في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، صورة تجمع الملك عبد العزيز وعبد اللطيف المنديل- تويتبر
في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، صورة تجمع الملك عبد العزيز وعبد اللطيف المنديل- تويتبر

تاجر عراقي نال ثقة مؤسّس المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن سعود، حتى إنه كان مفاوضه الرئيس في مباحثاته الدبلوماسية الهامة مع قوى المنطقة، هو عبد اللطيف المنديل.

لعب المنديل دوراً كبيراً في مرحلة تأسيس المملكة، وتكريماً له أطلقت السعودية اسمه  على أحد شوارعها.

في كتابه "ملوك العرب" اعتبر أمين الريحاني أن المنديل أخلص لآل سعود مثلما أخلص لوطنه العراق.

وقال عبد الرحمن الشبيلي في كتابه "أعلام بلا إعلام"، إن الأصول الأولى لعائلة المنديل تنحدر من بلدة جلاجل التي تقع شمال الرياض، وفي 1837 نزح إبراهيم المنديل والد عبد اللطيف إلى الزبير (تقع داخل البصرة) ليشتغل بالتجارة ما بين البصرة وبغداد إلى جانب مدن في الهند، فحقّق مكانة اجتماعية كبيرة مُنح بموجبها لقب "باشا" من الوالي العثماني يوسف شقيق.

وذكر عبد الرزاق العلي في كتابه "إمارة الزبير بين هجرتين" أن عبد اللطيف كان جزءاً من بعثة دراسة أوفدت إلى إسطنبول درس أعضاؤها العلوم الحربية والقانون، ثم عاد بعدها إلى العراق.

امتلكت عائلة المنديل علاقة وطيدة وقديمة بآل سعود ترجع إلى فترة وجودهم بالسعودية عندما حكم جدهم الأكبر سويّد مدينة جلاجل خلال عهد الدولة السعودية الثانية.

بموجب هذه العلاقة عمل عبد الوهاب المنديل وكيلاً للإمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز، وعقب وفاته ورث شقيقه عبد اللطيف مهمته وبات الوكيل الرسمي للسعوديين في البصرة، وتحديداً عبد العزيز الذي ورث بدوره منصب أبيه.

تدليلاً على متانة العلاقة بين ابن سعود وابن المنديل، أورد أمين الريحاني في كتابه "تاريخ نجد الحديث" أنه في 1910 تعرّض عبد العزيز لأزمة شديدة بعدما نجح أعداؤه من آل الرشيد في تحقيق انتصارات ضد حلفائه، في وقتٍ شحّت الأموال بشدة معه، عندها اضطر لمراسلة المنديل طالباً منه ألفي ليرة يدبّر بها أمره ويعيد بناء صفوفه.

مقاتلون يمنيون في خمسينيات القرن الماضي. (تعبيرية)
جمال جميل.. الضابط العراقي الذي قاد ثورة في اليمن
ورغم سقوط انقلاب جميل فإن بعض تلاميذه استمروا في محاولات التغيير ودخلوا السجون وبعضهم شارك في بناء النظام الجمهوري الذي قام على أنقاض الحُكم الإمامي، منهم محمد علي الأكوع الذي شارك في حركة 1955 وعقب فشلها هرب إلى عدن ثم عاد إلى اليمن خلال العهد الجمهوري ليعيّن وزيراً للداخلية.

ضابط الاتصال مع القوى الأجنبية

بحسب كتاب "موسوعة تاريخ الخليج العربي" لمحمود شاكر، اضطرت الدولة العثمانية بعد اشتعال حرب البلقان في 1913 إلى سحب أعداد كبيرة من قواتها في الجزيرة لتواجه هجوم البلغاريين على أدرنة، وهي الفرصة التي استغلّها عبد العزيز آل سعود لشنِّ هجومٍ على الأحساء.

لعب عبد اللطيف المنديل دور الوسيط بين ابن سعود وجمال باشا والي بغداد لتسليم الأحساء دون قتال، إلا أن جهود الوساطة فشلت بسبب تشدد القائد العثماني في مطالبه حتى أنه هدّد بغزو نجد.

