في السادس من يناير، يحتفل المسيحيون حول العالم بعيد الغطاس، أو ما يسمى أيضاً "عيد الظهور الإلهي"، "عيد الدنح"، عيد العماد"، إحياء لذكرى معمودية المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، وهو الحدث الذي أظهر يسوع للعالم علناً.
ويسمى "الغطاس" لأن التعميد يتم من خلال تغطيس الطفل بالماء، فيما يدعوه كلدان العراق أو الموارنة والسريان بـ"الدنح"، التي تعني الظهور والإشراق في اللغة السريانية.
وليوحنا المعمدان مكانة هامة ومقدسة، ليس عند المسيحيين فقط، إنما لدى المسلمين والصابئة المندائيين أيضاً، مع اختلافات بسيطة في تفاصيل القصة، عطفاً على كل عقيدة.
في المسيحية: يوحنا المعمدان
لم تُشر الكتب اليهودية المقدسة إلى شخصية يوحنا المعمدان على الإطلاق، ولكن جاء ذكره باختصار في بعض الكتب التاريخية، منها كتاب "عاديات اليهود" للمؤرخ اليهودي يوسفيوس فلافيوس في القرن الأول الميلادي.
بحسب هذا الكتاب فإن يوحنا كان رجلاً يهودياً تقياً يعظ اليهود ويعمّدهم بالماء على ضفاف نهر الأردن. بناء على تلك المعلومات القليلة، ذهب بعض الباحثين إلى أن يوحنا كان واحداً من جماعة الأسينيين الذين ظهروا في فلسطين قُبيل عصر المسيح، وعُرفوا بالعيش في الصحاري والبراري، كما اشتهروا بالزهد والتبتل والوعظ.
في المقابل، توسع العهد الجديد في الحديث عن يوحنا المعمدان، لا سيما في الأجزاء التي تناولت الفترة المبكرة من عمر المسيحية.
وذكرت الأناجيل الأربعة أن يوحنا هو ابن الكاهن زكريا وأليصابات. جاء في إنجيل لوقا الإشادة بهما "...وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا...".
يذكر العهد الجديد أن القرعة وقعت على زكريا ليدخل إلى الهيكل المقدس ويُبخِّر (من البخور)، وبينما هو في الهيكل ظهر له ملاك الرب وقال له "لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ، لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّب".
بحسب التقليد الكنسي المتوارث، ولد يوحنا قبل المسيح بستة أشهر، ومال منذ صباه للزهد والنسك، وعاش أيامه في صوم وعبادة وبتولية. عُرف عنه أنه كان يعيش في البراري، ويلبس الثياب المتواضعة، بل تقول الأدبيات المسيحية إنه "لم يكن يأكل إلا الجراد والعسل البري".
تحدث الإصحاح الأول من إنجيل مرقس عن الدور المهم الذي لعبه يوحنا في إرشاد ووعظ اليهود في الفترة التي سبقت ظهور المسيح، فيقول: "كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُم...". في تلك المرحلة، ألتف الكثير من الأتباع حول يوحنا. ونظروا إليه باعتباره المرشد الروحي لهم. وكانت له شعبية كبيرة في فلسطين. وامتدحه المسيح فقال عنه "لم يقم بين المُولدين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان".
حانت نهاية يوحنا لمّا قام بانتقاد وتوبيخ ملك الجليل هيرودس أنتيباس، بسبب زواجه بامرأة أخيه هيروديا. يذكر العهد الجديد أن هيرودس قبض على المعمدان وزج به في السجن.
في إحدى الليالي رقصت سالومي -ابنة هيرودا- أمام هيرودس، وسلبت عقله بفتنتها، فتعهد بأن يلبي أي طلب لها في نهاية الليلة، وعندما سألها عن طلبها، قالت -بإيعاز من أمها- أنها تريد منه رأس يوحنا المعمدان.
أمر هيرودس أحد الحراس أن يذهب للسجن ليقتل يوحنا، وبعد عدة ساعات، جاء الحارس وقدم له رأسه على طبق من ذهب.
بحسب التقاليد الكنسية، دفن أتباع يوحنا جسد أستاذهم. بينما نُقل رأسه في ما بعد إلى دمشق، ودُفنت في مكان الكنيسة التي سميت باسمه.
في الإسلام: النبي يحيى
يؤمن المسلمون بأغلب التصورات المسيحية عن يوحنا المعمدان، وإن تغيرت بعضها لتتوافق مع الأسس العقائدية الإسلامية.
وردت الإشارة له في السردية الإسلامية بصيغة مختلفة، وهي "يحيى"، بالتالي ذُكر في القرآن في خمسة مواضع متفرقة. وتوافقت القصة القرآنية مع القصة الإنجيلية في ما يخص ولادة يحيى للنبي زكريا في عمر متأخر، وفي أن زوجة زكريا كانت عاقراً لا تُنجب.
كما تقول الرواية الإسلامية، إن هناك صلة قرابة بين يحيى وعيسى. على سبيل المثال، ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أن جمهور علماء المسلمين ذهبوا إلى أن أم يحيى هي أخت مريم.
