نساء كرديات سوريات يرتدين الزي التقليدي خلال الاحتفال بـ"يوم اللباس الكردي" في مدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا.
نساء كرديات سوريات يرتدين الزي التقليدي خلال الاحتفال بـ"يوم اللباس الكردي" في مدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا.

تعرف المجتمعات العربية تنوعاً عرقياً ودينياً فريداً من نوعه، إذ تعيش في المنطقة مجموعات متباينة من العرب والأكراد والتركمان والأمازيغ فضلاً عن طوائف متنوعة من الزرادشتيين والمندائيين والأيزيديين والمسيحيين واليهود الذين يعيشون بجانب المسلمين السنة والشيعة. تميزت تلك المجموعات بأزياء وملابس شعبية متوارثة على مر القرون، حتى دخلت في تشكيل هويتها الجمعية.

ما هي أهم الملابس والأزياء التقليدية المعروفة في المنطقة العربية؟ وكيف ارتبطت تلك الأزياء بالهوية والذاكرة؟

 

العراق والخليج

توجد العديد من الملابس التي ارتبطت ببعض المجموعات العرقية المعروفة في العراق. فعلى سبيل المثال يُعدّ العنصر الكردي أحد المكونات الرئيسة في التركيبة السكانية العراقية، ويتميز الأكراد ببعض الأزياء القومية التي يحرصون على ارتدائها في المناسبات الخاصة.

يمكن تقسيم الزي الذي يلبسه الرجل الكردي إلى نوعين: الأول ويطلق عليه "بشم وبركير" وهو منتشر بشكل واسع بين الكرد في كل من تركيا وسوريا وأجزاء من العراق، ويتألف من قطعتين من اللون ذاته، الجاكيت والسروال، ويكونان فضفاضين، ويُستعمل معهما قماش يُلف على الوسط ويُطلق عليه "شوتك" وغطاء للرأس يسمى "جمداني". تُصنع تلك الأزياء من صوف الخراف والماعز، بشكل عام. وتُلون بالأسود، والأبيض، والأزرق، والبني، والرمادي.

أما النوع الثاني فيُطلق عليه اسم "كورتك وشروال"، ويتكون هو الآخر من قطعتين: جاكيت وسروال، وحزام للوسط مع غطاء للرأس، وهو يستعمل الأقمشة المستعملة في صناعة الملابس الغربية.

 أما المرأة الكردية فيتكون زيها التقليدي من دشداشة طويلة، ذات كمين طويلين يرتبطان بذيلين مخروطيين طويلين أيضاً يسميان في اللغة الكردية بـ"فقيانة". وفي الغالب تخاط هذه الدشداشة من قماش شفاف ذي خيوط حريرية ناعمة الملمس ومطرزة بأنواع مختلفة من المنمنمات. تحت هذه الدشداشة ترتدي المرأة الكردية قميصاً داخلياً رقيقاً وحريرياً، لكنه ذو لون داكن وغير شفاف ليصبح بمثابة خلفية عاكسة للدشداشة الشفافة، أما الجزء العلوي من هذا الزي فإنه مؤلف من سترة قصيرة جداً بلا أكمام.

تعرف بلاد الرافدين أيضاً مجموعة من الأزياء التقليدية التي ارتبطت ببعض المناطق والأقاليم. في كتابه "الملابس الشعبية في العراق"، يسلط الباحث وليد الجادر الضوء على ذلك النوع من الملابس.

يصف الجادر ملابس البدو وسكان الأرياف بالبسيطة. وتتألف في العادة من السروال والدشداشة، ويُرتدى فوقهما العباءة المنسوجة من الوبر، والتي تكون -في أغلب الأحيان- باللونين الأبيض والأسود، بالإضافة إلى الكوفية والعقال المصنوع من الوبر، أما نساء البدو فيرتدين العباءة الصوفية، وفي وسطها حزام صوفي خشن عريض، ويزين نهايته بأهداب أو شراشيب.

يختلف الحال في مناطق البصرة وجنوبي العراق وبعض أنحاء الخليج. ترتدي النساء في تلك الأنحاء "الزي الهاشمي"، وهو عبارة عن ثوب من قماش رقيق جداً وواسع الأكمام والأطراف، يُلون عادة باللون الأسود. ويُحلى بأشكال مرسومة من خيوط الذهب. ويُرتدى في مناسبات الأعياد والاحتفالات، كذلك ترتدي المرأة البصرية العباءة، وكانت تُعرف قديماً بالجزية أو المبرد، وهي تغطي الجسم من الكتف، وتصاحبها "الشيلة" وهي غطاء للشعر ترتديه النساء تحت العباءة.

أيضاً، تُعدّ "الصاية" من الأزياء الشعبية العراقية المشهورة، وتتكون الصاية من ثوب طويل مفتوح من الأمام، وغالباً يكون دون أكمام وهو عبارة عن صدرين وظهر. يلتف صدر الثوب الأيمن على الصدر الأيسر.