نجح ابن سعود في تنفيذ خطته واستولى على الأحساء وطرد الحامية العثمانية منها بعدما نقلهم بالسفن إلى البحرين، بعدها بعام عُقد مؤتمر في الصبيحة بين ابن سعود وممثلين عن الدولة العثمانية لعب المنديل خلاله دوراً كبيراً في رأب الصدع بين الطرفين حتى انتهى المؤتمر باعتراف العثمانيين بسُلطان آل سعود على نجد.

في العام نفسه، رصدت بريطانيا إرسال ابن سعود 20 ألف روبية هدية لطالب النقيب والي البصرة من أجل كسب ودّه وتقوية موقفه أمام العثمانيين، كما جاء في البرقية التي أرسلها الميجر نوكس ممثل بريطانيا في الكويت إلى وزارة الخارجية البريطانية، وورد نصّها في كتاب "الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية" لمجدة فتحي صفوة.

بعدما بدأ عبد العزيز في وضع أُسس دولته الحديثة كلّف المنديل بإدارة أول ميناء عرفه الخليج العربي، هو ميناء العقير، وتحمّل الأخير مسؤولية ترتيب أوضاعه وإدارة شؤون جماركه.

قال حافظ وهبة في كتابه "جزيرة العرب في القرن العشرين": "طيلة الحرب العالمية الأولى نظّم عبد اللطيف جمارك النجديين فرفع قيمتها من 5 آلاف جنيه إلى 20 ألفاً".

بخلاف هذه المهام لعب المنديل لسنوات طويلة دور ضابط الاتصال الرئيس بين ابن سعود وبيرسي كوكس ممثل بريطانيا في الخليج، لتبادل الآراء في قضايا المنطقة.

في كتابه "المدينة المنورة والحصار الأخير" أورد حاكم المطيري جانباً من هذه المراسلات؛ منها أنه في ديسمبر 1914 وصف ابن مسعود لكوكس أن المنديل وأسرته "جديرون بالاحترام" فردَّ عيه الدبلوماسي الإنجليزي بأنه سيُظهر "رعايته واهتمامه بأصدقاء السعوديين في البصرة مثل ابن المنديل".

بعدها بعامين نقل المنديل إلى كوكس بأن رجال آل سعود أنزلوا هزيمة بابن الرشيد في إحدى المنازلات المستمرة بينهما، ثم طالب بعدها ابن سعود بالمزيد من الدعم الإنجليزي من الأسلحة والذخيرة لإعانته في الإجهاز على عدوه.

عام 1922، عُقد اجتماعٍ آخر بالغ الأهمية لتعيين الحدود بين سلطنة نجد -لم تكن قد تحوّلت إلى السعودية بعد- والكويت والعراق، جمع ابن سعود وكوكس ووفدين مصاحبين لهما، كان لافتاً أن يمثّل العراق صبيح نشأت وزير الأشغال والمواصلات أما المنديل فقد خاض هذا المؤتمر ممثلاً عن نجد، وفقاً لما ذكره خالد السعدون في كتابه "العلاقات بين نجد والكويت".

قال السعدون إن الاجتماع عكس فجوة كبيرة في مطالب الطرفين؛ فعندما طالَب ابن سعود بأن تمتدَّ حدود دولته الوليدة حتى نهر الفرات ردّ عليه صبيح بأن بغداد لن تقبل حدوداً لا يفصلها عن الفرات إلا 200 ميل على الأقل، هنا علّق كوكس قائلاً إن المفاوضات لو استمرت بهذه الطريقة فلن تنتهي قبل سنة.

وحينما جاء أوان ترسيم الحدود مع الكويت دافع المنديل عن مصالح نجد بشراسة بعدما رفض وجود منطقة حدودية بين نجد والكويت بسبب احتمالية وجود نفط فيها.

 

نشاط على الساحة العراقية

انشغال المنديل بدعم ابن سعود لم يمنعه من العمل أيضاً داخل العراق فنشط في ولاية البصرة وكان أحد أبرز رجالاتها خلال العهدين العثماني والإنجليزي.

