عاد الجدل حول تحويل كنيسة المخلّص في خورا التركية إلى مسجد للظهور إلى الواجهة بالتزامن مع زيارة رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى أنقرة ولقائه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
قبل أسبوع من الزيارة عبّر ميتسوتاكيس عن "استيائه الشديد"، قائلا "لا نقص في المساجد في المدينة، وهذه ليست طريقة للتعامل مع التراث الثقافي"، مذكّرا بأن إسطنبول "كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية والأرثوذكسية لأكثر من ألف عام".
واتخذت أنقرة قرار تحويل الكنيسة التي تحمل بعداً رمزياً كبيراً إلى مسجد في عام 2020، لكن القرار لم يكن قد نُفذ بعد، ورأى فيه ميتسوتاكيس "عملاً غير ضروري على الإطلاق" و"استفزازياً إلى حد ما" ليس فقط في ما يتعلق بالعلاقات اليونانية التركية، ولكن أيضاً بالنسبة للتراث العالمي و"احترام طابعه الخالد" وفق تعبيره.
تاريخياً تحولت الكثير من المساجد إلى كنائس والعكس بالعكس، خصوصاً في فترات الفتوحات الإسلامية، أو في مراحل الحملات الصليبية، حيث كان الغالب يفرض على المغلوب تغيير هوية دور العبادة. وبعض هذه الدور تنقّلت بين مراحل متعددة، كما هي الحال مثلاً مع المسجد الأموي في دمشق، الذي كان معبداً آرامياً، قبل أن يصير كنيسة القديس يوحنا المعمدان مع انتشار المسيحية في الشام، ويصير في ما بعد جامعاً على يد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
جامع قرطبة أيضاً، الذي يعتبر من أبرز صروح الحضارة الإسلامية في إسبانيا وبدأ بناؤه في الموجة الأولى لفتح المسلمين الأندلس، تحول لاحقاً إلى كاتدرائية، عندما عادت قرطبة للحكم المسيحي، في بدايات القرن الثالث عشر. وتتحدث الكثير من الروايات عن أن الجامع بني في الأصل على أنقاض كنيسة كانت موجودة في مكانه.
يستغرب المتخصص في الرسوم والتصاوير الإسلامية والمسيحية، الباحث محمود الزيباوي، سلوك أردوغان مع دور العبادة "في وقت يجب أن يكون العالم قد تخطى مسألة مصادرة دور العبادة وتحويلها من دين إلى آخر، وأن هناك اتفاقاً ضمنياً بين الجميع على التعامل مع المعابد التاريخية بحسب ما انتهت إليه في القرن الواحد والعشرين، والمحافظة على قيمتها التاريخية والأثرية كجزء من التراث العالمي".
يعطي زيباوي مثلاً عن ترميم الكثير من المعابد اليهودية في الدول العربية، رغم الصراع والعداوة مع إسرائيل، ورغم عدم وجود يهود في هذه الدول، لكن جرى الحفاظ على المعابد وترميمها وحراستها كآثار ومتاحف تاريخية يجب ألا يتم التفريط بها.
ولا تبدو هذه المشكلة مطروحة في أوروبا والولايات المتحدة على سبيل المثال، عند الحديث عن تحويل معلم ديني حديث من دين إلى آخر. فحين تغيب القيمة التراثية للمعلم، ويكون مملوكاً لجهة خاصة، لا مشكلة في بيعه وتغيير وظيفته، والتعامل معه كعقار ليس إلا.
وهناك الكثير من الجوامع في الولايات المتحدة كانت كنائس اشتراها مسلمون وحوّلوها إلى دور عبادة خاصة بهم، وقد يحدث أن تتحول دار عبادة بعد شرائها إلى معلم تجاري أو ترفيهي، ولا يمثّل هذا الأمر أي استهجان في المجتمعات التي تحدث فيها، طالما أن الأمر لا يشكل تعدياً على التراث الإنساني، ولا يُقرأ في سياق الحساسيات التاريخية للتاريخ الدموي بين الأديان.
وكانت رمزية هذا النوع من السلوك مع المعابد، بحسب زيباوي، ترتبط بتأكيد انتصار الغازي أو الفاتح الذي دخل مدينة معينة، فيسيطر على معابدها ويقوم بالتصرف بها. وفي كثير من حالات الفتح الإسلامي، كان الفاتح حينما يصادر كنيسة ويحولها إلى جامع، يدفع تعويضات للمسيحيين، على أساس أنهم أهل ذمة.