في دراسته "الأكسية والألبسة الشعبية في مدينة سامراء خلال القرن العشرين"، يوضح الباحث بكر عبد المجيد محمد بعض الأزياء الفلكلورية التي عُرفت في مناطق وسط العراق، ومنها "الدميري"، وهو لباس خاص بكبار الرجال، يشبه السترة إلا ان ردنيه عريضتان، وفي نهاية كل ردن فتحة بمقدار خمسة عشر سنتمترا. وهو على نوعين: المطرز والعادي بلا تطريز. أما "الزخمة" فهو لباس يشبه السترة إلا إنه من غير أكمام، وفي مقدمته ستة أزرار تكون أشكالها حسب الطلب، فضلاً عن "السروال"، وهو من الملابس الشعبية، ويشبه البنطلون، والعامة من سكان سامراء يسمونه "شروال".

 

مصر

تذكر الباحثة علا الطوخي إسماعيل في دراستها "الأزياء فى الثقافة الشعبية" أن هناك علاقة وطيدة بين الأزياء الشعبية المصرية من جهة، والعادات والتقاليد المتوارثة التي عرفتها حضارة وادي النيل من جهة أخرى.

من هنا، فإن الأزياء الشعبية المصرية صارت أحد العلامات الفارقة في الفلكلور المصري المتوارث على مر القرون.

بشكل عام، تُعرف "الجلابية" باعتبارها الزي المصري التقليدي للرجال في المناطق الريفية في الدلتا والصعيد، وهي عبارة عن رداء طويل وفضفاض له أكمام طويلة، وهي دون ياقة ولها فتحة رقبة مستديرة، وبشق طويل من الأمام بدون أزرار، وتلبس فوقها الشيلان البيضاء والملونة.

في السياق نفسه، يتكون الزي التقليدي للمرأة المصرية من 3 طبقات يسمونه بـ "التزييرة". عرفت الطبقة الأولى باسم "السبلة"، وهي جلابية واسعة وأكمامها طويلة تلبسها المرأة فوق ملابس المنزل كي تغطيها تماماً، والطبقة الثانية قطعة قماش تغطي بها رأسها وأكتافها اسمها "الحبرة". أما القطعة الثالثة فهي "اليشمك"، وكانت تستخدم في إخفاء الوجه، ويغلب الظن أن المصريين استعاروا اليشمك من العثمانيين.

ومن الملاحظات المهمة أن أشكال الأزياء الشعبية المصرية اختلفت من منطقة لأخرى. ففي سيناء تأثرت الملابس بروح البداوة والترحال، ولذلك اعتمد الرجل في ملابسه على الأزياء العربية التقليدية مثل الغترة، والعقال، والبشت، والعباءة، بينما اعتادت المرأة ارتداء ثوب أسود فضفاض طويل محاط بحزام مطرز يحكم منطقة الوسط ويعلو رأسها وشاح أسود أيضاً يغطي جسدها بالكامل مع وجود برقع على الوجه مزين بالحلي.

في محافظة مطروح تأثرت الأزياء الشعبية بنمط الملابس المنتشر في شرقي ليبيا. في هذا السياق، اعتاد الرجال على ارتداء "المَلِف" ويتكون من قطعتين من الصوف المطرز يدوياً، وهو عبارة عن "سدرية"، وهي صدرية بلا أكمام وبلا أزرار وسروال واسع يرتدى تحت الثوب. يختلف الوضع في الإسكندرية والمدن الساحلية في شمالي مصر.

وكان من الشائع أن يرتدي الرجال ملابس الصيادين المكونة من السروال الأسود الفضفاض والقميص الأبيض، فيما اعتادت النساء  ارتداء الجلباب والملاية اللف التي لا تزال تُباع حتى الآن في أسواق بعض الأحياء الشعبية في الإسكندرية.

 

سوريا

يلقي الباحث عبد العزيز حميد صالح الضوء على الملابس التقليدية السورية في كتابه "الأزياء عند العرب عبر العصور المتعاقبة"، فيقول: "يمكن القول إن الأزياء الشعبية التراثية التقليدية في سوريا كانت خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة منوعة أكثر مما كانت عليه في أي إقليم عربي آخر، فكانت لكل مدينة كبيرة في هذه البلاد ملابسها المتميزة ببعض الخصائص التي قلما نجدها في المدن السورية الأخرى".

