من الليل.
من الجدير بالذكر أيضاً أن طُرق إعداد الباجة في العراق تختلف بحسب المنطقة، فهناك الباجة الموصلية والبصرية إضافة إلى الباجة البغدادية.
يرتبط الطبق ببعض الطقوس والشعائر المعروفة عند الشيعة تحديداً، ففي اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان، يتناول الكثير من الشيعة طبق الباجة العراقية عند الإفطار ويحتفلون بذكرى مقتل عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قاتل الإمام علي بن أبي طالب.

التبيت
من الأكلات التراثية التي عُرفت لسنين طويلة بين اليهود العراقيين. تُعرف بأسماء متعددة بحسب المكان.
في إسرائيل، تعرف باسم الحمين، أما في المغرب فتعرف باسم السخينة أو الدفينة. يتكون طبق التبيت من دجاجة محشية بالأرز المخلوط بتتبيلة متميزة من البصل والطماطم والبهارات كالقرنفل والهيل والفلفل.
أشهر ما تتميز به تلك الأكلة أنها تأخذ وقتا طويلاً في تحضيرها، إذ يتم تحضير طبق التبيت عن طريق الوضع على نار هادئة لمدة طويلة تزيد عن 12 ساعة. عادةً، يبدأ في يوم الجمعة من كل أسبوع، ويتم تناوله في غداء يوم السبت.
كانت التعاليم الدينية اليهودية التي تقضي بعدم العمل بتاتاً يوم السبت هي السبب في طول مدة تحضير تلك الأكلة.
بشكل عام، يحرص اليهود من ذوي الأصول العراقية على تناول طبق التبيت كنوع من أنواع الحفاظ على الإرث والتقاليد القديمة التي نُقلت إليهم جيلاً بعد جيل.
الدولمة
تُعدّ الدولمة العراقية واحدة من أشهر الأكلات المعروفة في بلاد الرافدين، وهي تشبه المحشي المعروف بشكل كبير في مصر وسوريا.
كلمة الدولمة من أصل لغوي تركي وتعني الحشو أو الامتلاء، وكانت الدولمة من الأكلات التركية التي انتشرت في العراق أثناء السيطرة العثمانية عليه.
ويحرص أهل العراق على تقديم الدولمة بشكل مختلف عن التركي، إذ تُقدم في شكل صينية كبيرة يوجد في أسفلها ضلع خروف، فوقه قطع الخضار -مثل الكوسا والخيار والباذنجان- المحشوة باللحم المفروم. وتتميز تلك الأكلة بالبهارات المتعددة التي تُضاف للصينية، منها الفلفل الأسود والملح ودبس الرمان مع عصير الليمون والسماق.

الكص
يعود أصل طبق الكص إلى تركيا، ويشبه إلى حد بعيد طبق الشاورما المعروف في كل من تركيا ومصر وبلاد الشام.
يتكون الطبق من اللحم كمكون رئيس، ومن الممكن أن يكون اللحم المستخدم بقرياً أو لحم غنم، يضاف إليه الكثير من التوابل عند طهيه كالبصل والطماطم ودبس الرمان والسماق والبهارات.
من الشائع تناول الكص العراقي في صورة شطائر مختلفة الأشكال، كذلك يقدم مع الباستا وبعض المعجنات.
اللوفاني
يُقدم اللوفاني في طقوس طائفة الصابئة المندائيين التي تسكن في تجمعات حول نهري دجلة والفرات، وبحسب الطقوس المندائية فإنه هو طعام الغفران الذي يُقدم للمعزين عقب وفاة الميت.
تتحدث الليدي دراوور في كتابها "الصابئة المندائيون" عن طقس اللوفاني فتقول، إن أصله ينحدر من الجذر الآرامي لوفا بمعنى الاتحاد، وتشير كلمة اللوفاني إلى اتحاد الروح والنفس بعد الوفاة.
بحسب التقليد، يقوم أحد رجال الدين المندائيين بتحضير وجبة اللوفاني، ويتم تقديمه للمعزين لمدة أسبوع كامل.
تتكون الوجبة من مجموعة متنوعة من المأكولات، كالخبز والسمك المشوي واللحوم والتمر والماء والرمان والبصل والملح والمكسرات والخضراوات الطازجة.
يتناول الحاضرون الوجبة بشكل جماعي. ويحرصون على الجلوس على مائدة الطعام في شكل زوجين متقابلين، وأن يأكل كل زوجين من الطبق نفسه، وأن يقتسما رغيف الخبز مع بعضهما البعض.
تُتلى بعض الصلوات والأدعية عند تناول وجبة اللوفاني. والهدف الرئيس منها هو طلب السلام والغفران للمتوفى. من أشهر تلك الأدعية "السلام عليكم. سلام الحي عليك. بسم الحي واسم مندا إدهيي منطوقان عليك أيتها المائدة تقبلي طعام الحي وطعام مندا إدهيي، لقد أُقيمت باسم الرب الرحمة للقائمين بها. ولتملأ الرحمة قلوبهم باسمك... أغفر له خطاياه وحوباته وأغلاطه ومساوئه وذنوبه. وأغفر لأولئك الذين هيئ لهم هذا الخبز وهذه النعمة وأغفر لهم خطاياهم وحوباتهم وأغلاطهم ومساوئهم وذنوبهم...".