"أما في عالم اليوم فلم يعد هذا الأمر مقبولاً، ويجب ألا يكون مطروحاً للنقاش في القرن الواحد والعشرين"، يتابع زيباوي لـ"ارفع صوتك"، لافتاً إلى أن "تنظيم داعش لدى سيطرته على مدينة الموصل في العراق، حوّل بعض الكنائس إلى جوامع ورفع الأذان فيها كسلوك استفزازي يعود إلى القرون المظلمة، وإلى تصرّفات عفا عليها الزمن".
واليوم، تضررت الكنائس الأربع أو دمرت بعد أن احتل مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية المدينة من 2014-2017، ودنسوا العديد من المباني واستخدموها لإدارة
يتفق الباحث في الشأن السياسي وتاريخ الأفكار الأستاذ الجامعي وسام سعادة مع زيباوي في أن مصير دور العبادة تاريخيا كان بيد المنتصر.
ويفنّد في حديثه مع "ارفع صوتك" الخيارات التي كانت متاحة "فإما أن يهدم الغالب المعابد، أو يقرر ما إذا كان سيسمح للمهزوم بترك دور العبادة والتصرف بها ومنعه من بناء دور عبادة جديدة، أو يذهب إلى خيار ثالث، يقوم معه بمصادرة دور العبادة لاستبدالها بشيء آخر، فإما تستخدم على أنها مكان مدنّس ولم تعد مكاناً للمقدس، أو على العكس تماماً، يُصار إلى اعتبار أن المقدس في هذا المكان لا يزال مستمراً ولكن بحلة أخرى ودين آخر".
ويشرح سعادة أن الإسلام لم يتصرف بنمط واحد مع دور العبادة المسيحية واليهودية، في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات "فهناك ما هُدم وهناك ما أبقي عليه وسُمح لأتباع الديانتين المسيحية او اليهودية أن يمارسوها فيه، وهناك مناطق سمح المسلمون فيها ببناء دور عبادة جديدة للديانات الأخرى".
ويضيف "غالبا إذا لم تستسلم المنطقة التي يغزوها جيش المسلمين، يصار إلى التعامل معها بقسوة، بعد فتحها عنوة، ويقدم المسلمون على تحويل كنائسها إلى جوامع، وهذا ما حدث مع كنيسة آية صوفيا".
ويعتقد سعادة أن القسطنطينية "لو لم تستسلم عنوة، لما تم تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، والتعنّت في رفض التسليم هو الذي تسبب في تحويلها إلى مسجد".
أما مرحلة مصطفى كمال أتاتورك، فكانت مختلفة في التعامل مع دور العبادة. باني تركيا الحديثة، المعروف بعلمانيته وقوميته، حوّل آية صوفيا إلى متحف. وهذا لا يعني، كما يوضح سعادة، أن "منطق أتاتورك كان يعتبر أن المقدس تحول إلى مدنّس بنزع وظيفته منه، بل في استمرارية للمقدس. والمتاحف بالنسبة لأتاتورك تمثل معابد الدولة القومية الحديثة، فالقومية هي دين الحداثة وتمجيد ذاكرة الأمة يكون في المتاحف".
ويستذكر سعادة أحد الأمثلة على تحويل دور العبادة، وهو ما حدث مع هدم مسجد بابري في الهند عام 1992 من قبل آلاف الغاضبين الهندوس، حينها أجاز القضاء الهندي بناء معبد هندوسي للإله راما في مكانه.
يقول "هذا حدث بتشريع من قبل آليات مؤسسة قضائية هندية، بمعنى أن الهدم حدث من الناس الغاضبين، لكن تحوُّل المسجد إلى دار عبادة للإله راما اتخذ بعداً مؤسساتياً مع القرار القضائي".
وهذا الحدث الجلل لم يثر ضجة ولا استفز المسلمين في الشرق الأوسط، مع أنه طبع في ذاكرة جيل كبير في شبه القارة الهندية، ولا يستبعد سعادة أن يكون تدمير تماثيل بوذا في باميان في أفغانسان عام 2001 من قبل طالبان مرتبطاً ضمنياً بهدم مسجد بابري.