خلافاً لما هو شائع، فإن دعوة الشيخ حسن الصباح لم تنتشر فقط في بلاد فارس وإنما حققت انتشاراً مماثلاً في بلاد الشام؛ تلك المنطقة التي عاشت اضطرابات كبيرة بعدما تنازع حُكمها السلاجقة والفاطميون والصليبيون.
لم يغادر الصباح الشام إلا بعدما بثَّ فيها عددًا من أكفأ دعاته للتبشير بمذهبه، منهم الحكيم أسعد الذي استطاع استقطاب رضوان بن تتش حاكم حلب. لاحقاً، سيأمر رضوان بتنفيذ أول عملية اغتيال إسماعيلية بالشام وهي قتل حسين بن ملاعب صاحب حمص، لتكون بداية إعلان وجود الحشاشين بالشام.
بعدها، نفّذ الحشاشون جريمتهم التالية وهي قتل مودود بن التونتكين صاحب الموصل الذي حضر إلى الشام لقيادة حلفٍ ضد الصليبيين، حيث خاف الحشاشون من أثر هذه الخطوة عليهم فقتلوه طعناً أثناء الصلاة في المسجد.
بحسب دراسة "الاتجاهات السياسية والفكرية عند الحشاشين وأثرها على بلاد المشرق وبلاد الشام" لظافر قدوري، فإن صاحب حلب الإسماعيلي سمح لأعدادٍ ضخمة من الحشاشين بالقدوم من فارس إلى الشام حتى "تضاعف عددهم وبرزت قوتهم"، وتأسياً بخُطى الصباح فإنهم شرعوا في تملّك عددٍ من الحصون والسكن فيها.
بمرور الوقت، ازداد وجود الطائفة الإسماعيلية في الشام ترسخاً بفضل جهود قادتها الذين توالوا على رئاسة قلاعها مثل بهرام بن موسى وخلفه إسماعيل حتى ترأسهم سنان البصري، وهو عراقي لعب دوراً فارقاً في قيادة الحشاشين لأفضل فترة عاشوها. وبسببه صارت الفرقة مادة خصبة لمرويّات التاريخ الإسلامي والأوروبي أيضاً.
"الشيخ العراقي"
وُلد سنان بن سلمان في البصرة عام 1133، ومنها سافر إلى قلعة آلموت التي كان يحكمها كيا بزرك أميد خليفة حسن الصباح. اجتهد في دراسة المعارف الإسماعيلية حتى أثار اهتمام حاكم آلموت، الذي ألحقه بالدروس بصحبة ولديه.
عاد سنان إلى العراق حيث أثبت كفاءته كداعية، ونشر مذهبه بشكلٍ أوسع من ذي قبل في بلاد الرافدين، ومنها ذهب إلى الشام التي عانت فيها الدعوة الإسماعيلية من وضعٍ صعب بسبب الخلافات التي عصفت بين قادة الدعوة.
متخفياً في زي درويش تسلل سنان إلى الشام وراح يتنقل في مراكز تجمعات الطائفة الإسماعيلية بها وأدهش علماءها بإمكانياته الكبيرة حتى احتلّ مكانة مميزة بينهم ومنحوه لقب "الشيخ العراقي".
اشتهر سنان ببراعته في علوم الفقه والفلسفة والكيمياء، فقيل عنه إنه كان يستعين ببعض حيلها لإبهار عقول أتباعه ودفعهم للإيمان به حتى الموت.
قبل أيام من وفاته، استدعاه أبو محمد المينقي حاكم قلعة الكهف وقائد الإسماعيلية بالشام، وأخطره باختياره له ليخلفه على عرشه. في هذه الأثناء كان الكيا بزرك حاكم آلموت قد توفي وخلفه ولده -صديق سنان- الذي قدّم للأخير دعماً سياسياً ومعنوياً هاماً مكّنه من ترسيخ مكانته ككبيرٍ للحشاشين في الشام.
اتخذ سنان لنفسه مقراً جديداً في قلعة "مصياف" المحاطة بالصخور والمستنقعات من كل ناحية، ما جعلها موضعاً حصيناً ومثالياً لقيادة الدعوة. بعدها بذل جهوداً كبيرة لتحصين ما بحوزته من قلاع وإضافة المزيد منها.
ونجح سنان أيضاً في إنهاء الخلافات بين دعاة الحركة واهتم بإعادة بناء قوته العسكرية عبر تدشين جهاز استخبارات قوي وإعادة تدريب جماعته على عمليات الاغتيال التي توقفت بسبب الانشقاقات السابق ذكرها.
في غضون فترة قليلة أعاد سنان التماسك إلى الدعوة الإسماعيلية وزادت مكانته في عيون أتباعه، ما دفع الرحالة ابن جبير للحديث عنه قائلاً "أتباعه يبذلون الأنفس دونه بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى".
يقول قدوري: "بهذه الإجراءات احتل سنان بين أتباعه مكان المؤسِّس موازياً بذلك مكانة الحسن الصباح في بلاد المشرق".
في كتابه "الحشيشية: الاغتيال الطقوسي عند الإسماعيليلة النزارية"، استعرض المؤرخ البريطاني برنارد لويس بعض روايات الرحالة الأوروبيين الذين عاصروا ظاهرة الحشاشين الشوام ولفتت شخصية الشيخ سنان أنظارهم.
