"إني إذا أُهدي إليك تحيّتي... أهزُّ بك الجيل العقوق المعاصرا"، بهذا البيت اختتم الشاعر العراقي الشهير محمد الجواهري قصيدة خصصها لمدح صديقه الشاعر معروف الرصافي، الذي تمر ذكرى وفاته في 16 مارس المقبل.
الرصافي أديب غزير الإنتاج تجاوزت أشعاره تسعة آلاف بيت، حسبما أحصاها منجد بهجت في دراسته "ثلاثية الفقر والمرأة والطفولة كما يصوّرها معروف الرصافي".
هذا الرقم كان مرشحاً للزيادة لولا ما عُرف عن الرصافي بكثرة نسيانه وعدم عنايته بتوثيق مُنجزاته الأدبية حتى أنه صرّح لأصدقائه أنه كان يكتب القصائد ثم ينساها ولا يذكر منها إلا بيتاً أو اثنين، أيضاً تعرض بيته لحريق أضاع أشعاراً مكونة من 600 بيت ألّفها في مناسبات مختلفة، كما ذكر محمود العبطة في بحثه "آثار الرصافي".
يقول المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير (Régis Blachère) في دراسته "الشعر العربي في العراق وبغداد حتى معروف الرصافي"، إن "شعره يستلهم الشكل والمادة من معانٍ إنسانية خالدة، فمشاهد البؤس والألم تهزّه وتوحي إليه بأشعار تتمازج فيها رقة الإحساس بوضوح الرؤية".
وأضاف أن هذه الأبيات خلّفت تأثيراً كبيراً على الشعراء الذين عاشوا ما بين الحربين، ولولاه لحُرمت الحركة الشعرية في بغداد من الكثير من التطور.
ابن "الرصافة" وبغداد
وُلد في بغداد عام 1875، لكنه نشأ في الرصافة حيث تعلّم في الكُتّاب بحسب نظام التعليم الأهلي القائم حينها على التلقين، بعدها انتقل إلى المدرسة الرشيدية، إحدى معالم نظام التعليم الجديد الذي تبنته الدولة.
وبعد بعد أربع سنوات قضاها الرصافي داخلها لم يستطع اجتياز امتحان السنة الرابعة فتركها وعاد إلى نظام التعليم الأهلي، وبات من طلاب العلامة محمود شكري الألوسي الذي فقّهه في علوم اللغة العربية والنحو والمنطق طيلة 10 سنوات.
خلال هذه الفترة كانت البلاد تحت سيطرة العثمانيين فنظم عدة قصائد تدعو للثورة وتُندد بالظّلم العثماني، قال في إحداها "وهبنا أمة هلكت ضياعاً... تولّى أمرها عبدالحميد".
في 1908 أجبر زعماء جمعية "الاتحاد والترقي" السلطان العثماني عبدالحميد على العمل بالدستور، ثم أسّست الجمعية فروعاً لها في عواصم الولايات العربية، كانت إحداها في بغداد، فأصدرت جريدة رسمية باللغتين العربية والتركية كان الرصافي أحد محرريها والمدافعين عن أفكار الجمعية، في هذه الأوقات سجّل موقفه الحاد من الخلافة بقصيدته "الأشرار".
بحسب دراسة "معروف الرصافي والاستقلال العربي" فإن الشاعر العراقي تعرّض للسجن لفترة وجيزة بسبب تأييده الشديد لجمعية "الاتحاد والترقي".
رحل إلى الأستانة حيث عمل محرراً بجريدة "في سبيل الرشاد" ومعلماً للغة العربية في المدرسة السلطانية التابعة لوزارة المعارف، بعدها اختاره طلعت باشا وزير الداخلية ليكون معلمه الخاص في اللغة العربية ثم عيّنه نائباً في مجلس المبعوثان عن إمارة المنتفق سنة 1912.
بعد الحرب العالمية الأولى انتقل الرصافي إلى دمشق ثم إلى القدس التي عُين فيها أستاذاً للأدب العربي في دار المعلمين، عاد بعدها إلى بغداد وعمل في الترجمة ثم أصدر جريدة "الأمل" سنة 1923، ولاحقاً عُيّن مفتشاً في وزارة المعارف ومدرساً للعربية وآدابها في "دار المعلمين"، وفي عام 1928 ابتعد عن المناصب الحكومية.
انتُخب الرصافي عضواً في مجلس النواب العراقي لمدة ثمانية أعوام، وحينما قامت "ثورة الكيلاني" عام 1941 كان من أشد المتحمسين لها فنظم أناشيدها، إلا أن فشلها كان له وقعاً كبيراً عليه، فعاش منزوياً بعد ذلك، واعتزل الناس داخل بيته في الأعظمية ببغداد.
مناهضة الاستعمار
شهد شِعر الرصافي انشغاله الكبير بالسياسة؛ فخلال العهد العثماني أظهر معارضةً كبيرة للخليفة عبدالحميد، فكانت أشهر قصائده "تنبيه النيام" و"رقية الصريح" و"إيقاظ الرقود".
وحينما تعرّض العراق للاستعمار الغربي عارَض الرصافي هذا الاحتلال وكشف عن تفضيله الحُكم التركي -مهما كانت مساوئه- عن الحُكم الإنجليزي.
أظهر الرصافي معارضةً شعرية حادة للإنجليز، وفي ذلك قال الأديب العراقي هلال ناجي "لا يوجد في تاريخ الشعر العربي ولا في تاريخ العراق الحديث شاعر ناهَض الاستعمار وجعل من شعره سوطاً يلهب به ظهور المستعمرين كالرصافي"، كما وثّق محمد زين الحق في بحثه "المقاومة ضد الاستعمار في شعر الرصافي".
