"مرقد حزقيال" في مدينة الكفل التابعة لمحافظة بابل- تعبيرية
"امرأة عراقية مسلمة في "مرقد حزقيال" في مدينة الكفل التابعة لمحافظة بابل- تعبيرية

كان الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي من أشهر الرحالة في القرن الثاني عشر الميلادي، وكانت من بين رحلاته، العراق، حيث تجوّل بين مدنه العامرة، وترك لنا وصفاً ممتعاً لأهم المعالم العمرانية والحضارية، كما رسم صورة واضحة للتعايش الآمن بين اليهود والمسلمين في بلاد الرافدين.

على الرغم من الشهرة الواسعة لهذه الرحلة، إلا أن الغموض يحفّ بعض أركانها، في ما يتعلق بزمان حدوثها بالضبط والرحّالة نفسه.

بعض الباحثين قال إن "التطيلي كان حبراً يهودياً من مدينة تطيلة القشتالية (حالياً في شمال إسبانيا)، وقام برحلته موفداً من الهيئات اليهودية في إسبانيا للاطلاع على أحوال يهود الشرق". في وقت يرجّح آخرون أنه كان تاجراً؛ بدليل اهتمامه الكبير بوصف الشؤون الاقتصادية التي عاينها في وُجهاته.

وعن التوقيت، ذهب باحثون إلى أن الرحلة بدأت عام 1165، بناء على المعلومات الواردة في كتاب التطيلي عن رحلته، التي تقول إنه خرج أولاً من تطيلة الواقعة في مملكة قشتالة القديمة، قاصداً برشلونة على شواطئ إسبانيا الشمالية الشرقية، ثم تحرك باتجاه سواحل فرنسا الجنوبية، وبعدها اتجه شرقاً نحو الجمهوريتين البحريتين في إيطاليا (جنوا وبيزا)، وزار روما ثم توجه شرقاً حتى بلغ القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية.

بعد ذلك، سافر التطيلي إلى البلدان الإسلامية، فوصل فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وأجزاء من تركيا الحالية وإيران، حتى وصل إلى حدود الهند.

وفي رحلة العودة إلى بلاده، مرّ التطيلي بالسودان واليمن ومصر، وفي سنة 1173، وصل إسبانيا بعد 8 سنوات من الترحال.

انصب اهتمام الكثير من الباحثين على رحلته، كونها وقعت في فترة زمنية حرجة إلى حد بعيد، حيث كانت الدولة الموحدية المسلمة تخوض معركة شرسة ضد الممالك المسيحية في الأندلس. في الوقت ذاته، كان الصليبيون الذين جاؤوا من مختلف أنحاء أوروبا يقاتلون المسلمين المشرقيين في بلاد الشام.

وتالياً، أبرز ما ورد في كتاب التطيلي عن مدن العراق: الموصل وبغداد، وبابل، والكوفة، والبصرة.

صورة لكتاب التطيلي الخاص برحلته حول العالم، النسخة المترجمة للإنجليزية
صورة لغلاف كتاب رحلة التطيلي، النسخة المترجمة للعربية

الموصل: واسعة الأرجاء

كانت مدينة الموصل شمال العراق، محطة وصول التطيلي الأولى من بلاد الشام. وبالحديث عنها في كتابه، ربط بين ما رآه وما قرأه في أسفار العهد القديم (التوراة).

لذلك نجده يصف الموصل بأنها "بلدة آشور الكبرى الواردة في التوراة"، وعن عمرانها يكتب "مدينة واسعة الأرجاء، قديمة البنيان".

وذكر أن 700 يهودي كانوا يعيشون في الموصل آنذاك، بعضهم وصل مكانة مرتفعة في الدولة، بدليل أن أحدهم كان الفلكي الخاص المُعين ببلاط حاكم المدينة.

 

بغداد: الرياض والحقول

المحطة الثانية، كانت بغداد، التي نالت إعجابه جداً، بسبب مظاهر الحضارة والتمدّن والعمران، فأسماها "المدينة الكبرى".

كتب التطيلي: "تمتد حولها (بغداد) الرياض والحقول وبساتين النخيل مما لا مثيل له في جميع العراق. ولها تجارة واسعة، يقصدها التجار من جميع أقطار العالم للبيع والشراء. وفي بغداد عدد كبير من العلماء الفلاسفة والمتفننين في جميع العلوم والمعارف والسحريات...".

