بُني الجامع الأزهر في مصر سنة 362هـ/ 972م على يد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله. لم يمر وقت طويل على تأسيسه حتى أضحى جامعة دينية إسلامية مهمة، وهو بتلك الصفة، يُعدّ ثالث أقدم جامعة في العالم بعد جامعتي الزيتونة والقرويين.
حالياً، يحظى الأزهر بنفوذ قوي في شتى جنبات العالم الإسلامي، ويراه الكثيرون المرجعية الأهم في العالم السني.
كيف تحوّل الأزهر من التشيع إلى المذهب السني؟ وكيف رسخ أقدامه في مختلف القارات عبر السنين؟ وما هي أبرز التصريحات التي صدرت عن مشيخته في الفترة الأخيرة؟.
من التشيّع إلى المذهب السنيّ
في سنة 362 للهجرة، وصل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر، واتخذ من القاهرة عاصمة جديدة للدولة، ولم يمر وقت طويل، حتى أمر بتشييد جامع جديد في القاهرة، وأراد أن يكون هذا الجامع منبراً للدعوة الإسماعيلية الفاطمية.
عُرف هذا الجامع في بداية الأمر باسم "جامع القاهرة"، ثم تغير اسمه بعد فترة للجامع الأزهر، وذلك بحسب ما يذكر الباحث المصري، الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه "تاريخ مصر الإسلامية".
يرى البعض أن هذا الجامع عُرف بالأزهر نسبةً لقصور الزهراء التي بناها المعز لتكون مقراً لسكن الفاطميين في القاهرة، في ما يرجح آخرون أن التسمية ترجع للقب الزهراء، وهو اللقب الذي اشتهرت به السيدة فاطمة بنت النبي محمد في المصادر الشيعية.
يلقي الباحث المصري محمد عبد الله عنان في كتابه "تاريخ الجامع الأزهر في العصر الفاطمي" الضوء على تلك الفترة، فيقول: "لم يُنشأ –الأزهر- في الأصل ليكون جامعة أو معهداً للدرس، وليس ثمة في ظروف إنشائه ثم في ظروف حياته الأولى ما يدل على أنه أنشئ لمثل هذه الغاية، وإنما أنشئ ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية في حاضرتها الجديدة، ومنبراً لدعوتها الدينية، ورمزاً لسيادتها الروحية".
بعد فترة من إنشائه، تحول الأزهر إلى مدرسة وجامعة كبيرة، ودُرست فيه مختلف المعارف والعلوم الشيعية الإسماعيلية.
في هذا المعنى يقول الباحث المصري محمد عبد المنعم خفاجي، في كتابه "الأزهر في ألف عام": "فلابد أن يكون الأزهر قد أسهم في الحركة العقلية والعلمية في عصر المعز والعزيز بالله، وأن يكون أعلام الدين واللغة والأدب قد اتخذوا منه حلقة علمية منظمة".
في هذا السياق، ارتبط الأزهر بأسماء مجموعة من كبار علماء الشيعة الإسماعيلية، من أمثال القاضي النعمان، ابن حيون المغربي، وأبنائه، ويعقوب بن كلس، وداعي الدعاة الشيرازي، والرحالة ناصر خسرو، وصاحب قلعة ألموت الحسن بن الصباح الحميري.
تأثر الأزهر كثيراً بالمتغيرات السياسية التي وقعت على أرض مصر، وأُغلق بعد سقوط الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي في سنة 567هـ/ 1174م، وظل بعيداً عن المشهد حتى قيام الدولة المملوكية في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي.
في تلك الفترة، أُعيد افتتاح المسجد وتم صبغه بالصبغة السنية، ليتخذ مكانه واحدا من أهم الجامعات السنية المعروفة في الشرق الإسلامي.
وفي العصر العثماني، لم تتراجع مكانته، وبقي المؤسسة الدينية المنافسة لمشيخة الإسلام في إستنبول (إسطنبول)، وبعد سقوط الدولة العثمانية على يد الأتاتوركيين في سنة 1924م، أنفرد الأزهر بالمكانة العظمى، وصار المرجعية السنية الأكثر نفوذاً في العالم الإسلامي.
يظهر ذلك النفوذ من خلال ثلاثة أدلة رئيسية، وهي دوره في التعليم الديني المؤسسي المنتشر بين العديد من المسلمين حول العالم، وتأثيره في المراكز الإسلامية المختلفة، فضلاً عن المشاركة السياسية واسعة النطاق.