فور سقوط بغداد بين أيدي البريطانيين كتب الرصافي قصيدته "نواح دجلة"، وقال فيها "كيف يغمضون على إغاثة وادٍ... فعليه من فخر عثمان تاج"، بعدها ألّف قصيدة "الحق والقوة" التي انتقد فيها استمرار سيطرة الاستعمار على مٌقدرات بلاده قائلاً "قد سمعنا من ساعة الغربي تدّعي... فهم منعوا رق الأسير".
سيطر الإنجليز على العراق في 1917، بعدها بثلاث سنوات شهدت البلاد ثورة عارمة عُرفت بثورة العشرين، أعقبها تأسيس مملكة هاشمية في العراق ترأسها الملك فيصل بن الحسين الهاشمي.
لم ترق هذه الخطوة للرصافي بسبب اعتراضه على شخص الملك الجديد، فسبق وأن هاجَم والده الحسين في قصيدة قال فيها "حتى بدت مخزيات اللؤم مشركة... من الحجاز حسيناً ثالثاً بهما"، أما فيصل نفسه فقد وصفه بأنه "خدين الإنجليز"، كما سخر من الاحتفاء بقدومه في العراق قائلاً "خرج الناس يهرعون احتفاءً بقدوم الأمير غير الأمير".
بعد قيام المملكة العراقية كتب قصيدة "بين الانتداب والاستقلال"، التي جاء فيها (سل الإنجليزي الذي لم يزل له... أأنت وزير أم عميد وزارة". وفي قصيدة أخرى هي "الوزارة المذنبة" أظهر الرصافي رفضاً كاملاً لهذا النظام الحاكم حتى أنه دعا في نهايتها للثورة عليه وإسقاطه.
في 1923 سيتراجع الرصافي عن هذا الموقف المعارض بعدما بعث للملك فيصل رسالة بلغة أدبية رفيعة يلتمس فيها العفو عنه، قال في جزءٍ منها "عاملوني بالصفح عمّا مضى تدوني أحد الساعين بين يدي جلالتكم بكل صدق وإخلاص"، ثم أنشد بحقه "بدا وجه العروبة في حلوك... غداة مضى الحسين أبو الملوك".
نصير المرأة
أظهر الرصافي اهتماماً مبكراً بتحرير المرأة من حبسها داخل المنزل وكان جريئاً في طرح أفكار مغايرة للسائد في مجتمعات الشرق حينها، ففي إحدى قصائده قال "حجبناهن عن طلب المعالي... فعِشن بجهلهن مهتكات"، واشتكى في مواضع أخرى في قصائده العادات والتقاليد التي تحرم المرأة من ممارسة حقوقها فقال "ذلك إنا لا تزال نساؤنا... تعيشُ بجهلٍ وانفصالٍ عن الجمع".
خلال تجربته الشعرية الطويلة ألّف الرصافي عدة قصائد أسهب بها في الحديث عن أوضاع المرأة مثل قصيدة "المرأة المسلمة" و"المرأة في الشرق" و"نساؤنا" و"إلى الحجابيين" و"التربية والأمهات"، تلك القصيدة وصفها أحد زملائه بأنها "لا تزال تشعُّ بنورها القوي في نفوس الفتيات العربيات، ولا نظنُّ فتاة عربية دخلت المدرسة ولم تحفظ هذه القصيدة".
بجانب الشعر ألّف الرصافي دراسة باللغة التركية بعنوان "هل يُمكن المساواة بين المرأة والرجل؟" ألحقها بترجمة لمقالة كتبها الفيلسوف العربي شبلي شميل عن نفس الموضوع.
ميراثٌ ضخم ونهاية مؤسفة
بحسب ما أورد محمود العبطة في بحثه"آثار الرصافي"، فإن الرصافي خلّف بعد وفاته 17 مؤلفاً أغلبها كانت دواوين جمعت أشعاره وبعض دروسه في علوم الأدب واللغة، تضمّنت أيضاً كتابه "الشخصية المحمدية" الذي قدّم فيه رؤية علمية تحليلية للرسول محمد، استبعد فيها الأحاديث الضعيفة التي تنطوي على المبالغات، وهي خطورة أثارت جدلاً كبيراً حينها حتى أن البعض اتهمه بالكُفر بسببها.
رغم مسيرته البارزة فإن الإخفاقات السياسية التي عاشها في أواخر حياته بعد فشل ثورة الكيلاني أكسبت شعره سمتاً حزيناً، فقال عن نفسه "إنما أنا خامل مجهول الاسم والشخصية والجنسية، وإني بريء من كل جنسية"، خلال هذه الفترة وضع كتابه "رسائل التعليقات" عام 1944.
وبحسب ما ذكره دكتور داود سلوم في بحثه "الرصافي (1868- 1945)"، فإن فشل
ثورة الكيلاني" قضى على أحلام الرصافي بالعودة للأضواء من جديد فعاش فقيراً منعزلاً في منزل متواضع، بحسب رواية للجواهري الذي زار الرصافي في أيامه الأخيرة، حيث قال: "في تلك الغرفة الجرداء التي لا أنساها أبداً احترتُ أين أجلس إذ ليس فيها كرسي أو خشبة أو حتى حجر للجلوس، لقد انقضى (عصر الرصافي) في هذه الغرفة".