رسم تخيلي لحسن الصباح مؤسس طائفة الحشاشين الإسماعيلية النزارية / مصدر الصورة: شاترستوك
رسم تخيلي لحسن الصباح مؤسس طائفة الحشاشين الإسماعيلية النزارية / مصدر الصورة: شاترستوك

خلافاً لما هو شائع، فإن دعوة الشيخ حسن الصباح لم تنتشر فقط في بلاد فارس وإنما حققت انتشاراً مماثلاً في بلاد الشام؛ تلك المنطقة التي عاشت اضطرابات كبيرة بعدما تنازع حُكمها السلاجقة والفاطميون والصليبيون.

لم يغادر الصباح الشام إلا بعدما بثَّ فيها عددًا من أكفأ دعاته للتبشير بمذهبه، منهم الحكيم أسعد الذي استطاع استقطاب رضوان بن تتش حاكم حلب. لاحقاً، سيأمر رضوان بتنفيذ أول عملية اغتيال إسماعيلية بالشام وهي قتل حسين بن ملاعب صاحب حمص، لتكون بداية إعلان وجود الحشاشين بالشام.

بعدها، نفّذ الحشاشون جريمتهم التالية وهي قتل مودود بن التونتكين صاحب الموصل الذي حضر إلى الشام لقيادة حلفٍ ضد الصليبيين، حيث خاف الحشاشون من أثر هذه الخطوة عليهم فقتلوه طعناً أثناء الصلاة في المسجد.

بحسب دراسة "الاتجاهات السياسية والفكرية عند الحشاشين وأثرها على بلاد المشرق وبلاد الشام" لظافر قدوري، فإن صاحب حلب الإسماعيلي سمح لأعدادٍ ضخمة من الحشاشين بالقدوم من فارس إلى الشام حتى "تضاعف عددهم وبرزت قوتهم"، وتأسياً بخُطى الصباح فإنهم شرعوا في تملّك عددٍ من الحصون والسكن فيها.

بمرور الوقت، ازداد وجود الطائفة الإسماعيلية في الشام ترسخاً بفضل جهود قادتها الذين توالوا على رئاسة قلاعها مثل بهرام بن موسى وخلفه إسماعيل حتى ترأسهم سنان البصري، وهو عراقي لعب دوراً فارقاً في قيادة الحشاشين لأفضل فترة عاشوها. وبسببه صارت الفرقة مادة خصبة لمرويّات التاريخ الإسلامي والأوروبي أيضاً.

 

"الشيخ العراقي"

 

وُلد سنان بن سلمان في البصرة عام 1133، ومنها سافر إلى قلعة آلموت التي كان يحكمها كيا بزرك أميد خليفة حسن الصباح. اجتهد في دراسة المعارف الإسماعيلية حتى أثار اهتمام حاكم آلموت، الذي ألحقه بالدروس بصحبة ولديه.

عاد سنان إلى العراق حيث أثبت كفاءته كداعية، ونشر مذهبه بشكلٍ أوسع من ذي قبل في بلاد الرافدين، ومنها ذهب إلى الشام التي عانت فيها الدعوة الإسماعيلية من وضعٍ صعب بسبب الخلافات التي عصفت بين قادة الدعوة.

متخفياً في زي درويش تسلل سنان إلى الشام وراح يتنقل في مراكز تجمعات الطائفة الإسماعيلية بها وأدهش علماءها بإمكانياته الكبيرة حتى احتلّ مكانة مميزة بينهم ومنحوه لقب "الشيخ العراقي".

اشتهر سنان ببراعته في علوم الفقه والفلسفة والكيمياء، فقيل عنه إنه كان يستعين ببعض حيلها لإبهار عقول أتباعه ودفعهم للإيمان به حتى الموت.

قبل أيام من وفاته، استدعاه أبو محمد المينقي حاكم قلعة الكهف وقائد الإسماعيلية بالشام، وأخطره باختياره له ليخلفه على عرشه. في هذه الأثناء كان الكيا بزرك حاكم آلموت قد توفي وخلفه ولده -صديق سنان- الذي قدّم للأخير دعماً سياسياً ومعنوياً هاماً مكّنه من ترسيخ مكانته ككبيرٍ للحشاشين في الشام.

اتخذ سنان لنفسه مقراً جديداً في قلعة "مصياف" المحاطة بالصخور والمستنقعات من كل ناحية، ما جعلها موضعاً حصيناً ومثالياً لقيادة الدعوة. بعدها بذل جهوداً كبيرة لتحصين ما بحوزته من قلاع وإضافة المزيد منها.

ونجح سنان أيضاً في إنهاء الخلافات بين دعاة الحركة واهتم بإعادة بناء قوته العسكرية عبر تدشين جهاز استخبارات قوي وإعادة تدريب جماعته على عمليات الاغتيال التي توقفت بسبب الانشقاقات السابق ذكرها.

في غضون فترة قليلة أعاد سنان التماسك إلى الدعوة الإسماعيلية وزادت مكانته في عيون أتباعه، ما دفع الرحالة ابن جبير للحديث عنه قائلاً "أتباعه يبذلون الأنفس دونه بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى".

يقول قدوري: "بهذه الإجراءات احتل سنان بين أتباعه مكان المؤسِّس موازياً بذلك مكانة الحسن الصباح في بلاد المشرق".

في كتابه "الحشيشية: الاغتيال الطقوسي عند الإسماعيليلة النزارية"، استعرض المؤرخ البريطاني برنارد لويس بعض روايات الرحالة الأوروبيين الذين عاصروا ظاهرة الحشاشين الشوام ولفتت شخصية الشيخ سنان أنظارهم.