بحسب الكتاب فإن الراهب الإغريقي يوانس فوقاس الذي زار الشام عام 1185، تحدّث عن "قوم يُدعون (الحشيشية) وهم من الأمة المسلمة لكنهم يعبدون الله وفقاً لهرطقة خاصة بهم"، وحينما تحدّث عن قائدهم قال "المُقدَّم عليهم يُسمّى (شيخ الجبل)، بناءً على أوامره يقتلون حكام البلدان الكبيرة بالسيف".
في العام نفسه كتب عنهم وليم رئيس أساقفة صور في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" قائلاً: "تعيش قبيلة من الناس في منطقة صور في فنيقية وفي أبرشية طرطوس تمتلك 10 حصون مع القرى الملحقة بها يبلغ تعدادهم قرابة 70 ألف فرد أو أكثر".
وحينما تطرّق وليم إلى زعيم هؤلاء القوم اكتفى بأنهم يطلقون عليه لقب "الشيخ"، وأن "خضوعهم وطاعتهم له مطلقتان حيث لا يعدّون أي شيء صعباً في سبيل ذلك" وفق تعبيره.
من الحرب إلى الشراكة مع صلاح الدين
قاد سنان جماعته في ظِل أوضاع بالغة الاضطراب عصفت بالمنطقة التي تنازع عليها الصليبيون وصلاح الدين ذي القوة المتصاعدة في مصر، كان على قائد الحشاشين أن يتعامل مع هاتين القوتين بكل حكمة حتى لا يعاني الصراع بينهما.
في البداية كنَّ سنان مشاعر الكراهية تجاه صلاح الدين بعدما أسقط الخلافة الفاطمية وأعاد مصر للبيت السُني ولمُلك العباسيين مُجدداً، الأمر الذي جعله يعتبر أن صلاح الدين أخلَّ بالتوازن في المنطقة وسيكون تأثيره مدمرًا على حركته.
أملاً في إنهاء الحُكم الأيوبي لمصر وإعادة الخلافة الفاطمية إليها بدأ صلاح الدين في مساعٍ حميمة لبناء تحالف مع الصليبيين ضد سُلطان مصر منذ 1173، وكان قد أعرب لأحد ملوكهم استعداده لـ"اعتناق المسيحية".
أقام سنان علاقة جيدة مع عموري الأول ملك القدس فأرسل له مندوباً يسأله رفع الجزية التي فرضها فرسان الداوية المسيحيين، عن قلاعه ووافق الأخير، وحين قتل الداوية مبعوث الحشيشية خلال رحلة عودته سافر الملك بنفسه إلى قلعتهم وقبض على القاتل وأعدمه.
على الجانب الآخر تبنى صلاح الدين موقفاً شديد المعارضة للحشاشين. ففي رسالة منه إلى الخليفة العباسي، اعتبرهم "عائقًا" يمنعه عن إعادة بيت المقدس لحُكم المسلمين.
كما بعث صلاح الدين برسالة مليئة بالتهديد إلى سنان قال فيها "سِر بالوقوف إلى بابنا وإلا لأسيرن إليك أهدم قلاعك وأخرب بلادك"، فردَّ عليه سنان بخطابٍ وصف فيه هذه التهديدات بـ"الآمال الكاذبة والأحلام غير الصائبة" ووصف صلاح الدين نفسه بـ"الباحث عن حتفه بظلفه".
تعاظمت مخاوف سنان حينما دخل صلاح الدين بجيوشه الشام وبدأ في مهاجمة مدنها، فأطلق أتباعه نحو سُلطان مصر؛ إذ تنكروا في زي جنود وتسللوا لمعسكره ونفّذوا محاولتي اغتيال بحق صلاح الدين الأيوبي، نجا منهما.
رغم ذلك، ظل رعب الاغتيال يلاحق صلاح الدين الأيوبي، فاحتجب عن الناس وعاش في بيت من الخشب ولم يعد يبرز إلى الناس ولم يعد يقابل إلا من يثق بهم، بحسب بعض الروايات التاريخية.
في عام 1176 قرّر صلاح الدين وضع حدٍّ لقوة الحشاشين فجرّد حملة عسكرية ناحية قلعة مصياف وضرب حولها حصاراً انتهى بالصلح بين الطرفين.
على إثر هذه الواقعة، تحسّنت العلاقات بين القائدين وتوقف صلاح الدين عن مهاجمة قلاع الإسماعيليين. وتحدثت روايات عن تنفيذ الحشاشين عمليات اغتيال لصالح سُلطان مصر مثلما جرى مع بهاء الدين بن نيسان الذي انتزع منه صلاح الدين مدينة آمد، فخطّط لتأليب الناس ضد مصر، فقتله الحشاشون.
وهو ما تكرّر مع الماركيز كونراد صاحب صور، الذي عجز صلاح الدين عن إسقاط مدينته رغم حصاره لها عدة مرات، فأمر سنان رجلين من أتباعه بالتسلل داخل منزله وقتله.
وزعمت الروايات أن رأس كونراد أُرسل إلى سُلطان مصر فأحسن مكافأة الحشاشين عليها بـ10 آلاف دينار ذهبي.
انعكس أثر تحسُّن العلاقة بين صلاح الدين والحشاشين خلال مفاوضاته على صُلح الرملة مع ريتشارد ملك إنجلترا حين أصرّ سُلطان مصر أن تشمل الهدنة الأقاليم الإسماعيلية أيضاً.
يقول لويس "كان اغتيال كونراد آخر نجاحات سنان، ففي عام 1193 تقريباً توفي شيخ الجبل المروع وخلفه شخص من أصول فارسية اسمه نصر"، وفي نفس العام تقريباً توفي صلاح الدين أيضاً.