بحسب صالح، تتألف الملابس التقليدية السورية الرجالية من القميص والصدرية والسروال فضلاً عن مجموعة مختلفة من أغطية الرأس التي تتباين أشكالها من مدينة إلى أخرى، وفي العادة، يُلون القميص باللون الأبيض، ويكون قصيراً، وبكمين طويلين يصلان إلى مفرق الرسغ. أما السروال فيكون فضفاضاً في الأعلى وضيقاً في الأسفل، فيما تتألف الصدرية من رداء قصير مفتوح من جهته الأمامية، يغطي الصدر والظهر فقط، وغالباً ما تُصنع الصدرية من قماش قطني أو من الحرير في موسم الصيف، ومن الجوخ الأسود أو الأزرق في موسم الشتاء بالنسبة للأغنياء.

من جهة أخرى، تتنوع الملابس الفلكلورية النسائية في سوريا وتتباين من منطقة لأخرى من حيث الألوان،وطرق الزخرفة والتطريز.

من الملاحظات المهمة أيضاً، أن الأزياء النسائية عبرت عن بعض الأوضاع الاجتماعية والحضارية، فعلى سبيل المثال، اعتادت المرأة المتزوجة في دمشق  ارتداء غطاء للرأس يعرف بـ "البخنق" وهو عبارة عن قطعة قماش سوداء رقيقة تغطي بها المرأة عنقها وصدرها، في حين اعتادت النساء الريفيات ارتداء غطاء رأس مختلف يعرف بـ "البرقع".

وفي السنوات السابقة، حظيت الملابس التقليدية بسوريا بقدر وافر من الاهتمام. في يوليو 2008، أُقيم معرض للأزياء الشعبية في إدلب.

وفي يوليو 2019، تم تنظيم المهرجان السنوي الأول للأزياء الفلكلورية في الحسكة شمال شرقي سوريا، عُرضت فيه نماذج متباينة من الأزياء التقليدية التي تنتمي للكرد والعرب والسريان والشركس.

 

الدول المغاربية

تعرف الدول العربية المغاربية تنوعاً كبيراً في أزيائها التقليدية. ففي تونس، توجد "الجبة"، وهي عبارة عن سترة طويلة دون أكمام يتم ارتداؤها فوق قميص وسترة وبنطال فضفاض. و"البرنس" ويشبه العباءة الطويلة والفضفاضة ولكنه دون أكمام.

و"الملية أو الحِرام" وهو الزي الشعبي الذي ترتديه العرائس في الجنوب الشرقي التونسي، و"السفساري" وهو عباءة بيضاء اللون، بشكل عام، تحتفي تونس بأزيائها الفلكلورية، وتخصص الدولة السادس عشر من مارس فى كل عام لإحياء اليوم الوطني للملابس التقليدية.

على الجانب الآخر، تشترك كل من الجزائر والمغرب في العديد من الأزياء التقليدية المعروفة. منها على سبيل المثال، "الكندورة"، وهو لباس فضفاض وقصير، بأكمام قصيرة، يرتديه الرجال في فصل الصيف عادة، و"القفطان" الذي تعود أصوله إلى القرن الثاني عشر ميلادي. ويتميز بالتطريز اليدوي كالرباطي نسبة إلى مدينة الرباط أو الفاسي نسبة إلى فاس في المغرب، كما أنه ينتشر في الجزائر أيضا.

هذا، فضلاً عن "الملحفة" التي ترتديها النساء في المنطقة الصحراوية في البلدين، وهي عبارة عن ثوب واحد طويل. وتلتف حول الجسد بعد أن يتم ربطها عند الكتفين، وتتباين أشكالها من حيث الألوان والزركشة.

بشكل عام، ارتبطت العديد من الأزياء التقليدية المغاربية بإثارة الجدل. ومنها لباس "الحايك" الذي يرجع إلى أصول أندلسية قديمة، وينتشر في مناطق مختلفة من المغرب والجزائر.

في الحقبة الاستعمارية، ارتبط الحايك برمزية وطنية، وقد  كانت النساء تخبئن تحته الأسلحة لتوصيلها للمقاومين. وفي مارس 2023، تسبب الحايك في إثارة الجدل بين المغرب والجزائر على مواقع التواصل الاجتماعي، ووقع ذلك عندما تجولت مجموعة من النساء المغربيات في مدينة طنجة وهن يرتدين الحايك للاحتفال بعيد المرأة، وأثار ذلك غضب الجزائريين، الذين رأوا أن "وسائل الإعلام المغربية نسبت ثوب الحايك للمغرب"، وهو برأيهم "ليس منها".

في السياق نفسه، تسبب "القفطان" في إثارة مشكلة إعلامية كبيرة بين المغرب والجزائر، وذلك بعدما صرح وزير الثقافة الجزائري الأسبق، عز الدين ميهوبي، بأن الجزائر ستتقدم بملف لمنظمة اليونسكو لإدراج القفطان لباسا تقليديا جزائريا محضا، ما أثار غضب المغرب التي تعتبر أن لها أيضاً دورا في إخراج زي القفطان إلى العالمية.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".