بحسب الكتاب فإن الراهب الإغريقي يوانس فوقاس الذي زار الشام عام 1185، تحدّث عن "قوم يُدعون (الحشيشية) وهم من الأمة المسلمة لكنهم يعبدون الله وفقاً لهرطقة خاصة بهم"، وحينما تحدّث عن قائدهم قال "المُقدَّم عليهم يُسمّى (شيخ الجبل)، بناءً على أوامره يقتلون حكام البلدان الكبيرة بالسيف".

في العام نفسه كتب عنهم وليم رئيس أساقفة صور في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" قائلاً: "تعيش قبيلة من الناس في منطقة صور في فنيقية وفي أبرشية طرطوس تمتلك 10 حصون مع القرى الملحقة بها يبلغ تعدادهم قرابة 70 ألف فرد  أو أكثر".

وحينما تطرّق وليم إلى زعيم هؤلاء القوم اكتفى بأنهم يطلقون عليه لقب "الشيخ"، وأن "خضوعهم وطاعتهم له مطلقتان حيث لا يعدّون أي شيء صعباً في سبيل ذلك" وفق تعبيره.

 

من الحرب إلى الشراكة مع صلاح الدين

قاد سنان جماعته في ظِل أوضاع بالغة الاضطراب عصفت بالمنطقة التي تنازع عليها الصليبيون وصلاح الدين ذي القوة المتصاعدة في مصر، كان على قائد الحشاشين أن يتعامل مع هاتين القوتين بكل حكمة حتى لا يعاني الصراع بينهما.

في البداية كنَّ سنان مشاعر الكراهية تجاه صلاح الدين بعدما أسقط الخلافة الفاطمية وأعاد مصر للبيت السُني ولمُلك العباسيين مُجدداً، الأمر الذي جعله يعتبر أن صلاح الدين أخلَّ بالتوازن في المنطقة وسيكون تأثيره مدمرًا على حركته.

أملاً في إنهاء الحُكم الأيوبي لمصر وإعادة الخلافة الفاطمية إليها بدأ صلاح الدين في مساعٍ حميمة لبناء تحالف مع الصليبيين ضد سُلطان مصر منذ 1173، وكان قد أعرب لأحد ملوكهم استعداده لـ"اعتناق المسيحية".

أقام سنان علاقة جيدة مع عموري الأول ملك القدس فأرسل له مندوباً يسأله رفع الجزية التي فرضها فرسان الداوية المسيحيين، عن قلاعه ووافق الأخير، وحين قتل الداوية مبعوث الحشيشية خلال رحلة عودته سافر الملك بنفسه إلى قلعتهم وقبض على القاتل وأعدمه.

على الجانب الآخر تبنى صلاح الدين موقفاً شديد المعارضة للحشاشين. ففي رسالة منه إلى الخليفة العباسي، اعتبرهم "عائقًا" يمنعه عن إعادة بيت المقدس لحُكم المسلمين.

كما بعث صلاح الدين برسالة مليئة بالتهديد إلى سنان قال فيها "سِر بالوقوف إلى بابنا وإلا لأسيرن إليك أهدم قلاعك وأخرب بلادك"، فردَّ عليه سنان بخطابٍ وصف فيه هذه التهديدات بـ"الآمال الكاذبة والأحلام غير الصائبة" ووصف صلاح الدين نفسه بـ"الباحث عن حتفه بظلفه".

تعاظمت مخاوف سنان حينما دخل صلاح الدين بجيوشه الشام وبدأ في مهاجمة مدنها، فأطلق أتباعه نحو سُلطان مصر؛ إذ تنكروا في زي جنود وتسللوا لمعسكره ونفّذوا محاولتي اغتيال بحق صلاح الدين الأيوبي، نجا منهما.

رغم ذلك، ظل رعب الاغتيال يلاحق صلاح الدين الأيوبي، فاحتجب عن الناس وعاش في بيت من الخشب ولم يعد يبرز إلى الناس ولم يعد يقابل إلا من يثق بهم، بحسب بعض الروايات التاريخية.

في عام 1176 قرّر صلاح الدين وضع حدٍّ لقوة الحشاشين فجرّد حملة عسكرية ناحية قلعة مصياف وضرب حولها حصاراً انتهى بالصلح بين الطرفين.

على إثر هذه الواقعة، تحسّنت العلاقات بين القائدين وتوقف صلاح الدين عن مهاجمة قلاع الإسماعيليين. وتحدثت روايات  عن تنفيذ الحشاشين عمليات اغتيال لصالح سُلطان مصر مثلما جرى مع بهاء الدين بن نيسان الذي انتزع منه صلاح الدين مدينة آمد، فخطّط لتأليب الناس ضد مصر، فقتله الحشاشون.

وهو ما تكرّر مع الماركيز كونراد صاحب صور، الذي عجز صلاح الدين عن إسقاط مدينته رغم حصاره لها عدة مرات، فأمر سنان رجلين من أتباعه بالتسلل داخل منزله وقتله.

وزعمت الروايات أن رأس كونراد أُرسل إلى سُلطان مصر فأحسن مكافأة الحشاشين عليها بـ10 آلاف دينار ذهبي.

انعكس أثر تحسُّن العلاقة بين صلاح الدين والحشاشين خلال مفاوضاته على صُلح الرملة مع ريتشارد ملك إنجلترا حين أصرّ سُلطان مصر أن تشمل الهدنة الأقاليم الإسماعيلية أيضاً.

يقول لويس "كان اغتيال كونراد آخر نجاحات سنان، ففي عام 1193 تقريباً توفي شيخ الجبل المروع وخلفه شخص من أصول فارسية اسمه نصر"، وفي نفس العام تقريباً توفي صلاح الدين أيضاً.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".