البيخون/ البوخن
يرتبط ذلك النوع من الطعام بطائفة الأيزيديين الذين يتمركزون في كل من بعشيقة وبحزاني وتلعفر وغير ذلك من المدن العراقية.
يتناول الأيزيديون هذا النوع من الطعام في عيد خضر إلياس، الذي يحين موعده في أول يوم خميس من شهر فبراير من التقويم الشمسي الشرقي المعتمد عند الأيزيديين، يسبقه ثلاثة أيام من الصوم، ويحرص الأيزيديون في تلك الفترة على الامتناع عن ذبح الحيوانات وعلى تناول الخضراوات فحسب في وجباتهم اليومية.
يتبع الأيزيديون بعض التقاليد الخاصة بالأطعمة التي يتم تناولها في هذا العيد، تُعرف باسم "بيخون"، التي تعني بدون دم، وفي ذلك إشارة لعدم سفك دماء الحيوانات التي تُقدم كأضحية في جميع المناسبات الأخرى.
تُصنع البيخون من سبعة أنواع مختلفة من الحبوب والبقوليات المجففة، وهي القمح والفول والحمص والعدس والسمسم والذرة وبذور عباد الشمس.
تُطحن تلك الحبوب مع بعضها البعض، ثم تُعجن ويتم قليها على صاج مخصوص يسمى بـالجافوف، ويُقدم هذا الطعام في صوان بعد ذلك، ويُوزع على الناس وسط مشاعر الابتهاج والفرحة.
أيضاً تقوم الأسر الأيزيدية بطبخ حساء الحبوب واللحم الذي يسمى بالهريسة وبكميات كبيرة لتوزعه على الفقراء والمحتاجين وعلى الجيران والمقربين.
ويعرف المسيحيون العراقيون بعض الأكلات الطقسية التي تُعرف كذلك باسم البوخن، إذ يتناولون هذه الوجبة بعد نهاية صيام الباعوثة/ نينوى، الذي يسبق الصوم الكبير بعشرين يوماً.
يتكون البوخن المسيحي من مادة غذائية تتكون من تحميص سبعة أنواع من الحبوب الشائعة الاستعمال تطحن معاً ثم تملح، وفي الليلة الأخيرة من الصوم تؤخذ كمية منها يتم تقديرها عن طريق وضع ابهام اليد ثلاث مرات في البوخن وتحميل ظهر الإبهام (الظفر) بها ثم دفعها تحت اللسان والركون إلى النوم بأمل الحلم بأحلام تحقيق آمالهم المستعصية، بحسب اعتقادهم.
كما يعتقد الكثير من المسيحيين أن تناول تلك الأكلة في هذا اليوم يساعد في استدعاء الأحلام السعيدة إلى المنام.
القيمة النجفية
تُعد أكلة القيمة النجفية واحدة من أشهر الأكلات التراثية المعروفة في العراق، وتنتشر في العديد من المدن العراقية مثل بغداد وكربلاء والنجف، وغيرها من المدن التي تعيش فيها أغلبية سكانية شيعية.
يعود أصل كلمة القيمة إلى جذور فارسية قديمة بمعنى المرق، وتُنسب في الغالب لمدينة النجف الأشرف، كما تُسمى أحياناً باسم القيمة الحسينية، لارتباطها بمناسبة عاشوراء ومواكب العزاء التي تُقام سنوياً في العاشر من محرم في ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء في سنة 61 هجرية.
توزع تلك الأكلة مجاناً على المشاركين في مواكب العزاء، ويتم طهيها في قدور كبيرة الحجم، ويشارك العشرات من الطهاة المحترفين في طبخها سنوياً.
تتكون القيمة النجفية من إضافة البصل المقلي إلى اللحم والبصل، ثم يضاف الماء الحار والحمص إلى هذا الخليط، ويُترك على النار حتى ينضج الطعام، ثم يتم هرس الحمص مع اللحم. وبعدها تُضاف مجموعة من التوابل الخاصة مثل الكمون والهال والملح، ويُعاد وضع الطعام على النار مرة أخرى حتى يتحول إلى قوام متماسك. تُقدم القيمة بعد ذلك مُضافة إلى الأرز الأبيض.