بعد خضوع العراق للانتداب البريطاني أصبح المنديل عضواً في مجلس الإشراف من 1914 وحتى 1919. وعلى وقع "ثورة العشرين" استبدلت بريطانيا مندوبها السير أرنولد ولسون بالسير بيرسي كوكس لإدارة العراق بشكلٍ مختلف يلعب فيه أهل البلاد دوراً أكبر في حُكم أنفسهم.

رعَى كوكس تشكيل أول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب وعُيّن فيها عبد اللطيف المنديل وزيراً للتجارة.

بحسب كتاب "أعلام الفكر الإسلامي في البصرة" لعبد اللطيف الشنقيطي، فإن المنديل قاد وفدًا لمقابلة السير كوكس في 1921 وطالبه بفصل البصرة عن العراق ومنحها استقلالها السياسي.

وجاء في كتاب "سقوط عبد الكريم قاسم" للعميد خليل إبراهيم، أن عدداً من أعيان العراق تصدّوا لهذا الطلب وشجّعوا المندوب السامي البريطاني على إهماله، إلا أن ذلك لم يمنع المنديل من تكرار عرض الفكرة على كوكس في العام التالي ليرفضها الأخير مجدداً.

حينما أُعلنت الملكية في العراق تعرّض المنديل لاختبار صعب بعدما خضع العراق لحُكم الهاشميين الذين يكنّون عداءً كبيراً للسعوديين، وسريعاً وقع الصدام بين الملك فيصل الأول والمنديل.

في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، كشف الدكتور علي الوردي جانباً من تفاصيل هذه الأزمة التي وقعت عام 1922، حينما طلب الملك زيادة الميزانية المخصصة للدفاع عن العراق للتصدي لهجمات أتباع ابن سعود المتتالية على حدود الدولة، فرفض عددٌ من الوزراء منهم المنديل؛ بحجة أن الدفاع عن الدولة مسؤولية الحكومة البريطانية لا الحكومة العراقية بناء على الاتفاقية الموقّعة بين الطرفين.

 أثار موقف الوزراء المعارضين لتقوية الجيش ضجة بالعراق؛ انتقده الملك والصحف المحلية التي شنّت حملة شعواء ضد ابن سعود ووصفته بأنه "لينين نجد". في هذه الأجواء اضطر المنديل للاستقالة لصلته الوثيقة بابن سعود.

بعد عامين من هذه الأزمة، بنى المنديل لنفسه قصراً جميلاً عُرف بِاسم "بيت الباشا" اعتبره البغداديون تحفة فنية بسبب كثرة زخارفه ومتانة بنيانه قضى بها ما تبقى من حياته.

ووفقاً لما ذكره الشنقيطي، فقد أفضى المنديل في بداية الثلاثينيات إلى رجل الدين محمد الأمين الشنقيطي برغبته في رعاية إنشاء مدرسة أهلية للبنات، ودعمه الشنقيطي في هذا الشأن.

إلا أن رفض فريقٍ من المجتمع العراقي لفكرة تعليم النساء هيّجت بعضهم فعارضوها بشدة إلى حدِّ الاعتداء على الشنقيطي ضرباً فاضطر المنديل لتأجيل تنفيذ المشروع.

على إثر خلاف المنديل مع الملك فيصل، اعتزل الحياة العامة وانشغل بإدارة أعماله التجارية وحقق نجاحاً متنامياً، فصنفته جريدة "الناس" البصرية عام 1939 في قائمة "كبار الأملاك" في البصرة التي تضم كبار أعيان الناحية، كما أورد عبد الرزاق العلي في كتابه "إمارة الزبير بين هجرتين".

بعدها بعام داهم المرض المنديل وتوفي بسببه داخل قصره المنيف، وحينها رثاه الشاعر الشهير معروف الرصافي قائلاً: "عبد اللطيف بفضله جعل الورى.. أسرى مكارم أسرة المنديل".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

عازف في فرقة مغربية تقليدية خلال الاحتفال بذكرى المولد النبوي في مدينة سلا (غرب).
كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".