أتباع الطريقة الصوفية في تركيا خلال إحدى المناسبات- أرشيف
أتباع الطريقة الصوفية في تركيا خلال إحدى المناسبات- أرشيف

مر التصوف كغيره من المذاهب الإسلامية بالعديد من المراحل التاريخية المفصلية التي شكلته كمذهب فكري مهم. وأحياناً، اتجه المتصوفة للعنف فدخلوا في منازعات مع المخالفين لهم، ولكن في الغالب مالوا للهدوء والتعايش السلمي، حتى أضحى التسامح وقبول الآخر علامة مميزة لهم عبر القرون.

نلقي الضوء في هذا المقال على بعض التجليات الصوفية للتسامح، التي ظهرت في أشعار وكتابات ومواقف كبار الصوفية في التاريخ الإسلامي.

أكراد عراقيون صوفيون في احتفال بالمولد النبوي في بلدة عقرة في محافظة دهوك، في 7 نوفمبر 2019.
الرفاعية، والنقشبندية، والكسنزانية.. تعرف على صوفية العراق!
عاش العديد من أعلام الصوفية في العراق عبر القرون، ومنهم كل من رابعة العدوية، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد البغدادي، والحسين بن منصور الحلاج الذ اُتهم بالكفر والزندقة. حالياً، تنتشر العديد من الطرق الصوفية في الأراضي العراقية. ما هي أهم تلك الطرق؟ ومن أبرز قادتها؟ وكيف يؤثر الحضور الصوفي في الواقع العراقي؟

 

رفض احتكار الحقيقة المطلقة

رفض الكثير من المتصوفة القول باحتكار الحقيقة المطلقة، فتسامحوا مع باقي الأفكار والآراء وقبلوا بوجودها، ولم ينشغلوا بالعمل على القضاء عليها.

في كتابه "التصوف: الثورة الروحية في الإسلام" عمل الباحث أبو العلا عفيفي على تفسير هذا التوجه، فذكر أن الصوفية فهموا "الحقيقة" بشكل مختلف عن فهم باقي المذاهب. فهب بالنسبة لهم "المعنى الباطن المستتر وراء الشريعة. بالتالي فإنهم لم يفهموا في أي وقتٍ من الأوقات من الدين حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها، بل كانوا دائماً ينحون في فهم الدين والشريعة نحواً يختلف قليلاً أو كثيراً عن نحو الفقهاء، وفي هذا تظهر ثورتهم عليهم".

هذا الفهم حدا بالمتصوفة لرفض الاعتماد على المعنى الحرفي للنص الديني، فأُتيحت لهم فرصة تأويل النص بما يتسق مع الروح المتسامحة التي لطالما ميزت مذهبهم وطريقتهم.

تُعدّ مسألة الجهاد واحدة من أهم المسائل التي تظهر اختلاف التأويل الصوفي للمفاهيم المرتبطة بالشريعة. على سبيل المثال يشرح محي الدين بن عربي -وهو من كبار شيوخ الصوفية في القرن السابع الهجري- مفهوم الجهاد في كتابه "الوصايا"، قائلا في نُصح مريديه "...وعليك بالجهاد الأكبر، وهو جهاد هواك، فإنك إذا جاهدت نفسك هذا الجهاد، خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء الذي إن قتلت فيه كنت من الشهداء الذين عند ربهم يرزقون...".

من هنا، يقرر عفيفي نظرة الصوفية للجهاد "فمجاهدة النفس في سبيل الله أعظم خطراً وأعلى قدراً في نظر الصوفية من الجهاد في نصرة دين الله".

انفتاح الصوفية على باقي الأفكار لم يبق رهيناً بالتراث والتاريخ فحسب، بل بقيت تلك الصفة قائمة بين جموع المتصوفة حتى الآن. يقول الباحث المصري عمار علي حسن في كتابه "الصوفية والسياسة في مصر" إن الأغلبية الغالبة من الصوفية لديها استعداد لسماع الرأي الآخر، حتى ولو كان انتقاداً لاذعاً يمس جوهر الطريقة الصوفية ذاته.

وذكر الباحث الفرنسي الجنسية المسلم الديانة، إريك يونس جوفروا، في كتابه "المستقبل للإسلام الروحاني" أن التصوف بما فيه من انفتاح على كافة الأفكار الموجودة، يمكن أن يكون البديل الحقيقي لجميع تيارات الإسلام السياسي التي تقوم على ركائز التعصب والكراهية ورفض الآخر.

 

الاعتراف بجميع الأديان

انفتاح الصوفية على الأفكار المخالفة لهم، قادهم لقبول كافة الأديان والمذاهب التي تعايشوا مع معتنقيها في سلام وأمان. أورد الصوفي الكبير أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري في كتابه "فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة" الحديث الشهير المنسوب للنبي "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"، لكن بصيغة مختلفة، إذ قال "ستفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة".

