مر التصوف كغيره من المذاهب الإسلامية بالعديد من المراحل التاريخية المفصلية التي شكلته كمذهب فكري مهم. وأحياناً، اتجه المتصوفة للعنف فدخلوا في منازعات مع المخالفين لهم، ولكن في الغالب مالوا للهدوء والتعايش السلمي، حتى أضحى التسامح وقبول الآخر علامة مميزة لهم عبر القرون.
نلقي الضوء في هذا المقال على بعض التجليات الصوفية للتسامح، التي ظهرت في أشعار وكتابات ومواقف كبار الصوفية في التاريخ الإسلامي.

رفض احتكار الحقيقة المطلقة
رفض الكثير من المتصوفة القول باحتكار الحقيقة المطلقة، فتسامحوا مع باقي الأفكار والآراء وقبلوا بوجودها، ولم ينشغلوا بالعمل على القضاء عليها.
في كتابه "التصوف: الثورة الروحية في الإسلام" عمل الباحث أبو العلا عفيفي على تفسير هذا التوجه، فذكر أن الصوفية فهموا "الحقيقة" بشكل مختلف عن فهم باقي المذاهب. فهب بالنسبة لهم "المعنى الباطن المستتر وراء الشريعة. بالتالي فإنهم لم يفهموا في أي وقتٍ من الأوقات من الدين حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها، بل كانوا دائماً ينحون في فهم الدين والشريعة نحواً يختلف قليلاً أو كثيراً عن نحو الفقهاء، وفي هذا تظهر ثورتهم عليهم".
هذا الفهم حدا بالمتصوفة لرفض الاعتماد على المعنى الحرفي للنص الديني، فأُتيحت لهم فرصة تأويل النص بما يتسق مع الروح المتسامحة التي لطالما ميزت مذهبهم وطريقتهم.
تُعدّ مسألة الجهاد واحدة من أهم المسائل التي تظهر اختلاف التأويل الصوفي للمفاهيم المرتبطة بالشريعة. على سبيل المثال يشرح محي الدين بن عربي -وهو من كبار شيوخ الصوفية في القرن السابع الهجري- مفهوم الجهاد في كتابه "الوصايا"، قائلا في نُصح مريديه "...وعليك بالجهاد الأكبر، وهو جهاد هواك، فإنك إذا جاهدت نفسك هذا الجهاد، خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء الذي إن قتلت فيه كنت من الشهداء الذين عند ربهم يرزقون...".
من هنا، يقرر عفيفي نظرة الصوفية للجهاد "فمجاهدة النفس في سبيل الله أعظم خطراً وأعلى قدراً في نظر الصوفية من الجهاد في نصرة دين الله".
انفتاح الصوفية على باقي الأفكار لم يبق رهيناً بالتراث والتاريخ فحسب، بل بقيت تلك الصفة قائمة بين جموع المتصوفة حتى الآن. يقول الباحث المصري عمار علي حسن في كتابه "الصوفية والسياسة في مصر" إن الأغلبية الغالبة من الصوفية لديها استعداد لسماع الرأي الآخر، حتى ولو كان انتقاداً لاذعاً يمس جوهر الطريقة الصوفية ذاته.
وذكر الباحث الفرنسي الجنسية المسلم الديانة، إريك يونس جوفروا، في كتابه "المستقبل للإسلام الروحاني" أن التصوف بما فيه من انفتاح على كافة الأفكار الموجودة، يمكن أن يكون البديل الحقيقي لجميع تيارات الإسلام السياسي التي تقوم على ركائز التعصب والكراهية ورفض الآخر.
الاعتراف بجميع الأديان
انفتاح الصوفية على الأفكار المخالفة لهم، قادهم لقبول كافة الأديان والمذاهب التي تعايشوا مع معتنقيها في سلام وأمان. أورد الصوفي الكبير أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري في كتابه "فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة" الحديث الشهير المنسوب للنبي "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"، لكن بصيغة مختلفة، إذ قال "ستفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة".