وأبدى إعجابه بالأبنية العظيمة القائمة في بغداد، كقوله واصفاً البيمارستان (المستشفى) الذي يقع على الجانب الغربي من المدينة، إنه "مجموعة من البنايات الواسعة، يأوي إليها المعوزون من المرضى رغبة في الشفاء. ولهذا البيمارستان قوامون من الأطباء يبلغ عددهم ستين طبيباً، يعالجون المرضى ويطبخون لهم الأدوية. والخليفة يجهزهم بما يحتاجون إليه من بيت المال...".

أيضاً، اهتم الرحالة اليهودي بوصف القصور العباسية العظيمة التي شاهدها في عاصمة الخلافة، أحدها كما كتب عنه: "واسع الأرجاء، تنوف استدارته على ثلاثة أميال. تتوسطه روضة غناء فيها أشجار مثمرة وغير مثمرة من كل صنف، وفيها من الحيوان ضروب كثيرة، وفي الروضة أيضاً بحيرة واسعة يأتيها الماء من دجلة يخرج إليها الخليفة للصيد والنزهة، وقد جمعت فيها أصناف الطير والسمك لرياضة الملك ووزرائه ورجال بطانته وضيوفه...".

ويسهب التطيلي في وصف عظمة وروعة هذا القصر: "وفي قصر الخلافة من الأبنية ما يحير العقول، ففيه الرخام والأساطين المزوقة بالذهب المزينة بالحجارة النادرة المنقوشة تكسو الحيطان. وفي القصر كنوز وافرة وخزائن طافحة بالذهب وثياب الحرير والجواهر الكريمة".

من جهة أخرى، أظهر التطيلي معرفة واسعة بالأوضاع السياسية السائدة في البلاد الإسلامية، وبدا واضحا عندما تحدث عن منصب الخلافة، فقال إن "الخليفة العباسي من آل بيت نبي المسلمين، وهو إمام الدين الإسلامي، يدين له بالطاعة ملوك المسلمين قاطبة. فهو عندهم بمقام البابا عند النصارى".

وأبدى إعجاباً واضحاً بالخليفة العباسي المستنجد بالله، فكتب أنه "على جانب عظيم من الصلاح والتقوى يأكل من تعب كفيه... وهو موصوف بالتقوى والصدق والاستقامة وطلب الخير لجميع رعيته".

بعد ذلك عمل التطيلي على رسم صورة واضحة للأوضاع المتميزة التي عاش فيها اليهود في العراق. تحدث أولاً عن العلاقة الطيبة التي تجمع الخليفة بعلماء اليهود، فقال إن "المستنجد بالله حسن المعاملة لليهود، وفي حاشيته عدد منهم. وهو عليم بمختلف اللغات، عارف بتوراة موسى، يحسن اللغة العبرية قراءة وكتابة".

ثم بدأ في الحديث عن أحوال الشعب اليهودي، فقال "يقيم ببغداد نحو أربعين ألف يهودي وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهة في ظل أمير المؤمنين الخليفة، بينهم عدد من كبار العلماء وعلماء الدين. ولهم في بغداد عشر مدارس مهمة".

وذكر بعدها أسماء رؤساء المدراس العشر وأنسابهم، ثم تحدث عن عملهم في رعاية مصالح الشعب اليهودي "وهؤلاء الأساتذة العشرة يعرفون بالمعتكفين لا عمل لهم غير النظر في مصالح أبناء طائفتهم. ويقضون بين الناس طول أيام الأسبوع، كل في مدرسته، خلا نهار الاثنين حيث يجتمعون في مجلس كبيرهم للنظر في شؤون الناس مجتمعين".

بعد ذلك خصص التطيلي جزءاً من كتابه للحديث عن "رأس الجالوت"، وهو أكبر المناصب الدينية التي عرفها اليهود العراقيون في العصور الوسطى، فقال إن "الرابي دانيال بن حسداي كان يشغل هذا المنصب في وقت زيارته لبغداد. يناديه المسلمون بـ(سيدنا ابن داود) لأنه كان يمتلك وثيقة تثبت انتهاء نسبه إلى الملك داود". 

وتحدث التطيلي عن كيفية تعيين "رأس الجالوت"، فقال إنه "كان يستمد سلطانه -بالأساس- من تعيين الخليفة له. وأن هذا المنصب كان ينتقل بالوراثة في أبنائه بعد وفاته، فعند نصب الرئيس يمنحه الخليفة ختم الرئاسة على أبناء ملته كافة. وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم. ومن خالف ذلك عوقب بضربه مئة جلدة".