وفي الكتاب نفسه، فتح الغزالي "باب الخلاص" أمام معتنقي الأديان الأخرى عندما قال إن "أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والفرس ولم تبلغهم الدعوة...".

قبول الآخر والانفتاح على المخالف الديني ظهر كذلك في العديد من القصائد الشعرية الصوفية التي ذاعت على الألسن على مرّ الزمان، من أشهرها قول ابن عربي:

"لقد صار قلبي قابلاً كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ * وألواح توراة، ومصحف قرآنِ

أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ * ركائبه، فالحب ديني وإيماني"

في القرن السابع الهجري، تأصلت هذه الروح في نفوس جموع الصوفية من خلال دروس جلال الدين الرومي في مدينة قونية بالأناضول. في كتابه الشهير "المثنوي" حكى الرومي لتلاميذه قصة الفيل والعميان، وهي قصة مقتبسة من التراث البوذي، تحكي عن مجموعة من العميان أحاطوا بفيل كبير الحجم كل واحد منهم أمسك بجزء منه، وبعدها أقسم كل منهم أنه كان بجوار شيء مختلف بناءً على تجربته الخاصة بالجزء الذي كان قريباً منه.

من خلال تلك القصة الطريفة، علم الرومي تلاميذه أنه لا سبيل للإحاطة بكامل الحقيقة وأن هناك سُبلا متعددة للوصول لها. في هذا المعنى قال الرومي جملته الشهيرة "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"، كما قال في موضع آخر من كتابه "اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف".

في دراسته "التصوف الإسلامي ومشروعية التسامح جلال الدين الرومي نموذجاً"، يذكر الباحث شويني علي أن طريقة الرومي في التسامح مع باقي الأديان أتت أكلها في إشاعة السلام والطمأنينة بين أتباع الأديان المختلفة، إذ روي أنه لمّا خرجت جنازة جلال الدين الرومي ازدحم عليها أهل بلده، وشيعها حتى النصارى واليهود وهم يتلون الإنجيل والتوراة، وبلغ ذلك حاكم البلد قونية، فقال لرهبانهم "ما لكم وجنازة عالم مسلم فأجابوه: به عرفنا حقيقة الأنبياء السابقين، وفيه رأينا سيرة الأولياء الكاملين".

من بين النساء، الزاهدة فاطمة بنت ابن المثنى من قرطبة- صورة تعبيرية لجامع وكاتدرائية قرطبة في إسبانيا
"سيدة الزمان وخليفة الله".. المرأة في حياة وفِكر ابن عربي
يخبر عنها ابن عربي بقوله، إنه التقاها وهو شاب في العشرينات لا يزال يتلمس خطاه الأولى على طريق التصوف. وذكر في كتاب "الفتوحات المكية": "خدمتُ أنا بنفسي امرأة من المحبات العارفات بإشبيلية يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي. خدمتها سنين وهي تزيد في وقت خدمتي إياها على خمس وتسعين سنة، وكنت أستحي أن أنظر إلى وجهها وهي في هذا السن من حمرة خديها وحسن نعمتها وجمالها تحسبها بنت أربع عشرة سنة من نعمتها ولطافتها...".

 

العفو والصفح

ظهر تسامح الصوفية أيضاً في ميلهم للعفو والصفح عن أعدائهم، ووضح ذلك الملمح في سيّر العديد من كبار المذهب. يذكر علي بن أنجب الساعي البغدادي في كتابه "أخبار الحلاج" أن الصوفي الكبير الحسين بن منصور الحلاج لمّا قُبض عليه واُقتيد للقتل دعا الله وقال "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك. فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليتُ بما ابتليت".

كذلك ظهر ملمح التسامح مع الأعداء والمبغضين في سيرة الصوفي أحمد بن علي الرفاعي، الذي تُنسب له الطريقة الرفاعية المنتشرة في العراق وسوريا ومصر. يسجل عبد الوهاب الشعراني في كتابه "الطبقات الكبرى"، العديد من القصص التي تعبر عن ذلك الاتجاه، من ذلك أنه قد "لقيته مرة جماعة من الفقراء فسبوه وقالوا له يا أعور يا دجال يا من يستحل المحرمات، يا من يبدل القرآن يا ملحد يا كلب"، فلم يزد الرفاعي عن كونه قد عاملهم بكل لين ورفق وتواضع، وكشف لهم عن رأسه وقبل الأرض وقال لهم "يا أسيادي، اجعلوا عبيدكم في حل" وبالغ في استعطافهم واسترضائهم، حتى قالوا "ما رأينا قط فقيرا مثلك، تحمل منا هذا كله ولا تتغير".

في السياق نفسه، يروي الشعراني أن الرفاعي كان إذا عرف أن الصوفية يريدون أن يضربوا أحد إخوانهم لزلة وقعت منه قام باستعارة ثيابه ونام فيها، وضُرب بدلاً منه، حتى إذا ما انتهوا من فعلهم، قال لهم "ما كان إلا الخير، كسبتمونا الأجر والثواب".

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".