وفي الكتاب نفسه، فتح الغزالي "باب الخلاص" أمام معتنقي الأديان الأخرى عندما قال إن "أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والفرس ولم تبلغهم الدعوة...".
قبول الآخر والانفتاح على المخالف الديني ظهر كذلك في العديد من القصائد الشعرية الصوفية التي ذاعت على الألسن على مرّ الزمان، من أشهرها قول ابن عربي:
"لقد صار قلبي قابلاً كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ * وألواح توراة، ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ * ركائبه، فالحب ديني وإيماني"
في القرن السابع الهجري، تأصلت هذه الروح في نفوس جموع الصوفية من خلال دروس جلال الدين الرومي في مدينة قونية بالأناضول. في كتابه الشهير "المثنوي" حكى الرومي لتلاميذه قصة الفيل والعميان، وهي قصة مقتبسة من التراث البوذي، تحكي عن مجموعة من العميان أحاطوا بفيل كبير الحجم كل واحد منهم أمسك بجزء منه، وبعدها أقسم كل منهم أنه كان بجوار شيء مختلف بناءً على تجربته الخاصة بالجزء الذي كان قريباً منه.
من خلال تلك القصة الطريفة، علم الرومي تلاميذه أنه لا سبيل للإحاطة بكامل الحقيقة وأن هناك سُبلا متعددة للوصول لها. في هذا المعنى قال الرومي جملته الشهيرة "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"، كما قال في موضع آخر من كتابه "اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف".
في دراسته "التصوف الإسلامي ومشروعية التسامح جلال الدين الرومي نموذجاً"، يذكر الباحث شويني علي أن طريقة الرومي في التسامح مع باقي الأديان أتت أكلها في إشاعة السلام والطمأنينة بين أتباع الأديان المختلفة، إذ روي أنه لمّا خرجت جنازة جلال الدين الرومي ازدحم عليها أهل بلده، وشيعها حتى النصارى واليهود وهم يتلون الإنجيل والتوراة، وبلغ ذلك حاكم البلد قونية، فقال لرهبانهم "ما لكم وجنازة عالم مسلم فأجابوه: به عرفنا حقيقة الأنبياء السابقين، وفيه رأينا سيرة الأولياء الكاملين".

العفو والصفح
ظهر تسامح الصوفية أيضاً في ميلهم للعفو والصفح عن أعدائهم، ووضح ذلك الملمح في سيّر العديد من كبار المذهب. يذكر علي بن أنجب الساعي البغدادي في كتابه "أخبار الحلاج" أن الصوفي الكبير الحسين بن منصور الحلاج لمّا قُبض عليه واُقتيد للقتل دعا الله وقال "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك. فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليتُ بما ابتليت".
كذلك ظهر ملمح التسامح مع الأعداء والمبغضين في سيرة الصوفي أحمد بن علي الرفاعي، الذي تُنسب له الطريقة الرفاعية المنتشرة في العراق وسوريا ومصر. يسجل عبد الوهاب الشعراني في كتابه "الطبقات الكبرى"، العديد من القصص التي تعبر عن ذلك الاتجاه، من ذلك أنه قد "لقيته مرة جماعة من الفقراء فسبوه وقالوا له يا أعور يا دجال يا من يستحل المحرمات، يا من يبدل القرآن يا ملحد يا كلب"، فلم يزد الرفاعي عن كونه قد عاملهم بكل لين ورفق وتواضع، وكشف لهم عن رأسه وقبل الأرض وقال لهم "يا أسيادي، اجعلوا عبيدكم في حل" وبالغ في استعطافهم واسترضائهم، حتى قالوا "ما رأينا قط فقيرا مثلك، تحمل منا هذا كله ولا تتغير".
في السياق نفسه، يروي الشعراني أن الرفاعي كان إذا عرف أن الصوفية يريدون أن يضربوا أحد إخوانهم لزلة وقعت منه قام باستعارة ثيابه ونام فيها، وضُرب بدلاً منه، حتى إذا ما انتهوا من فعلهم، قال لهم "ما كان إلا الخير، كسبتمونا الأجر والثواب".