في السياق نفسه، وصف النفوذ العظيم الذي حظي به "رأس الجالوت" داخل العراق وخارجه. من جهة، كان صاحب هذا المنصب "يمتلك العقارات الواسعة والمزارع والبساتين في جميع أنحاء العراق، أكثرها مما ورثه عن أجداده. وأملاكه هذه مصونة، ليس من حق أحد أن ينتزعها منه. وله إيراد سنوي عظيم من الفنادق والأسواق والمتاجر...".

ومن جهة أخرى، كان نفوذ "رأس الجالوت" يسري على جميع طوائف اليهود المنتشرة في العراق واليمن والجزيرة وأرمينيا وبلاد التركمان وآسيا الوسطى وروسيا والهند، بحسب ما ورد في الكتاب،  "هذه الأقطار كلها لا يُعين الرابيون إلا بمعرفة رأس الجالوت، وهم يشخصون إلى بغداد بعد نصبهم لمقابلة الرئيس، ويحملون إليه الهدايا والعطايا من أقصى المعمورة...".

ظهرت آثار تلك الثروات في كنيس "رأس الجالوت"، الذي كان أحد أعظم الأبنية الدينية القائمة في العراق، وصف التطيلي الكنيس بأنه "بناء جسيم، فيه الأساطين الرخام المنقوشة بالأصباغ الزاهية المزوقة بالفضة والذهب. وتزدان رؤوس الأساطين بكتابات من المزامير بحروف من ذهب. وفي صدر الكنيسة مصطبة يصعد إليها بعشر درجات من رخام، وفوقها الأريكة المخصصة لرأس الجالوت أمير آل داود...".

 

بابل: الأطلال

في بابل وما جاورها من المدن، ذكر بنيامين التطيلي، أن قرابة 20 ألف يهودي كانوا يعيشون هناك، أغلبيتهم تقيم حول معبد مشهور منسوب للنبي دانيال. أما بابل نفسها فإنها "تحولت إلى خرائب. ولم يبق منها إلا الأطلال والآثار القديمة".

من تلك الآثار، تحدث عن قصر الملك البابلي الشهير نبوخذ نصر، فقال إن "الناس تخاف الولوج فيه لكثرة ما به من عقارب وأفاع".

وروى التطيلي أيضاً عن "مرقد حزقيال" المُقام على شاطئ نهر الفرات "وهو بناء جسيم يحتوي على ستين صومعة، لكل منها برج. ويتوسط أكبر هذه الصوامع منبر، خلفه مرقد النبي حزقيال... وتعلوه قبة كبيرة هي آية في حسن الإنشاء".

وذكر أن اليهود يعظّمون هذا المقام، ويحجّون إليه كل سنة، فتُقام الأفراح والمهرجانات، وتضطر الجموع الغفيرة إلى الإقامة في العراء، ويقيم الأعراب في هذا الموسم سوقاً عظيمة يبيعون فيها مختلف أنواع السلع.

بحسب التطيلي، كان الكثير من المسلمين يزورون هذا المقام، ويقيمون فيه الصلاة، مؤكداً على "احترام المسلمين للمقدسات اليهودية" عند حديثه عن بعض القبور اليهودية الموجودة بجوار "مرقد "حزقيال"، فقال إن "القبور تحظى بتعظيم كافة أهل العراق على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، فهذه الأبنية كلها محافظ عليها من اليهود والمسلمين. لا يمسّها أحد بضرر حتى في أيام الحروب".

 

الكوفة والبصرة: معابد اليهود

وصل التطيلي محطته الأخيرة في العراق. الكوفة والبصرة. وجد في الكوفة سبعة آلاف يهودي يعيشون "بأمان وسلام، ولديهم العديد من المعابد التي يقيمون فيها شعائر دينهم، منها كنيس عظيم بالقرب من الكوفة، وسبب عظمته أن اليهود اعتقدوا أن آباءهم جلبوا حجارته وترابه من القدس".

لم ينس التطيلي أن يتحدث عن مرقد الإمام علي بن أبي طالب في الكوفة، فذكر أن المسلمين يحجّون إليه للزيارة والتبرك.

في البصرة، وجد "نحو عشرة آلاف يهودي بينهم العلماء والعظماء"، وقال التطيلي إن "المقام المنسوب لعزرا الكاتب، يقع بالقرب منها، وقد حظي بأهمية كبيرة في العراق، إذ يأتيه المسلمون فيقيمون الصلاة فيه. وكذلك اليهود، وهم على صفاء وولاء في ما بينهم".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".