الأزهر والتعليم الديني
تذكر مرفت فؤاد عبد المعطي، -الباحثة بدار الوثائق القومية المصرية في دراستها "دور الأزهر في نشر الفكر الإسلامي الوسطي من واقع ملفات الخارجية المصرية"- أن الدولة المصرية أدركت دور الأزهر القادر على دعم علاقاتها الدبلوماسية الخارجية بعد ثورة 1952، لذا، عملت الدولة على الاستثمار في التعليم الأزهري، وساعدت في نشر هذا النوع من التعليم في مختلف دول العالم الإسلامي.
وفي هذا السياق، ألقى الباحث المصري صبري محمد حمد في دراسته "النفوذ الجغرافي العالمي لجامعة الأزهر" الضوء على دور جامعة الأزهر في استقطاب الطلبة المسلمين من شتى دول العالم. يذكر حمد أن الجامعة نجحت في استقطاب الطلبة من أكثر من 100 دولة في مختلف قارات العالم.
ويشرح تطور أعداد الدارسين فيذكر أن أعداد ونسب الوافدين من دول الأقليات المسلمة كانت قليلة خلال الستينيات والسبعينيات، وتقل عن 10% في معظم السنوات، وكانت أعلى بين دول قارة آسيا نظراً لارتفاع عدد السكان بها بالمقارنة بالدول الأفريقية.
ويوضح حمد أنه في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بدأت أعداد الطلبة الوافدين في التزايد بشكل متدرج، فوصلت نسبتها إلى ما يزيد على 10% من مجموع الطلبة، وبلغت متوسط الـ 15 % في منتصف الثمانينيات، وظلت تتأرجح بين 15% وأقل من 20% في السنوات الأخيرة، وكانت أعلى الأعداد من قارة آسيا (تايلاند والفلبين وسيرلانكا والصين).
في السنوات السابقة، وضح نفوذ الأزهر في منطقة جنوب شرق آسيا على وجه التحديد في العديد من المواقف المثيرة للجدل، فعلى سبيل المثال في مايو 2023، تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لرجل الدين المصري أسامة الأزهري مستشار الرئيس المصري للشؤون الدينية وأحد علماء الأزهر، مرفوعا على كرسي فوق جموع في إندونيسيا، الأمر الذي أثار تفاعلاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي، وبيّن المكانة العظيمة التي يتمتع بها الأزهر في تلك الأنحاء.
ولم يقتصر نفوذ الأزهر التعليمي على أسيا فحسب، بل امتد بأشكال مختلفة إلى قارة أوروبا أيضاً.
وفي سبتمبر 2021م، التقى شيخ الأزهر بسفير البوسنة في مصر، وقرر مضاعفة عدد المنح الدراسية مع تيسير الإجراءات لإلحاق الطلاب الراغبين والمؤهلين للدراسة فيه من البوسنة والهرسك.
من جهته، أعرب السفير البوسني عن شكره وتقديره لمؤسسة الأزهر، مؤكدا أن خريجيها يتبؤون مناصب قيادية في البوسنة ويتولون أمور الدعوة، الأمر الذي يعكس الحضور الأزهري المهم في منطقة البلقان وجنوبي أوروبا.
الأزهر والمراكز الإسلامية
نجح الأزهر في العقود الماضية في توطيد نفوذه بالعديد من دول العالم من خلال دعم وتأسيس المراكز الإسلامية.
تذكر مرفت فؤاد عبد المعطي في دراستها بعض الأمثلة الواضحة على ذلك، ومنها الشيخ محمد عليش، الذي أسهم في نشر الدعوة الإسلامية بدولة تشاد، وأنشأ المعهد العلمي في مدينة أبشة، وأدخل إدارته ومناهجه الدراسية تحت إشراف الأزهر، يالإضافة إلى الشيخ أحمد ماهر إسماعيل مفتي كلونيا بألمانيا، الذي درس في الأزهر لفترة طويلة قبل أن يعود إلى ألمانيا ليتم اختياره في منصب الرئيس الأعلى لقضاة المحاكم الشرعية والإفتاء هناك.
في كتابه "الأزهر ودوره السياسي والحضاري في أفريقيا" ذكر الباحث المصري شوقي الجمل أسماء مجموعة من المراكز الإسلامية التي دعمها الأزهر في الآونة الأخيرة داخل القارة الأفريقية، ومنها كل من المركز الثقافي العربي في سيراليون، ومركز الثقافة العربية في نيجيريا، والمركز الإسلامي في دار السلام بتنزانيا، والمركز الثقافي الإسلامي في ساحل العاج.