وُصف النبي يحيى في القرآن بأنه "حصور"، واختلف المفسرون في معنى ذلك، حيث ذهب البعض إلى أنه كان لا يقرب النساء بسبب المرض والعجز، فيما قال آخرون إنه كان زاهداً متبتلاً اعتزل النساء مع توافر القدرة الكاملة على المعاشرة الجنسية.
كذلك اختلف المسلمون حول ما جاء في القرآن من وصف يحيى "لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا"‘ ففسرها البعض بأن يحيى كان أول من سُمي بهذا الاسم من بني إسرائيل، بينما قال آخرون إن يحيى كان متفوقاً على جميع مواليد بني إسرائيل الذين سبقوه بالعبادة والتقوى والورع.
لم يذكر القرآن شيئاً عن قيام يحيى بتعميد المسيح، ويتفق ذلك من عدم أهمية طقس العماد في المُعتقد الإسلامي. من جهة أخرى، وردت بعض الأخبار التي تبيّن علو مكانة المسيح على مكانة يحيى.
نقل ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض الإخباريين قولهم، إن "زوجة زكريا كانت تقول لمريم أثناء فترة حملهما: إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك".
في سياق آخر، شغل النبي يحيى مكانة مهمة في الأديان والمذاهب المتفرعة عن الإسلام، مثال عليه أن الموحدين الدروز الذين يؤمنون بالتقمص والتناسخ، يقولون إن روح النبي إيليا (الخضر) تجسدت مرة أخرى في جسد النبي يحيى.
ويعتقد البهائيون أن يحيى كان بمثابة الباب (بمعنى المبشر والممهد) للمسيح، كما كان علي محمد الشيرازي المتوفى سنة 1850 "الباب" لبهاء الله، حسين علي النوري.
في المندائية: يهيا يوهانا
يشغل يوحنا المعمدان مكانة مهمة في الوجدان الجمعي للصابئة المندائيين، حتى أن اسمه لا يذكر إلا وتُتبع بعبارة "مبارك اسمه"، كما يُنسب له كتاب "دراشة أد يهيا" وهو أحد كتبهم المقدسة.
ذكر الباحث العراقي خزعل الماجدي، في كتابه "الميثولوجيا المندائية"، أن المندائيين يسمون المعمدان باسم "يهيا يهانا"، ويعتقدون أنه ابن الكاهن زكريا وزوجته أنشبي.
كما يعتقدون أن الكاهن اليهودي أليزار بَشّر زكريا بقرب ولادة يهيا، وأن زكريا لما سمع بذلك تعجب لكبر سنه وكبر سن زوجه.
بحسب التقليد المندائي، فإن الملائكة حملت يهيا من عالم النور ووضعته في رحم أمه، فمكث فيه لمدة تسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق. بعد ولادته، قدم الملاك أنوش وحمله إلى السماء، وعمده في أحد أنهار الفردوس، ثم وضعه تحت ثمار شجرة عظيمة ليتغذى منها.
وبعدها، علمه القراءة والكتابة، وظل يهيا في عالم الأنوار حتى بلغ الثانية والعشرين من عمره، ثم حملته سحابة إلى أرض أورشليم مرة أخرى.
يذكر التقليد المندائي كذلك، أن يهيا عُرف بممارسة العمل الوعظي، وقام بانتقاد اليهود وتوبيخهم بسبب عصيانهم لأوامر الرب. كما اشتهر باستخدامه ماء نهر الأردن في غسل ذنوب المؤمنين المندائيين، وقام بتعميد يسوع بن مريم، الذي يعتقد المندائيون أنه كان مندائياً ثم تحول إلى ديانة جديدة لاحقاً.
يذكر الماجدي في كتابه، أن يهيا لم يكن يريد الزواج حتى لا ينشغل عن عبادة الرب، ولكن الملائكة أخبرته بأن يتزوج، فاختار عندئذً امرأة تقيّة تُدعى "أنهر" فتزوجها، وأنجبت له أربعة من الذكور، وأربعة من الإناث.
تنقل الليدي دراور في كتابها "الصابئة المندائيون"، الأسطورة الشعبية التي تناولت قصة وفاة يهيا. تروي أن هناك بعض الظواهر الكونية الغريبة التي وقعت مع قرب وقوع وفاته، حيث أحيطت الشمس بالهالات، وخُسف القمر، وتوقفت الرياح عن الحركة. وبينما كان يهيا يمارس عمله الوعظي، أتاه طفل عمره ثلاث سنوات وطلب منه التعميد، لما نزل الطفل إلى النهر ارتفع الماء كالجبال وجف النهر.
حينذاك، عرف يهيا أن هذا الطفل كائن سماوي نوراني عظيم، واصطحب معه روح يهيا إلى عالم الأنوار، وبقي جسده مُلقىً على ضفة النهر، لتأتي الطيور الجارحة وتنهشه وتأكل لحمه، بعدها رمى الطفل الجثمان بحفنة من التراب، فاختفى الجثمان وصار هذا الموضع قبراً ليهيا.
وحسب السردية المندائية، فإن اليهود اضطهدوا المندائيين بعد وفاة يهيا، ما أدى لهجرة الكثير من المندائيين إلى العراق، حيث استقرّوا جيلاً بعد آخر.