لم تكتف مشيخة الأزهر بتقديم الدعم فحسب، بل قامت بإنشاء مجموعة من المراكز التابعة لها بشكل كامل.
على سبيل المثال أسس الأزهر مركزين ثقافيين جديدين في آسيا، أحدهما في إندونيسيا والآخر في باكستان، وتتكون نواتهما من مجموعة من علماء الأزهر الذين يجيدون لغات متعددة، ويساعدهم في أعمالهم عدد كبير من الدعاة الإندونيسيين والباكستانيين.
من جهة أخرى، في يونيو 2015، دعم الأزهر نفوذه خارج المنطقة العربية من خلال افتتاح "مرصد الأزهر لمكافحة التطرف".
يعمل المرصد بـ 12 لغة أجنبية حية، منها الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية، واليونانية، والألمانية، والفارسية، والتركية، والأردية، وتتمثل مهمة المرصد في متابعة كل ما ينشر عن الإسلام والمسلمين على مواقع شبكة المعلومات الدولية وصفحات التواصل الاجتماعي.
كما يقدم المرصد دراسات دورية متخصصة في ظواهر التطرف والإسلاموفوبيا.
حظي المرصد باهتمام واسع النطاق من قِبل قطاعات كبيرة من المسلمين غير العرب، وتمكنوا من خلاله من التعرف على العديد من الفتاوى والآراء الفقهية والشرعية.
دور المشيخة في الأحداث السياسية
لعب الأزهر أدواراً سياسية مهمة في العقود الأخيرة، ففي خمسينيات القرن العشرين، وبالتزامن مع وصول الضباط الأحرار للحكم في مصر، قدم الأزهر دعمه للحركات الوطنية في الدول الأفريقية كالحركة السنوسية في ليبيا، والحركة المهدية في السودان، وحركة الشيخ عثمان بن فودي، وحركة الشيخ أحمد لوبو، وحركة الحاج عمر التكروري في غربي أفريقيا،
وفي سنة 2014، وبالتزامن مع سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر أعلنت أبو ظبي عن تشكيل تجمع تحت اسم "مجلس حكماء المسلمين"، واختير أحمد الطيب، شيخ الأزهر لرئاسته، وقد نُظر للتجمع وقتها باعتباره مؤسسة دينية منافسة "للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي يرأسه يوسف القرضاوي، ويقع مقره في العاصمة القطرية الدوحة، الأمر الذي بيَن التوجه السياسي الأزهري المعادي لأفكار جماعة الإخوان المسلمين، وتيارات الإسلام السياسي.
من جهة أخرى، عبّر الأزهر في السنوات الأخيرة عن رأيه في العديد من الأحداث السياسية التي تمسّ العالم الإسلامي.
وفي فبراير 2016م قال أحمد الطيب إن: "الحرب في سوريا ليست بين السنة والشيعة بل بين أمريكا وروسيا، وأن الشيعة والسنة إخوة ولم يعرف التاريخ أي خلافات بينهما".
وفي سبتمبر 2017م، شارك الأزهر في مؤتمر "طرق السلام" الذي عقد بمدينة مونستر بألمانيا، والتقى أحمد الطيب المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، وناقش الاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون في بورما.
وفي فبراير 2019، شارك الأزهر -ممثلاً بشيخه- في إصدار "وثيقة أبو ظبي التاريخية للأخوة الإنسانية"، والتي وقع عليها أيضا البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان. وقد اشتملت الوثيقة على مجموعة من المبادئ الإنسانية التي تهدف إلى نشر قيم الحوار والتسامح والتعايش المشترك.
وأخذت الوثيقة صيغة دولية بعد أن اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم توقيع الوثيقة يومًا دولياً للأخوة الإنسانية.
مؤخراً، عبّر شيخ الأزهر عن رأيه في الحرب الإسرائيلية على غزة، فقال منتقداً إن "ما يحدث في قطاع غزة ليس حرباً لكنها جريمة إبادة جماعية، كما دشن الأزهر حملة (أغيثوا غزة)، والتي قدمت المساعدات الغذائية والطبية للآلاف من المنكوبين الفلسطينيين عبر معبر رفح.